الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات من سوريا -الحرة-

مازن كم الماز

2021 / 11 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


أخيرًا أجتاز الحدود التركية التي كانت قد تحررت قريبًا فقط من جيش الأسد ، أول ما سألتقيه هو كهل مصري يحمل كلاشنكوفا و يجلس تحت راية سوداء كتب عليها لا اله الا الله محمد رسول الله ، كان يبتسم بينما مررنا بالقرب منه ، يرانا و لا يرانا ، يبتسم لنا نحن الذين نمر بجواره دون أن نسلم عليه و لأشخاص لا نراهم لكنهم كانوا يتبادلون الابتسامات ، سأعرف فيما بعد أن الرجل قد مات ، قتل ، قتلته كتائب الفاروق صراعًا على المعبر ، لم يكن المعبر بعد مزدحمًا بالبشر كما سيكون عندما سأغادر تلك الأرض للمرة الأخيرة و كما سترونه اليوم إذا ذهبتم هناك … رافقني من القاهرة إلى إستانبول ستة عشر شابًا ، خمسة منهم تركونا في إستانبول ، اتضح أن لديهم أمًا هناك أو زوجة أو حبيبة أو صديق ، تركونا بينما واصلنا إلى أنطاكية فالريحانية ، كان معنا شابان جاءا من قطر ، محاسب و مهندس ، جاءا في إجازتهما السنوية ، 45 يومًا ، سيسقطان الأسد ثم يعودان ، أرادا القتال كقناصة ، كانت بابا عمرو قد أشعلت مخيلة هؤلاء الشباب ، من الأحد عشر شابًا ، إذا افترضت أني أنا أيضًا شاب ، الذين دخلنا سوية لم يبق على قيد الحياة إلا أنا و فتى من القنيطرة كان آخر ما وصلني من أخباره قبل خمس سنوات أنه كان قد بايع داعش في مكان ما من جنوب دمشق و لا أعرف مصيره في الجحيم أو الخروج التالي ، لعله مات أو قد ألقاه عرضًا في برلين أو إستانبول أو يشتم الكفار و الملحدين و أنا من بينهم في إحدى غرف الفيسبوك الثورية ، الباقون ماتوا ، أو كما يقول إسلاميونا ، استشهدوا … تجحظ عيناي عند رؤية الكهل المصري مبتسمًا تحت علمه الأسود لكني أواصل ، سرعان ما سأعتاد هذا ، ستجحظان مرة أخرى في تلبيسة عندما كنت و عدد من الناشطين و القادة نتناول الطعام لأفاجأ بأحدهم يتحدث عن العلويين "الخنازير" , أحس جاري ، أستاذ مدرسة كهل ، بصدمتي ، غمزني قبل أن تقع الواقعة ، بقينا نلوك طعامنا بصمت ، كان هو من قال لي يومها ، سرعان ما تتعود … لا تتشابه سوريا الحرة و لا قصف النظام في كل مكان ، في تلبيسة و الرستن كان النظام يقصفنا بشكل غير منتظم و كان رعب الشباب هو المروحيات التي نسمع صوتها فوقنا ، كان الخطف المتبادل بين تلبيسة و سلمية قد أدى إلى حصار مطبق على المدينة و نزوح هائل ، لأيام كان طعامنا الوحيد هو اللحم المعلب الآتي من اوستراليا و الذي كتب عليه بعربية مكسرة ، لحم حلال ، كان الشباب يطبخونه كل يوم بطريقة مختلفة كي يبقى قابلًا للهضم ، و كان الخبز أكبر همومنا اليومية ، كان يصل بالقطارة و رغم أننا في المستشفى الميداني نحظى بنفس أولوية المقاتلين لكنه كان يشح لأيام ثم يظهر ليختفي من جديد و في هذه الظروف كنا نحتفظ بالخبز اليابس و الذي كان شهيا بالفعل خاصة مع الشاي ، كانت الاشتباكات مع حاجز ملوك هي الأصعب ، لم يكن الشباب يخبرونا عن موعد هجومهم الذي كان يجري عادة عند الفجر ، فجأة كانت صرخات رفاقي الممرضين و المصابين توقظنا ، كان المبنى الصغير لما يفترض أنه مستشفى ميداني يمتلئ ب فجأة بالآهات و الدماء ، أحيانًا كان التعب يداهمنا فجأة و نصاب بشيء كالشلل ، لنكتشف أننا نحاول إنقاذ من يمكن إنقاذه لساعات أحيانًا قد تتجاوز العشرة و نحن نركض و نقفز و نصرخ بوعينا الباطن بينما وعينا مخدر تمامًا بفعل الصراخ و الدماء و الجثث التي تحيطنا ، ننقل لها الدم و السيرومات و نعدها للدفن أو للإخلاء إلى مكان ما ، أذكر ذلك الشاب الذي كانت يده نصف مقطوعة لكننا لم نتمكن من تهدئته ، كان يصرخ و يصرخ سائلًا عن مكان بشار الأسد ، كان بالكاد يشعر بالألم بينما كنا نجاهد لنجد له وريدا قبل أن ينهار ككتلة ثلج متجمدة و ميتة ، الكبتاغون يمنح الإنسان مثل هذه السعادة و الشجاعة ، و الشهادة … تنوعت سهراتنا ، إما على ضوء القمر أو على ضوء الكهرباء في مكتب إعلامي إذا كنت أريد النت لأتحدث مع ابنتي أو لنشاهد مباراة الكلاسيكو بين ريال مدريد و برشلونة ، كان والد الساروت مريضي الخاص ، لم يكن متقدمًا بالعمر لكن السجائر كانت قد أنهكت رئتاه ، بقيت إلى جواره ليالي أعطيه أدوية موسعة للقصبات و الرذاذ متواصل و نحن نتوقع أن يتوقف تنفسه و نضطر لتنبيبه في كل دقيقة ، و أخيرًا استطاع المقاتلون إدخاله إلى مستشفى تابع للنظام بهوية مزورة ، عاد إلينا كما ذهب و علمت أنه قد توفي بعد أن غادرت تلبيسة بوقت قصير ، في مستشفى عمر بن عبد العزيز في المعادي بحلب تعرفت على البراميل المتفجرة ، كان النظام يرميها خاصة يوم الجمعة بكثافة و أصبحنا نتوقع مجزرة جديدة مع صبيحة كل يوم جمعة ، كان الموتى لا يشبهون الناشطين و لا المقاتلين أو بقية الثوار ، كانوا فقراء ، للغاية ، و أحد أغرب الأشياء هو أنهم جميعًا قبيحون ، ،و في أكثر الأحيان نصف مشوهين ، سمر البشرة غالبًا ، و غالبًا محدودبي الظهر و هم أحياء أو و هم أصحاء ، لم يكونوا يشبهوننا ، نحن الذين كنا نعالجهم أو "نحميهم" أو نبحث لهم عن مستقبل أفضل ، كانوا بشرًا من قاع المجتمع ، بقوا لأنهم لا يملكون ما يكفي للهروب أو لأنهم اعتقدوا أن بإمكانهم الاستفادة من الحرب بطريقة ما ، أن يعيشوا أفضل مما فعلوا قبل الحرب أو حتى بعدها ، في حلب كان الخياط أو السمكري قد أصبح نصف طبيب و حتى طبيبًا لهؤلاء الفقراء ، و كان هؤلاء ، الأطباء الحقيقيون أو الذين صنعتهم الحرب ، يتقاضون أقل بكثير من أولئك الذين يعملون في مستشفى باب الهوى أو المستشفيات الأخرى التي على الحدود مع تركيا أو داخلها ، سنتين من الألم و البحث عن ضوء في نهاية النفق دون جدوى ، أجمل ما في الحرب أولئك الذين يتحدثون عنها و لا يعرفونها ، يحتفون بها و يصفقون لها ، يتحدثون عن "الشهداء" و "الانتصارات" و "الهزائم" و هم لا يعرفون ما يعنيه الموت بينما يحولوه استشهادًا و بطولات على الورق ، يحرم الإسلام الكحول لكن الكبتاغون حلال تمامًا وقت الحروب ، إنه صانع الأبطال الحقيقي ، أما أنا فكان الحلم وحده زادي و مع نهايته جاءت نهايتي أيضًا ، أنسحب ، عيب على رب الجولاني و زهير سالم أن يكون بحاجة دم كافر زنديق مثلي كي ينصرهم على الكفار و المرتدين و المجوس ، أرافق شاب مصاب برصاصة في رأسه ، بحالة غيبوبة عميقة ، ضغطه غير مستقر ، أنقله بنفس السيارة التي ستقلني إلى الحدود ، بعيدًا ، شاب جميل طويل بشعر و لحية حمراء ، أخاه التوأم لم يغادر باب العناية في مستشفى اطمة ، يرافقنا ، ينظر بحسرة إلى أخيه و إلي ، يشبه أخاه تمامًا ، يتوقف قلب الفتى نصف الميت ، أبدأ محاولات إنعاشه بينما تهتز السيارة بنا فوق الطرق غير الممهدة ، في مستشفى باب الهوى يسألوني لماذا أصر على إنعاش الفتى الميت ، أصر على ثلاثين دقيقة من الانعاش العبثي قبل أن اخبر شقيقه انه قد مات ، قد استشهد ، يشكرني بعينين باكيتين و يقول ، لقد تعلمنا الثورة من أمثالكم ، لا يدري أني على وشك الفرار من ساحة المعركة ، يستقبلني الجنود الاتراك بفتور شديد و لا مبالاة بل بشيء من العجرفة و العدوانية ، لست إلا وأحدًا من آلاف تحاول الهروب و لا تجدي خدعتي القديمة بوضع السماعة الطبية فوق بقية أغراضي ، لا أودع سوريا ، سامحك الله يا غيفارا ، فتاة اسمها غيفارا سمعت اسمها في حلب ، التقطت صوتها الطفولي و هي تشتم أم ممرضة الإسعاف التي لم تقبل تغيير الضماد لحبيبها ، أسمع من الغرفة المجاورة صوت تلقيم المسدس و أفهم فيما بعد أن غيفارا قد أشهرت السلاح في وجه الممرضة و أجبرتها على تضميد حبيبها المصاب و هي توجه فوهة مسدسها إلى رأسها ، بعد انتهاء روتيني اليومي في العناية أركض إلى الإسعاف لكن غيفارا قد غادرت هي و حبيبها ، أرى ممرضة الإسعاف التي كادت غيفارا أن تصرعها ، فتاة ترتدي زيًا أفغانيًا و أعرف أنها من النصرة و أن غيفارا فتاة قصيرة نحيلة في الثامنة عشرة من عمرها ، بقيت أبحث عن غيفارا عامين و أخيرًا كان الواقع أقوى مني و منها ، لو أنها لم تمت بقنابل النظام لا شك أنها قد ماتت برصاص النصرة ، و إذا لم تقتلها النصرة فهي الآن إما أنها تعيش في جحيم حلب التي حررها النظام أو في نعيم الغربة تتاجر مثلنا جميعًا بالخراب و الدماء ، عامين من البحث عن غيفارا انتهيا بهروب عادي جدًا ، لدرجة ان أحدا سواي لم يشعر به ، عادي جدًا حتى أنه لم يرافقه أي إحساس بالمجد أو حتى بالهزيمة و لا بأي تأنيب ضمير ، بدت الريحانية عالمًا آخر ، الأسفلت ، الشوارع ، الأشجار ، شعور النساء السافرات ، لكن استقبال إستانبول لم يكن فقط فاترًا ، بل بدت المدينة الجميلة معادية لي تمامًا ، المدينة تفتح أبوابها فقط بالمال ، كان هاجسي اليومي هو العشرين ليرة التي كان علي دفعها يوميًا للهوستيل الرخيص الذي أقمت فيه ، على فراش في غرفة فيها 16 سريرًا ، كانت غصتي اليومية ، التي لم تخفف منها قصص السوريين الذين يلتحفون السماء في حدائق إستانبول ، شعرت بكره متبادل على الفور تجاه المدينة ، لكني أدين الكثير لخرائب إستانبول ، ذات يوم و أنا أتمشى على غير هدىً في شوارعها ، عندما وقفت أمام مبنى قديم جدا، ، لم يكن عثمانيًا و لا تركيًا و لا بناه أي عثماني أو تركي ، و مع ذكريات الصراخ و الدماء و الشتائم تعرضت لما يشبه الكشف ، فهمت ما الذي تعنيه الحروب ، و الأوطان ، السادة و العبيد ، و كيف يحتاج تغيير السادة و "العالم الى الأفضل" إلى دماء أكثر بكثير من الإبقاء على السادة القدامى ، فهمت غباء البشر و غباء الشهادة و الجشع و الوقاحة التي لا توصف في نعيهم كشهداء ، و يكتمل الشعور بالهزيمة أمام شاب أميركي أسود ، جندي في المارينز ، كان جاري ليومين في ذلك الهوستيل الرخيص ، أنفجر في وجهه ، لماذا لم يهاجم أوباما الأسد ، لكن الفتى لا يشعر بالخزي لأنه لم يذهب ليموت في سوريا كما توقعت ، يكز على أسنانه و يرد ، أتفق مع أوباما ، و يقطع سؤاله صراخي العاجز ، و لماذا تريدني أن أموت في معركتك أنت ، و أبلع إهانتي بصمت ، أجمل ما في الحروب ان من يتحدث عنها لا يعرفها ، أذكر جيدًا تلك المقاطع التي كان الشباب يعرضوها علي من هواتف جنود الأسد ، عساكر ، فتيان ، يشبهون كثيرًا من كان النظام يقتلهم في صلاح الدين او المعادي ببراميله كل جمعة ، يضحكون و يبكون و يبتهلون لسماء صماء ان تنجدهم بدبابة أو بطائرة قبل أن تجز رؤوسهم ، أجمل ما في الحروب أن من يتحدث عنها لا يعرفها ، إنها البتراء ، منطقة كسارات جبلية بالقرب من الرحيبة ، كنت قد وصلتها مع رتل لجيش الإسلام إستعدادا لمعركة اللواء 83 على ما اذكر، الليل طويل و يجلس إلى جواري شباب من فصائل و ألوية مختلفة ، يتجادلون و يضحكون و يشتمون بعضهم بعضًا و يحتسون الشاي الثقيل المحلى بكميات مرعبة من السكر و كأنه خمرة ، شاب طويل أسمر ذا وشم فوضوي على ذراعه يتجادل مع صديقه من دير الزور عن لواء أمهات المؤمنين ، يقول عنهم أمهات المحششين و نضحك ، ثم يأتي دور شاب من ادلب ، يحدثنا عن وادي عميق ، يقتادون اليه أسرى جيش النظام ، يغمضون عيونهم و يقولون لهم ، حاجز النظام هناك ، اركضوا باتجاهه و الا اطلقنا النار عليكم ، سنعد من واحد لخمسة ، يركض الجنود بأقصى طاقتهم ، تزوغ عيناي ، أقف أمام بيت روماني أصبح عثمانيًا لأن قائدًا اسمه محمد هزم سكانه و طردهم ، ربما قتلهم أو استعبدهم أو بادلهم مقابل النقود ، تذكر كتب التاريخ عن بعض الفاتحين أنهم بعد أن "فتحوا" مدنًا ليست لهم ، أنهم قد أطلقوا سراح بعض الفقراء ممن لم يستطيعوا دفع الفدية المفروضة ، و في المدينة المنورة توزع بنات كسرى على الصحابة المقربين ، سبايا ، و العرعور يتحدث عن المجوس ، و فارس الحلو يصرخ الله أكبر في مشتى الحلو تلبية لنداء العرعور ، و لينين ينام على سرير القيصر الذي ذبحه للتو و أتساءل دون أن أعرف الجواب ، لماذا يوجد دائمًا من يتحدث عن الفقراء بينما يصمت هؤلاء ، أتذكر الآبار أو الجباب التي أصبحت اليوم مقابر جماعية و أتساءل ، كيف يمكن لهذه الأرض ان تستمر بالدوران …








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد الحالة الرابعة لنزع حجاب المتظاهرات.. هل تتعمده الشرطة ا


.. استشهاد طفلين وإصابة آخرين إثر غارة إسرائيلية استهدفت منزلا




.. طلاب جامعة بيرزيت يطردون السفير الألماني من المتحف الفلسطيني


.. نتنياهو: سنواصل الحرب حتى تحقيق أهدافها كافة بما في ذلك تنفي




.. باتيل: إذا لزم الأمر سنحاسب مرتكبي الجرائم بقطاع غزة