الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأدب والحياة

صلاح زنكنه

2021 / 11 / 14
الادب والفن


بيسر شديد أعتقد أن الحياة، هي ذخيرة الأدب، وأجزم بأن الأديب الذي لا يتوفر على تجربة حياتية غنية بمفرداتها وخواصها، لا يمكن أن يكون أديباً مهما فاعلا، أو يكتب أدباً ذا أهمية، ذلك أن الحياة، بكل تفاصيلها ودقائقها هي الخلفية الحقيقية والمدى اللا متناهي, بل المرجع الأصيل للأدب, وبهذا الصدد يكتب الناقد "جي ولسون نايت" قائلا (إن المسرحية الشكسبيرية حقاً سر غامض، أنها ليست الحياة، لكنها شديدة الشبه بالحياة) وهذا هو سر بقاء وديمومة أعمال شكسبير بلا مواربة.

لكن الخطأ الفادح, يكمن في الخلط الساذج بين الأدب والحياة، فالروائي "ديفيد لوج" يرى في روايته "تبادل الأمكنة" (إن الحياة شفافة والأدب معتم، والحياة نظام مفتوح والأدب نظام مغلق) فيما يعتقد ميشيل فوكو في كتابه "الأشياء والكلمات" إن (الحياة متكونة من أشياء والأدب من كلمات، وإذا كانت الكلمات في العصور الوسطى هي الأشياء والأشياء هي الكلمات، إلا إنها منذ بداية القرن التاسع عشر، مرحلة الفكر التاريخي المحض أخذت بالانفصال) وما عادت الكلمات تماثل العلامات وتطابقها, وإنما راحت تتبلور وتتبرعم وتتناسل, عبر شبكة من الدلالات الجديدة, المرتبطة بروح العصر ومنطقه وآلياته.

إن اللغة كائن حي, لا يتوقف عن النمو والتطور, لذا نرى في كل حقبة من الزمن سباقاً مغايراً ومختلفا للتشكيل اللغوي عما سبقها، يتجذر ويتساوق مع الكلام أداته التعبيرية الكبرى. والكلام هو أصل السلطة، سلطة الإنسان على الأشياء والموجودات, وعبره ومن خلال ثنائية اللغة، تتشكل المعارف والعلوم والآداب والحقائق.

وإن كل معرفة تنطوي على سلطة, حسبما يؤكد "ميشل فوكو" بل الحقيقة نفسها هي سلطة, وسلطة النص - الأدب, تترسخ عبر خطابه الإنساني المتجذر في أفق الواقع والعصر والحياة، ومدى تفاعل وتواشج النص مع رموز الحياة، واستيعابه لتجلياتها, هكذا تمفصلت سلامة النص المقدس الديني وسلطة الأساطير والحكايات والخرافات, ومن ثم سلطة النص الأدبي التي أسهمت كلها متضافرة بتكوين وجدان وثقافة وحضارة الشعوب عبر التاريخ.

وبما أن الأدب شكل من أشكال البحث عن الحقيقة، بل هو( الشكل الأكمل والأعمق للتعرف على المصير الإنساني) حسب "ارنستو ساباتو" فهو من هذا المنطلق يرتبط ارتباطاً وثيقا بالحياة، وببطلها المحوري الإنسان، والأديب الذي لا يلم بتفاصيل ودقائق واقعه ومحيطه وبيئته بكل تشعباتها ومخاضاتها وتناقضاتها ولا يخوض غمار عصره، يقف عاجزاً أمام تموجات الحاضر، وتتشوش رؤيته للـ (مستقبل) فيرجع القهقري الى (الماضي) ليلتقط رموزا ومسميات ويسقطها قسراً على (الآن - الحاضر) ليبث خطاباً بارداً جافاً (تهويميا) غارقاً في الفذلكة والتزويق والتلفيق.

قليلون هم الذين يفلتون من إسار السلفية، ومثالنا الشاعر العظيم "كافافي" الذي أنف الواقع (الحاضر) وأعتزل الحياة واعتمد بشكل شبه كلي على الإرث اليوناني في كتابة قصائده، لكنه استطاع أن يخلق موازنة شديدة الأهمية في خطابه الشعري، فهو بالرغم من انشداده وانبهاره بالمجد اليوناني العريق, حيث استمد من أساطيره وآلهته وأبطاله جل موضوعاته الاثيرة إلا إن همه كان الإنسان وارهاصاته, وبهذا كان شاعـراً معاصـراً وقصيدته "في انتظار البرابرة" مازالت حاضرة شاخصة بيننا بامتياز.

وبالمقابل أن الأديب ليس مؤرخا ولا ناسخا للـ (الواقع) بل هو خالق وراءٍ ومفكر، يستنطق الواقع ويسائله ويشاكله, وبالتالي ينتج واقعا آخر أكثر طراوة، واقعا ًحلمياً شفافا يصلح للمعيشة، وما الأساطير والحكايات والأغاني والأشعار والأسفار والرقى, سوى نتاج المخيال الشعبي الجمعي لتكون الحياة أكثر احتمالاً.

ويعطي الناقد "جان فاري جويو" في كتابه "مسائل فلسفة الفن المعاصرة" أهمية قصوى لدور الفكر والمعرفة في عملية الخلق الفني, ويقسم الشعراء الى فريقين (فريق يحس احساساً قوياً ويفكر تفكيراً ضعيفاً فيرى الحقيقة برؤية خاطئة، هؤلاء هم شعراء الطبقة الثانية، وفريق يحس احساساً قوياً ويفكر تفكيراً قوياً فيرى الحقيقة برؤية صحيحة, هؤلاء هم شعراء الطبقة الأولى)

ذلك لأن الشاعر الحقيقي والكاتب الفذ, هو مثقف فاعل, وبالرغم من أن صوت المثقف (وحيد لكنهُ يسمع رناناً) كما يقول إدوارد سعيد, كونه صوت الضمير والوجدان الإنسانيين وهو يشيد مملكة الحب والحرية والجمال عبر التزامه بقضية الإنسان, كل الأدباء الكبار هم مناضلون كبار, وإنسانيون بلا حدود, ولو لا هاجسهم الإنساني لما كانوا.
...
جريدة الثورة 25 / 7 / 1999
جريدة الصباح 25 / 4 / 2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا