الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة42

محمود شقير

2021 / 11 / 8
الادب والفن


بعد هذا الغياب أعود، أجلس في مقهى الباسطي ذات أصيل. أدقق النظر فيما حولي، الطقس حار، والناس يجرون أقدامهم بتثاقل فوق بلاط الطريق. أرى أحد العاملين في المقهى، وأقدر أنني أعرفه، أحاول اعتصار ذاكرتي لعلها تسعفني بشيء، فلا تستجيب لي، وألاحظ أنه هو الآخر يحاول التعرف علي. بعد ذلك يقترب مني ويسألني:
- هل كنت مسجوناً في الدامون؟
فأتذكره على الفور: إنه سليمان، ابن صاحب المقهى الذي أجلس فيه.
غير أنه أصبح الآن كهلاً، وقد تغيرت ملامحه. نسترسل في تذكر أيام السجن، ثم ينصرف إلى خدمة الزبائن، وأنهمك أنا في تأمل المكان الذي غبت عنه زمناً ليس بالقليل.
يمتد طريق الواد هابطاً نحو المداخل العديدة التي تفضي إلى مسجديّ الصخرة والحرم. على بعد أمتار قليلة من هذا المقهى، أقام أحد كتبة الورش من زملاء أبي في شقة صغيرة. ذهب أبي لزيارته ذات مرة واصطحبني معه (قبل الذهاب إليه، اشترى لي أبي قماشاً من المخمل البني، ومضينا به إلى خياط في طريق الواد، لكي يخيطه لي بنطالاً. قال إنه سوف يسلمنا البنطال بعد أسبوع، ثم أخبره أبي أننا ذاهبان لتناول الغداء في بيت كاتب الورشة). صعدنا درجاً معتماً شديد الوعورة، وجدنا كاتب الورشة في شقته الصغيرة، يحتسي مشروباً ما من زجاجة مركونة على حافة الطاولة التي يتربع فوقها مذياع. كان يحتسي مشروبه الغامض ويستمع إلى أغنيات عذبة يبثها المذياع. ابتهجت وأنا أصغي إلى المذياع، فها هي ذي المدينة تعوضني عن مذياع جدي الذي لم يعد، بعد أن لحق به الخراب، سوى صندوق من خشب لايثير أي فضول. ثم توجست خيفة من المشروب الذي يحتسيه، وازددت عجباً حينما رأيته يقنع أبي بأن يحتسي كأساً منه. بدا شيء من التردد على أبي، ثم أقنعه كاتب الورشة بالقول إنه شراب خفيف، وإن له ميزة أساسية هي مساعدة المعدة على هضم الطعام. صب لأبي كأساً، وقال إنه أوصى صاحب الفرن المجاور أن يعد لنا صينية فيها لحم مشوي مع الخضار.
ابتدأ أبي يحتسي السائل الفوّار من كأسه، واستغربت كيف يقدم أبي على مثل هذا الأمر. كنت مسكوناً بالقصص المريعة عن الخمرة وشاربيها. استمعت إلى نسوة العائلة في ظهيرة أحد الأيام، وهن يتهامسن فيما بينهن، حول أحد الرجال المعروفين في قريتنا الذي عاد من المدينة وهو سكران، فلم يتمكن من الوصول إلى بيته، فارتمى غائباً عن الوعي على قارعة الطريق، ولم تتوقف المأساة عند هذا الحد، فقد مر عنه أناس من أبناء القرية، فلما اقتربوا منه لمساعدته على النهوض، وجدوا ملابسه ملطخة بالقيء، ورائحة كريهة تفوح منه.
خشيت أن يتعرض أبي لمكروه بسبب هذه الكأس، وازددت قلقاً حينما راح كاتب الورشة يشرح لأبي، كيف تكسرت أسنانه الأمامية وهو يتعثر على درج البيت، فأيقنت أنه كان سكراناً أثناء هبوطه الدرج فلم يتمالك نفسه من السقوط. ويبدو أن أبي لاحظ قلقي، فأخذ يطمئنني بالقول إن هذا المشروب ليس خمراً، ولا يرتكب شاربه ذنباً أو معصية. شعرت ببعض الطمأنينة، ولما لاحظت أن كاتب الورشة لم يفقد عقله بعد أن شرب عدة زجاجات مع الغداء الشهي الذي رحنا نلتهمه معاً، غضضت النظر عن الموضوع.
وفيما بعد عرفت أن الرجل النحيل كان يتحايل على بؤسه، باحتساء الصودا (المفاجأة التي أدخلت السرور إلى قلبي، تمثلت في مجيء الخياط إلى بيت كاتب الورشة ومعه بنطال المخمل. قال متباهياً وهو يفرد البنطال أمام عيوننا: وجدت نفسي متحمساً للعمل بعد الإجازة، بحيث استطعت الانتهاء منه في ساعتين. خلعت بنطالي القديم ولبست البنطال الجديد، ولم تكن فيه زيادة أو نقصان، وعدت مع أبي إلى البيت عصر ذلك اليوم وأنا أرتدي البنطال).
أعود إلى متابعة الخلق في السوق: ثمة قرويون قادمون من المسجد الأقصى بعد صلاة العصر، وها هم يغادرون المدينة عائدين إلى قراهم، وثمة نساء بملابسهن الشرعية يمشين الهوينى ومعهن فتيات صغيرات ببناطيل عصرية. يجلس بالقرب مني سياح أجانب وسائحات، وتأتي بين الحين والآخر سيارة من جهة درب الآلام، التي قطعها السيد المسيح وهو يحمل صليبه قبل ألفي عام، فتحدث ارتباكاً عابراً، ثم لا تلبث حركة المرور المنسابة الرخية أن تتواصل دون انقطاع.
يظهر جنديان وهما يضعان بندقيتيهما على كتفيهما، وفي أيديهما كيسان كبيران من النايلون، فيهما طعام محفوظ في أوعية من كرتون، يتهيآن لتوزيعه على جنود الحراسة المنتشرين في السوق، وبخاصة أمام البيت الذي استولى عليه شارون، ولا يبعد سوى عشرات الأمتار عن مقهى الباسطي، الذي أصبح اسمه الآن كافتيريا الباسطي، التي تبيع البيتزا والعصير إلى جانب القهوة والشاي. والجنديان لا يكتفيان بمهمة توزيع الطعام، إذ كلما لاحظا شاباً في مقتبل العمر من أبناء المدينة، يسير في السوق لشأن يخصه، استوقفاه، وطلبا منه أن يبرز بطاقة هويته.
كان مقهى الباسطي فيما مضى موقعاً مهماً لزوار مستشفى الهوسبيس، الذين يجلسون في فسحته المتاخمة للطريق في انتظار أن تفتح بوابة المستشفى، لاستقبال الزوار الذين جاءوا من القرى، ومن أحياء المدينة المختلفة، لعيادة ذويهم من المرضى. عاشت أختي أمينة آخر لحظات عمرها في هذا المستشفى، ولم تنفع محاولات الأطباء لإنقاذها من الموت، فخرجنا إلى مقهى الباسطي، ننتظر إتمام الاجراءات الروتينية قبل استلام جثتها، لنقلها إلى مثواها الأخير. أخيراً، جاءت السيارة التي سارت بها في درب الآلام، نحو باب الأسباط، ومن هناك إلى جبل المكبر.
لم يعد مبنى الهوسبيس يستخدم لاستقبال المرضى، لأنه تحول إلى فندق مخصص للسياح (تعود ملكيته لدولة النمسا التي شيدته مقراً لإقامة رعاياها في زمن سابق)، بعد أن لم يعد المستشفى قادراً على البقاء أمام منافسة عيادات التأمين الصحي الإسرائيلية.
هذا الطريق، طريق الواد، قطعته مرات كثيرة، وبالذات حينما كنت مدرساً في مدرسة دار الأيتام الإسلامية، التي تقع على بعد مئات الأمتار من هذا المقهى. كنا نهبط الطريق في اتجاه باب المغاربة، نصعد بضع درجات على اليمين، ثم نجتاز بوابة صغيرة، ونصعد درجاً آخر، فنجد أنفسنا وسط مجموعة من الأبنية القديمة التي تتشكل منها المدرسة.
على بعد أمتار من المقهى، تتربع كنيسة الأرمن الكاثوليك بحجارة حيطانها الهرمة، وبالشبابيك ذات الطلاء الأصفر الذي يعلوه الصدأ. يهبط نحو الحي الاستيطاني اليهودي في باب المغاربة، فوج من اليهود المتدينين، الذين يرتدون القبعات والمعاطف السوداء في عز الصيف، ويطيلون سوالفهم. يربكون أنوثة المدينة بضجيجهم، ويواصلون السير تحت حماية الجنود المنتشرين في كل مكان وأنا جالس في المقهى أتأمل الشبابيك التي تطل علي من هنا وهناك.
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق