الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المبدع ومعادلة السعادة والألم

صلاح زنكنه

2021 / 11 / 12
الادب والفن


هل الفنان كاتباً وشاعراً ومفكراً، كائن سعيد ؟ أم إنه كائن تعيس ؟ لا شك في أن المسألة نسبية، والحدود الفاصلة بين مفهومي السعادة والتعاسة نسبية هي الأخرى، لكننا نستطيع أن نشير مع أرسطو بأنهم (يبدون جميعا ذوي مزاج حزين) وإذا كان القلق حالة منفردة للإنسان، كما يؤكد "مارجوري جرين" فأنه حالة ملازمة للفنان، وهو غير قلق الشخص العادي، بل قلق وجودي خلاق ومحفز, ضروري للإبداع والمبدعين، وأحياناً يأخذ هذا القلق منحى مرضياً في حالة اشتداده وتفاقمه، نتيجة تصادم المبدع وضغوطات المجتمع، قد توصله ـ دون أن يدري ـ الى هاوية الجنون، وهو كثيرا ما ينعت بالجنون لخرقه التابوات المجتمعية والثوابت الأخلاقية.

يميز فرويد الفرق بين الفن والجنون في أن (الفنان يمتلك أخيلته وأحلامه, والمجنون تتملكه أخيلته وأحلامه وتتحكمان فيه) والمبدع يمتاز عادة بمخيلة خصبة وينتج بواسطة هذه المخيلة ويخلق عبر نتاجه واقعا اكثر شفافية وعدالة وإنسانية، ويجزم فرويد بأن (الشخص السعيد لا يتخيل أبداً، وأن الذي يتخيل هو الشخص غير المقتنع فحسب) والمبدع غير مقتنع بالمرة لأن القناعة بسكونيتها تتنافر مع حساسيته المفرطة ومسؤوليته العالية وسعة ثقافته ومعرفته, تلك المعرفة التي قال عنها بايرون (المعرفة حزن وأولئك الذين يعرفون الكثير عليهم ان ينتحبوا كثيراً) أجل هذا هو قدر الفنان، الحزن والمعاناة والألم، ففي مسرحية (المتوحشة) لـ "جان أنوي" يعترف الموسيقي فلورانت بـأن (التألم هو أيضا امتياز لم يعط لجميع البشر) وإنما للبشر المتفردين في العزلة والاغتراب والاستلاب, كون (الحس المأساوي هو المعيار الحقيقي لكل موهبة) على حد تعبير جبرا ابراهيم جبرا.

إن هذا الحزن الفائق بسموه، قد يقود بعضا منهم الى متاهة العزلة والكآبة، وفي هذا الصدد يقول الروائي ابراهيم الكوني (الكآبة قرين ملازم لعشاق العزلة، الحزن تاج الحكماء، والفرح دمية البلهاء، وأهل الغفلة)

وبمراجعة سريعة للسير الحياتية لكبار الكتاب والشعراء والمفكرين والفنانين، نجد أن معظمهم عانى الفقر وضربهم بثقل عبوديته (أنه البؤس الذي هو نوع من الانعكاس القاتم للجحيم) كما صرح الشاعر الفرنسي "بيار بفردي" والكثير منهم شرد وسجن ونفي ( باسترناك، وناظم حكمت ) ولاقى ويلات الحرب (مالرو، وريماك ) ومنهم من اغتيل (المتنبي، ولوركا) ومنهم من انتهى بالجنون كما حدث لـ (شبنهاور،و نيتشة، وفان كوخ) وبعضهم مات في سن الشباب مثل (رامبو, وكيتس, وبايرون, والسياب وأبو القاسم الشابي) وختم بعضهم حياته بالانتحار كما فعل (همنغواي، ومايكوفسكي، وخليل حاوي) بعد أن نخرهم اليأس، كون اليأس شكل من أشكال الاحتجاج.

يؤدي اليأس علميا إلى انخفاض الكورتيزون في الدم, وهذا يفضي إلى فقدان الرغبة في الحياة، وفقدان الرغبة هذا بحد ذاته يوازي الموت الفيزيائي، وقد كان الانتحار قبل المسيحية يعد سلوكاً نبيلاً لأنه يمثل أقصى درجات التجرد عن الذات، ولولا الخشية من العقاب الإلهي لكان الصوفيون سباقين في هذا المضمار.

نستنتج من كل هذا, أن هذه الشريحة التي تعد عصب البنية الفوقية للمجتمع، هم قوم خياليون، حالمون، ملولون، حزانى، وهم سعيدون بالرغم من كل التعاسة التي تحيط بهم، لأنهم يشيدون صرح الحضارة الإنسانية بالكلمة، ويدونون ضمير ووجدان أمتهم بالكتابة، حتى أن (الأمم الخرساء بدأت تتكلم بواسطة الكتابة) كما يقول "تودوروف" وهي (محاولة كشف جانب مجهول من الوجود الإنساني) كما يقول "كونديرا" وديدنهم في كل هذا هو أن ينتصروا للإنسان في كل مكان وزمان، كون الإنسان مقياس كل شيء.
...
جريدة الثورة 2 / 12 / 1998








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا