الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثورة، بلا ثوريين.

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2021 / 11 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


"في بالنا عملنا ثورة" العبارة كرّرها كثيرون لأنّ المفهوم ظل غامضا لعدة أسباب.

أولا لأن العرب لم يستخدموا كلمة "ثورة" بالمعنى الذي تحمله هذه الكلمة في عصرنا الرّاهن.
وثانيا لأن معظم الذين اهتمّوا بقضية الثّورة في بلادنا، تناولوها بالقياس والمقارنة مع ثورات أخرى. كالثورة الفرنسية والروسية والصينيه... فكان الاعتراف بالثورة التونسية أو إنكارها حسب درجة تطابقها مع مسارات تلك النماذج.
ثالثا، أغلب الذين أنكروا تسمية ما حدث على أنه ثورة، ينطلقون من خلفية النتائج والمآلات. والأرجح أن هذا الموقف يعود إلى خيبة أمل قاسية بعد انتظاراتهم الكبرى.
رابعًا، هذا الغموض ينبع عند البعض من التناقض الشديد الحاصل في عقولهم بين الثورة والإصلاح.
خامسا، هو الخلط بين الانقلاب والثورة.

سأحاول في هذه الورقة تلخيص هذه الأسباب الخمسة.

في البداية يجب التشديد على أن العرب لم يستخدموا في تراثهم عبارة "الثورة" بنفس المعنى المعاصر. بل استخدموا كلمات أخرى "خروج" و"فتنة"، فكان يُقال "خروج القرامطة" أو "فتنة الزّنج".. على أن الخروج على الجماعة هو فعل مذموم، والخروج على السّلطان الجائر أمر مُختلف فيه. ومعنى الخروج عند المسلمين يعني الخروج لطلب الحقّ. وفيه تفاصيل ومعايير وآراء مختلفة بين ابن خلدون والماوردي وابن تيمية وأبو مجاهد البصري وغيرهم. وحسب رأيي قد يكون لغموض المفهوم اليوم علاقة بخلوّ التراث العربي من كلمة الثورة بمضمونها الحالي. إذ بقيت الكلمة تعني الغضب فقط. في حين سادت مفاهيم مختلفة مثل الخروج والتغلب، والفتنة ... وأعتقد أن المفردة الأقرب إلى مفهوم الثورة المعاصرة هي "الخروج". والخروج هنا بالمعنى الاسلامي التقليدي الخروج من المسكن نحو الناس طلبًا للحق. وبالمعنى المعاصر، النزول إلى الشارع. بما يُفيد نفاذ الصبر والشكوى والتذمّر وحالة عدم الرضى في الحيّز الخاص، وحمل كل هذا إلى الحيز العام. وفيه أيضا معنى الخروج على قواعد اللعبة وعلى القوانين السارية، وعلى الشرعية القائمة. ولست متأكدا من أن هنالك مفردة أخرى استخدمت في التاريخ الأسلامي، وتحظى بمشترك مضموني واسع مع الثورة بمعناها الحديث مثل كلمة "الخروج".

ثانيا، بَدَل البحث في الأسباب البعيدة التي ولّدت حدث 14 جانفي، وتفكيك دوافعها ودراسة عوائقها ومآلاتها، انشغل البعض بالبحث والتمحيص في ما هو مشترك بين 14 جانفي وبين ما كشفت عنه التجربة الأوروبية، لا سيَّما في الثورتين الفرنسية والروسية. وكان من الطبيعي أن نجد اختلافات جوهرية، فيما كان همهم التوصل إلى نوع من التطابق يشفي الغليل. ومن هذه الخلفية أطلقوا عليها كل النعوت ما عدا نعت الثورة. ودون مبالغات، قد يكون هنالك سبب نفسي مختبئ في لا وعي هؤلاء الذين يخافون على الثورة البلشفية من التشويه. فهم معنيون بالحفاظ على سمعة ثورة عاشوا على أنخابها، وشكلت ركيزة من ركائز كينونتهم المعنوية. أكثر من اهتمامهم بفهم ما حدث في بلادهم أمام أعينهم.

ثالثا، أغلب الثورات في التاريخ فشلت. ولم تحقق أهدافها. ومع ذلك تُسمّى ثورات، لأن هنالك فارق بين الثورة، والقابلية للثورة. فمثلا كان الشعار المركزي الذي ردده المتظاهرون في تونس ما بين 17 ديسمبر و 14 جانفي، وتواصل إلى غاية سقوط حكومة محمد الغنوشي في اعتصام القصبة هو "الشعب يريد إسقاط النظام". وبالفعل سقط الرئيس، وتم حل الحزب الحاكم ومجلس النواب ومجلس المستشارين، كما تم طرد جميع مسؤولي الصف الأول والثاني في النظام السابق. وهذا الذي حدث هو تحرك شعبي واسع من خارج الدستور، يُطالب ليس بالزيادة في الأجور، ولا في التخفيض في ثمن المحروقات، ولا احتجاجا على سياسة الدولة في قطاع النقل أو التعليم أو الصحة. بل يُطالب بوضوح بإسقاط النظام. ولا يمكن من وجهة النظر الموضوعية والواقع اعتبار ما حدث في تونس إلا ثورة. غير أن اختطافها وتحويل وجهتها، وتعفينها وإفساد نتائجها المُفترضة، وضرب مضامينها القيمية، وتشويهها في نظر الناس حتى تصبح كارثة بعد أن كانت حلما يتغنّى به الشعراء. وتصبح سلسلة من الجرائم بعد أن كانت ثقافة تحرّرية وفعلا واعيًا راقيًا يؤسّس للسّعادة والسّلم والتضامن.
بسبب هذا "البراكاج" الذي تعرّضت له الثورة، تبقى التّساؤلات مشروعة، هل ماعايشناه ثورة، أم حالة ثورية؟ إلى أى عمق وصل التغيير؟ وإلى أيّ مدى وصل الحلم؟ ما الذى تغير؟ وما الذى بقى؟ سقط نظام الحكم، فماذا عن نظام القيم والعقل؟
14 جانفي لم يكن نزهة. بل كان ثورة شعبية عارمة، شعاراتها السياسية بالغة الوضوح. ولكن المشكل يكمن في غياب قوى ثورية منغرسة في شعبها، قادرة على التحكم في الشارع، وجاهزة لتزويد حركة الاحتجاج بالشعار والبرنامج. وتعرف إلى أين تذهب وماذا تريد. وهنا، في مسألة قدرة الثورة على تحقيق أهدافها، أو عجزها عن ذلك، يصبح الحديث عن "القابلية للثورة". بمعنى أن السؤال الصحيح هو: هل كانت شروط نجاحها أقوى؟ أم شروط اختطافها أقوى؟ أما السؤال: هل هي ثورة أم لا؟ فأعتقد أنه سؤال خاطئ. وإنكار الثورة موقف لا معنى له.

رابعا، هنالك اعتقاد أساسي سيطر، لمدة طويلة، على الحركة الشيوعية العالمية، والحركة الثورية عموما على أن الإصلاح نقيض الثورة. ومن هنا كان هنالك "الثوري" المُبجّل المحمود. وهنالك "الإصلاحي" المنبوذ والمذموم.
هذا الموضوع لم يأخذ حظه من النقاش. وأن المشكل أعمق كثيرا من مجرد التفريق السطحي بين الثورة والإصلاح. بل هي إشكالية نظرية خطيرة لأن تعقيداتها تمتد لتطال حياة الناس ومصائر الدول.
إذا كان الإصلاح عموما لا يهدف لتغيير الأسس الاقتصادية الطبقية، التي منها يولد الاستغلال والظلم والفساد وكل أنواع الجرائم. بل يهدف لمعالجة بعض المشاكل والقطع مع الأخطاء وفرض بعض التحسينات دون المساس بأساسيات النظام. و بهذا فإن الإصلاح يسعى لتحسين النظام القائم دون الإطاحة به. وهنا يرى الشيوعيون على وجه الخصوص أن الإصلاح، سيما في البلدان المُهيمن عليها من القوى الاستعمارية، يظل مغشوشا، ولا يُوصِلُ إلى تغيير الأوضاع ولا تحسين معيشة السكان، لأنه لا يتضمن إصلاح السياسات الإقتصادية، والخدمات المدنية، والإدارة المالية العامة. وهو الأمر الذي يجعلهم مناهضين للإصلاح ومناصرين للثورة بصفتها تعني الإطاحة بالنظام، واقتلاع الدولة القديمة بجذورها، وبناء دولة جديدة.
لكن هنا أيضا نقع في مشكل أخطر، كون التاريخ علّمنا أن كل عمليات التغيير العنيفة، التي اقتلعت القديم بشكل جذري، لم تؤدِّ إلى ولادة دولة ديمقراطية، بل أدّت إلى فوضى، فحرب أهلية، ثم دكتاتورية. وحسب علمي لا يوجد مثال واحد لثورة عنيفة استأصلت القديم وبنت دولة ديمقراطية. ولنا أن ننظر في مثال الثورة الأبرز، الثورة الفرنسية.
كما هو معلوم، في البداية، تم الاحتفاء بالثورة الفرنسية على نطاق واسع، باعتبارها حررت شعب فرنسا من اضطهاد الحكم المطلق، وباعتبارها كشفت الطريق امام بقية اوربا، ومؤشر على بداية حقبة جديدة. وقد وصف تشارلز جيمس فوكس سقوط "سجن الباستيل" بانه "أكبر حدث في تاريخ العالم". وسماها هيغل "الشروق الرائع". ولكن الرعب اللاحق عند وصول نابليون الى السلطة اثمر استجابة مختلفة تماما، مما أوحى للناس ان الثورة كانت قوة تدميرية أسقطت الملكية صحيح، ولكنها أدت إلى المجاعة، وهددت حتى حياة الفرنسيين أنفسهم. وأن طابعها العنيف نقل فرنسا من الحكم المطلق إلى الفوضى والرعب، ثم العودة الى الحكم المطلق –الذي اتخذ هذه المرة صيغة دكتاتورية عسكرية– ربما كانت أيضا أمرًا لامهرب منه حالما تم التخلّي عن العملية النّظامية في الإصلاح الدستوري. وكان هذا الاعتقاد شائعا، ليس فقط لدى السّياسيين المحافظين، بل أيضا لدى الليبراليين، ولدى الثوريين أنفسهم.
والحقيقة أن الثورة الفرنسية لم تبدأ راديكالية على النّحو الذي أوحت به الأخبار المثيرة، التي احتفظت بها الذاكرة العامّة على مر الزمم، بل كان المسعى الذي انتهجه الفرنسيون في بداية ثورتهم مسعى إصلاحيا محضا، وهو تحقيق ما توصل إليه جيرانهم الإنجليز، قبل ذلك بقرن، من إقامة ملكية دستورية تضمن للشعب حقه في حكم نفسه بحرية وعدل، وتحفظ للأسرة المالكة كرامتها.
ولقد تحسّر عشرات المفكرين مثل "غوستاف لوبون" على الفرص الضائعة في تاريخ الثورة الفرنسية، فرص الانتقال المرِن من الاستبداد إلى الحرية دون تدمير الأمة الفرنسية، واعتبر أن ذلك تمّ بسبب "الجهالة والأنانية السياسية وقصر النظر الذي اتّسم به كل من الملك لويس وطبقة النبلاء ورجال الكنيسة".

لست في حاجة للتذكير بأن الثورة البلشفية والكوبية والإيرانية كانت كلها عنيفة واستئصالية. وأنها لم تنتج ديمقراطية، بل أعطت خروبا أهلية، ثم حكم مطلق.
من هذا المنطلق، أعتقد أن هذا التناقض الصارم بين الإصلاح والثورة يجب أن يختفي، وأن يتمّ استبداله بمفهوم جديد يقوم بدل الإستئصال والعنف، على التفاهم بين الشقّ الإصلاحي في النظام القديم، المقتنع بضرورة التغيير، والشقّ المعتدل ضمن قوى الثورة، ذلك الشق المُصرّ على التغيير دون تكسير الدولة وتخريب البلد. ولا يصدر هذا الكلام عن رغبة خاصة، بل عن قناعة راسخة من خلال تتبّع جميع تجارب الانتقال الديمقراطي منذ خمسينات القرن الماضي. ولا توجد تجربة واحدة نجحت بأقل الأضرار، وبربح كثيرا من الوقت، لم تشهد تفاهما وتعاونا ومساومة ومفاوضة جادة بين هذين الشقّين. بحيث حافظوا على أجهزة الدولة، وعلى أرواح الناس، وعلى مقدرات بلدانهم، في مقابل إدخال إصلاحات جذرية غيّرت الدولة والمجتمع بدءً بإدارة رياض الأطفال، وصولا إلى إدارة قضايا الحرب والسلم.
"في بالنا عملنا ثورة" هذه العبارة نابعه لدى البعض من رغبتهم الأصولية في رفض الإصلاح والانتصار للثورة بمعناها الاقتلاعي الاستئصالي، ليس فقط في الحركة الاشتراكية، بل أيضا في الأصوليات المسيحية في اميركا الشمالية، وفي العالم الإسلامي، وفي الحركات البيئة الجذرية، وفي الحركة المضادة للعولمة. هذه الحركات نادرا ما فهمت النتائج الكارثة الناعمة عن موقفها الصارم من الإصلاح الجذري، لصالح الموقف من العنف.

السبب الخامس والأخير لهذا الغموض في تعريف الثورة، هو أن المنطقة العربية شهدت خلال الثمانين سنة الفائتة تسعة وثلاثين انقلابا عسكريا ناجحا. بحيث توالت الانقلابات العسكرية منذ أن أقدم الفريق بكر صدقي يوم 29 أكتوبر 1936 على القيام بأول انقلاب عسكري في تاريخ العراق والمنطقة العربية عموما، وأطاح بحكومة ياسين الهاشمي. منذ ذلك التاريخ دخلنا في حالةً من عدم الاستقرار السياسي، وبدأ العسكر تدخُّله الفعلي في الحياة السياسية. والغريب أن قادة الاتقلابات جميعا سمّوا انقلاباتهم ثورات. ولقد شهدت كل الدول العربية هذا الخلط بين الثورة والانقلاب. وانقسم الناس حول الموقف منها. وحتى الدول التي لم تشهد انقلابات عسكرية (السعودية، الكويت،البحرين، الإمارات، جيبوتي والأردن) تأثرت هي الأخرى بذلك الجدل.
طبعا الانقلاب لا يضع قلب نظام الحكم واستبداله بآخر جديد هدفًا له كما هو الحال في الثورة. في حين أن ما يُميّز الثورة هو حرصها على التجديد والقطع الجذري مع مسار التطوّر التاريخيّ للنظام القائم. وبناءً على ذلك، لا تكون الثورات الحديثة معنية فقط بتغيير الحكومات وقلب الأنظمة، لأنّ لها بعد اجتماعي متعلّق بنشوء نظام اقتصادي جديد. وهكذا أصبح من غير الصحيح استخدام كلمة ثورة في حال لم يحدث هذا التغيير في النظام الاجتماعي. سيما وأنّ المقصود بالثورة الحديثة، وبالمعنى الماركسي على وجه الخصوص، هو القفزة النوعية من نظام اجتماعي إلى آخر.

حسب رأيي، هذه الالتباسات الخمسة يجب تعميقها من قبل المختصين، والنظر فيها وتفكيكها في مؤلّف خاص، مساهمة في حسم مسألة تعريف الثورة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اضطرابات في حركة الطيران بفرنسا مع إلغاء نحو 60 بالمئة من ال


.. -قصة غريبة-.. مدمن يشتكي للشرطة في الكويت، ما السبب؟




.. الذكرى 109 للإبادة الأرمينية: أرمن لبنان.. بين الحفاظ على ال


.. ماذا حدث مع طالبة لبنانية شاركت في مظاهرات بجامعة كولومبيا ا




.. الاتحاد الأوروبي يطالب بتحقيق بشأن المقابر الجماعية في مستشف