الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تشرين... نهاية عصر التعفن

جواد كاظم الدايني

2021 / 11 / 9
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


تشرين....... نهاية عصر التعفن.
يدرس الفيلسوف الشهير ميشيل فوگو في كتابه (حكم الذات وحكم الآخرين)، مقالا مهماً وحيوياً من مقالات ونصوص الفيلسوف الألماني كانط، الذي يحاول فيه الإجابة عن السؤال الذي طرحه هو بنفسه " ما التنوير؟ ". يخلص كانط في نهاية إجابته الى ان الظلمات التي تعيشها البشرية كانت بسبب قصور الإنسان عن استخدام عقله إلا بتوجيه من الآخرين. وصار هذا السؤال هوية لعصر أوربي عُرف بعده بعصر التنوير والحداثة والتميز الفكري، فهو حمل الإنسان مسؤولية الاعتماد على عقله ودعاه لاستقلال ارادته وكسر قيود التبعية، والعمل بحرية الرأي التي فتحت باب الإبداع والابتكار وكسرت تابوهات الحياة والتاريخ التي قيدت القدرات العظيمة للعقل والفكر الانساني.
يذكر فوگو أيضا ان كانط كان قد وضع إجابة ثانية لهذا السؤال، لكن هذه المرة من خلال حدث مهم جدا سيشكل علامة فارقة في تاريخ أوربا، ليبشر بميلاد جديد للقارة الأوربية. هذا الحدث هو " الثورة الفرنسية "، وكأن كانط كان يجيب عن سؤال آخر وهو " ما الثورة؟ ". احاول هنا أن ابسط ما يقوله فوگو طبعا، لكن هذا لا يعني البتة ان اكون مستوعبا لكل ما يقوله هذا الرجل، لكنه في كتابه هذا، وعلى غير عادته، يتساهل مع قدراتنا على قراءة ما يطرحه، وبخاصة ان ناقدي فوگو يرجعون سبب صعوبة طروحاته في استخدامه لغة صعبة ومعقدة عصية على النقد، حتى عندما يعبر عن أمور قد تبدوا سهلة وواضحة، لكنه يأخذها بعبقريته لآفاق غريبة عن دارسيه وناقديه، فهو يستخدم على سبيل المثال، تاريخ المصحات العقلية والعيادة الطبية والجنون والسجون كمدخل لفهم جوانب من سيرورات التاريخ.
كما هو شان الفلسفة في البحث عن الكليات والأسباب التي من شأنها ان تعمل الان وغدا كما عملت في الماضي، بغض النظر عن شكل الحدث وظاهره، فأن عبارة " ان الثورة الفرنسية غيرت القارة الأوربية ونقلتها نقلة نوعية وكبيرة على طريق التطور والتقدم الحضاري" تبدوا عبارة انشائية يستخدمها مثقفون ومتعلمون على سبيل النجاة، لكن بالنسبة لكانط الذي يتحدث عنه فوگو هنا، فأن أوربا لم تعد حديثة في الصباح الذي تلا يوم انتهى فعل الثورة وهدات الأحداث وعاد الثائرون لحياتهم العادية، فالأمر ليس سحرا والثورة ليست رداء يوسف الذي أعاد الشباب لمتيمته زليخة، كما ترويه لنا المأثورات الدينية. لقد انتظرت أوربا فترة زمنية طويلة بعد الثورة، شهدت خلالها صراعات سياسية وتقلبات اجتماعية وفكرية ورافقها هدم للبنيات الأكثر صلابة في الدولة والمجتمع، حتى صارت الحداثة والتحضر جزءا من وجودها وعملها في الحياة اليومية والعادية للقارة العجوز.
ان ما يقوله كانط، بحسب فوگو، هو أنه ليس الثورة في حد ذاتها كحركة رفض واحتجاج، هي من تكون مسؤولة عن التقدم البشري للسير بأتجاه مستقبل افضل للانسانية، حيث تنعم فيه المجتمعات البشرية بوفرة جيدة من العدالة وضمان للحقوق الأساسية. في الغالب لا يقطف الثائرون ثمار ما قاموا به داخل الثورة، لذا يصبح تعيين نجاح او فشل تلك الثورة، أمرا لا طائل منه وبالتالي لا معنى لتبني اي من النتيجتين لأنهما لا يحملان اي علامة على التقدم. ان المسؤول عن هذا التقدم ليست الثورة بحد ذاتها بل " الطريقة التي تقوم بها الثورة وما تتركه من انطباعات، ليس عند من قاموا بها فحسب، بل ما تتركه عند أشخاص لم يشاركوا فيها، لكنهم كانوا يشاهدونها ويتابعوها، سواء كان ذلك من اجل الأفضل او الأسوء". التأثير الحقيقي للثورة هو ما تفعله برؤوس الذين لم يقوموا بها، وما تتركه هو " التعاطف الطموح حد الحماسة"، لأن الجميع يرغب بدستور سياسي عادل وعقد اجتماعي يحقق العدالة والحرية والسلام، ويضمن ان لا تعود الناس لخيار الثورة مرة ثانية، وعندها سوف يتعرف الجميع على أول عتبة للتنوير. لا أحد يتمنى ان تتكرر الثورة بالتأكيد بالنسبة لمن قاموا بها، أو من اثروا مراقبتها، لأن فعل الثورة فعل مربك وفوضوي في شكله الخارجي، لأن عندها يصبح كل شيئ على المحك وبخاصة مسألة الاستقرار والامان، ومع ذلك هي تأخذ شرعيتها بمجرد حدوثها، وليس من الأخلاق ان يلام الثائر، فالثورة ليست محببة لاحد، الا عندما تصل الأمور لدرجة ان تتساوى فكرة الموت والحياة لدى الناس.
ما كتب وما تم تدوينه عن تاريخ العراق السياسي والاجتماعي، يقول انه يزخر " بالثورات " وهي كتابات سياسية متحزبة، فهناك تقييمات آخرى تصفها بالمؤامرات والانقلابات السياسية التي تحدث بشكل عنيف من خلال اللجوء لاستخدام قوة السلاح وادوات القمع والترهيب. تنجح " الثورة " بمجرد إزاحة الخصم عن كرسي السلطة او تفشل فتكون الاعدامات والمشانق بأنتظار الانقلابيين.
مهما تكن احكامنا وتقيمنا لها، فأن اغلب الثورات او الانقلابات، حدثت بسبب وعي الطبقة السياسية الوليدة وفشلها في استيعاب مجمل التغييرات والتحولات الاجتماعية والسياسية التي كانت تعصف بالمجتمع العراقي، نتيجة صراع الايدولوجيات السياسية والتوجهات الفكرية والمواقف المتباينة من قضايا منطقتنا العربية، وبالاخص انها كانت تمر بمرحلة التأسيس والاستقلال وتبحث عن هواياتها الوطنية والقومية في خضم صراع عالمي على المنطقة بسبب ثرواتها الاقتصادية، وهو ما كانت له اثاره السلبية في تاريخ المنطقة السياسي، على ان لا يغيب عنا دور الدوافع الشخصية واطماع السلطة في تقرير مصائرنا.
اتخيل ان مقصدي من هذه المقالة بدأ يتضح قليلا هنا، بما اننا لا نملك دراسات بنيوية وتفكيكية عميقة للثورات او الانقلابات التي شهدها تاريخنا الحديث على قصر عمره. وبما ان الفلسفة، كما يشار اليها، انها تشتغل على الكليات فأن ما يصح هناك (قد) يصح هنا، اذا ما اعتمدنا خطوات" اجرائية " تأخذ بنظر الاعتبار الخصائص الذاتية والاختلافات الظرفية بين هنا وهناك. والان لو طلبنا من فوگو أن يسأل كانط عن " ثوراتنا " هل سيقرر انها حقا ثورات، وانها قادتنا او سوف تقودنا إلى التنوير؟ يبدوا وضعنا مزريا بالواقع، لان النتيجة كانت، ان تلك " الثورات " كانت قد قادتنا لمزيد من التراجع والقهر والتخلف والعنف وكبت الحريات والاستبداد بالسلطة، رغم التقدم الظاهري والشكلي، فالانتكاسات كانت تأتي سريعا بمجرد توافر الاسباب. تلك الثورات لم تعمل شيئا في عقول الناس والمجتمع ولم تستوعب آثارها المدمرة لكي نعمل على منع تكرارها، فهي لم تكن اكثر من رؤوس تقطع لتزرع رؤوس بديلا لها.
أما ما حدث في تشرين يبدوا انه الأقرب للثورة او التنوير، رغم ان الأوساط الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية لدينا، اختلفت على تسمية أحداثه، هل هو ثورة ام احتجاج وتمرد أم مؤامرة؟ وأعتقد أن صفتها الشعبية وعفويتها كافية لنضعها في مصاف الثورات الحقيقية، أشعر انها كانت ثورة ضد تاريخ السياسة وتجارب السلطة لدينا منذ لحظات التأسيس حتى وقتنا الحاضر، وتوقيت حدوثها الان لم يكن بلا معنى فهي كانت موجهة ضد اسوء وأقذر سلطة سياسية بتاريخ العراق وضد ارذل من عمل فيها، ثوارها لم يطلبو فيها الخبز بل كانت مطالبهم وطن سرقته الاحزاب والتيارات السياسية وجيرته لاطماعها الخاصة ولعقائدها العفنة وأفكارها الرجعية. الطريقة التي حدثت بها الثورة ومساراتها الصعبة كشفت ان التنوير كان طاقة كامنة فيها، وانهما (اي الثورة والتنوير) وجهان لعملة واحدة، هي أن يكون الإنسان هو الهدف، حريته وارادته وحقوقه الاساسية. الذي قدح بتشرين لم يكن يعرف شيئا عن التاريخ ولم تسعفه معرفته لفهم الجوانب الإنسانية للثورة رغم الفوضى (المؤقتة) التي أحدثها والارباك الذي رافقها، فهذه هي طبيعة اي ثورة، لكنها عميقا تحاول إيقاف فوضى حقيقية ولا عقلانية تدار بها السياسة والسلطة وهو ما يجلب الظلم وضياع حقوق الناس وامنهم وكرامة عيشهم، وهو ما يقودهم في النهاية الى الثورة الحقة. صحيح ان ثوار تشرين يكاد يكونون نخبة وجزءا عدديا وطنيا صغيرا، لكنهم كانوا معبرين عن طيف واسع من المجتمع والناس الذين آثروا المراقبة والمشاهدة لاسباب كثيرة، خاصة وعامة، تشربوا الكثير من الحماس والتعاطف من خلال ردود الأفعال والتعبير عن التضامن وتقديم العون والمؤازرة. ما تركته تشرين بآلامها وضحكاتها وصور التضحية والفداد والشجاعة في عقول الناس، كبير جدا وبخاصة عند أجيال الشباب منها، الذين يحلمون بوطن وهوية وطنية لا تلوثها الهويات الضيقة والمزورة، عقول نجحت في النجاة من عملية غسل الدماغ، التي مارسته السلطات السياسية والدينية والاجتماعية مع الناس. انا اعتقد ان آثار تشرين الواقعية قد بدأت الان متزامنة مع كتابة هذا المقال، وهية مهما تكن محدودة لكن قيمتها ومعناها كبير، فهي تنذر باندثار حقبة دنيئة في تاريخ العراق السياسي، وسوف تتحول كل انفعالات تشرين وما تركه من ذكريات لشبابه والمتبقيات من صور الحياة والموت في ذاكرة الوطن، ستتحول الى عقد وطني عقلاني وانساني كبير.

(نهاية عصر التعفن) مطلع لقصيدة الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الإسرائيلية تدفع متظاهرين خلال احتجاجات على الحكومة ف


.. في يوم العمال..توتر واشتباكات بين متظاهرين والشرطة التركية




.. اشتباكات بين الشرطة التركية ومتظاهرين احتجاجا على إغلاق ميدا


.. اشتباكات في حرم جامعة كاليفورنيا بين مؤيدين لإسرائيل ومتظاهر




.. اشتباكات بين متظاهرين مؤيدين لإسرائيل وآخرين مؤيدين لفلسطين