الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنت موجود وغيرك موجود

أكرم شلغين

2021 / 11 / 14
الادب والفن


كانت فرحة الأب والأم كبيرة فقد نجح الولدان ذلك العام في الثانوية العامة بعد أن رسب الكبير في العام الذي سبق. لم يضع الأب وقتاً ولم يأل جهدا دون القيام بشيء يضمن مستقبلهما فسأل وفكر وتحرك وقرر أن يرسلهما للدراسة في فرعين، وبلدين، مختلفين. راح يوميا يتنقل بين قريته والبلدة الأقرب إليها ليستفسر هناك عما عليه عمله لإنجاز المطلوب وبالفعل بعد أيام قليلة عرف بقية التفاصيل وما هي إلا فترة قصيرة نسبيا حتى أنبأه أحدهم بخبر قبولهما ـ وكما رغب ـ في بلدين مختلفين ولدراسة ما أرادهما دراسته.
بعد ذلك بفترة لا تتجاوز الأشهر القليلة كانا يحزمان حقائبهما للسفر حيث الكبير سيدرس الشريعة في بلد عربي والآخر سيدرس الفلسفة في بلد غربي. قبل أن يغادرا وقف والدهما يعطي نصائحه لابنيه موضحا أنه ينتظرهما ليعودا حاملين لطرفي العلم الديني والدنيوي وأنهما سيساهمان في إعلاء اسميهما واسم العائلة وسيفرح جميع أهل القرية بأنهما تعلما في بلدان بعيدة وأحضرا العلوم منها ليعلماها للجيل القادم من أبناء القرية، ولم ينس أن يذكرهما بأن مصادر التمويل محدودة وهي مخصصة فقط للدراسة لذلك عليهما ألا يفكرا بشيء اسمه التنقل أو زيارة لهما، أي للأهل، قبل انتهاء الدراسة، أي بعبارة أخرى يجب أن يكون تفكير كل منهما منصبا فقط على الدراسة...ووقفت الأم أيضا تعطي نصائحها لهما بأن يتخذا الحذر ويركزان على دراستهما ليعودا فور تحصيل العلم ونيل الشهادة الجامعية.
يوم السفر، كان عليهما أن يذهبا ما زمنه حوالي الساعة بواسطة عربة خيل رثة الشكل يمتلكها أحد أبناء القرية إلى بلدة هي الأقرب ومنها سينتقلان باستخدام "سيارة بوسطة" ذهابا من تلك البلدة إلى بلدة أخرى أكبر ومنها سيذهبان بباص كبير إلى العاصمة ومن العاصمة سيذهب كل منهما إلى البلد الذي يقصده. وهناك تفرقا وذهب كل منهما إلى بلد مختلف وليدرس فرع مختلف من العلوم.
فور الوصول إلى البلد الذي قصده شرع كل منهما بالدراسة بجد وبرأس كل منهما برأسه فكرة أن ينتهي ويعود لينقل العلم والمعرفة للأجيال القادمة مع نشوة التفكير كيف أن الجميع سيفرح به وقد نال درجة عليا من الخارج. دراس الدين راح يتعمق أكثر فأكثر في زخم النصوص التي يتعلمها ويستمع لمحاضريه بشغف لينهل المعرفة التي يريدها...وكذلك كان دارس الفلسفة يفعل فقد كان يدرس ويتعلم ويتعرف بأسماء كبيرة وماذا تقول تلك الشخصيات وما هو فكرها في هذه الحياة. مضى عام وكل منهما على حاله منهمكا فيما يتعلمه.. ثم مضى عام آخر وثالث ورابع ومن ثم تخرج كل منهما بدون تأخير...وأراد كل منهما العودة بكل فخر وزهو لمكانه في بلده الأصل ليفرح وتفرح به جموع الناس.
كانت قصيرة هي الفترة التي تفصل عودة كل منهما على حدة للبلد الأم فقد وصل الأخ الأكبر، والذي درس الدين و الشريعة، للعاصمة أولا وعرف هناك أن أمور التنقل أصبحت أيسر خلال الأعوام التي مضت وأنه بالإمكان استخدام حافلة تقل المسافرين من العاصمة إلى جنوب البلاد وتمر بمدن رئيسة وبالكثير من البلدات والقرى على الطريق ومن بينها قريته. كان عليه الانتظار لكي تمتلئ الحافة بالركاب قبل أن تنطلق وهكذا بقي منتظرا حتى المساء وبعدها تحركت الحافلة ببطء وكانت تتوقف لتنزل هذا الراكب أو ذاك هنا أو هناك حسب الطلب...بعد مضي ساعات وبعيد منتصف الليل أعلن سائق الحافلة أنه ستوقف في المكان الذي وصلوا إليه للاستراحة لمدة نصف ساعة قبل أن يتابع الرحلة فمن يريد أن يحرك ساقيه بعد طول الجلوس أو من يريد قضاء حاجة فهناك أمكنة منشأة وسط تلك المنطقة لأغراض متعددة. استجاب الركاب لذلك ونزلوا وتفرقوا في كل الاتجاهات ومن بينهم الشاب الخريج الجامعي الذي مشى قليلا ليلتفت لوجود معبد فاره البناء والزخرفة فأثاره الفضول وأراد أن يتعرف أكثر، ومن الداخل، على ما يراه من الخارج. فور دخوله أصيب بالذهول فقد رأى تجمع على شكل نصف دائري من البشر يصلون لتمثالين لنفس الرمز أحدهما من الحجر والآخر من الخشب... لم يستطع تحمل ذلك المشهد وراح يصرخ بعالي صوته: "أمجانين أنتم تركعون وتصلون للحجر والخشب!؟ هل بنيتم معبدا لذلك؟ يا لكم من مجانين...يجب أن تفهموا أن هناك إله واحد نركع ونصلي له، لا لغيره. بيوت العبادة يجب أن تنحصر فيها الصلاة لإله واحد في السماء وليس لحجر أو الخشب يتعبده البشر..." لم يجادله أحد فيما يقول، بل هجم الجميع عليه وراحوا يكيلونه ضربا حتى سقط أرضا وتابعوا ضربه ولكمه حتى أدمى جسده وبعدها تابعوا بركله ودحرجته بأقدامهم حتى أصبح خارج المعبد مرميا على الأرض يئن من الألم. بعد ذلك مر بالقرب منه أحد ركاب الحافلة الذي ركض وأخبر بقية المسافرين الذين أتوا إليه وحملوه إلى الحافلة وضمدوا جراحه ثم تابعت الحافلة سيرها بعد انتهاء نصف ساعة الاستراحة وعند وصول إلى قريته وقفت الحافلة فساعده الركاب على النزول منها. وراح يجر نفسه ليصل بيت أهله.
بعد أيام قليلة، وصل الأخ الأصغر إلى العاصمة وعلم هناك أيضا عن الحافلة الكبيرة التي تنقل الركاب باتجاه الجنوب وهكذا حجز بها وانتظر تحركها الذي بدأ عند أول المساء وقد سارت ببطء شديد. وراحت الحافلة تنزل هذا الراكب هنا وذلك هناك على الطريق عند البلدات والقرى.. بعد منتصف الليل أعلن السائق ما اعتاد أن يقوله في كل رحلة عن أن استراحة لمدة نصف ساعة قبل أن يتابع الرحلة فمن يريد أن يحرك ساقيه بعد طول الجلوس أو من يريد قضاء حاجة فهناك أمكنة منشأة وسط تلك المنطقة ولأغراض متعددة. وهذا نزل الركاب وتفرقوا في كل الاتجاهات ومن بينهم الشاب الخريج الجديد الذي درس الفلسفة مشى قليلا فرأى معبدا مزينا مزركشا ينبعث منه الضوء فأثاره الفضول ودخل إليه وهناك شاهد الناس يركعون ويصلون لتمثالين أحدهما من الحجر والآخر من الخشب. كانوا يتمتمون بكلمات لم يفهمها وكل منهم يرفع راسه ليلتفت للتمثالين ليتمتم بالمزيد ثم يخفضه ويقول أشياء أخرى، ثم يركع قليلا وبعدها يغير من وضع جسمه ليعود ويكرر نفس الحركات ويتابع بالتمتمة...لم يستغرب مما رآه بل كان يفكر في داخله أنه يفهم أن يكون الناس بحاجة للدين وللمقدس وأنهم بحاجة ليمارسوا طقوس العبادة...اقترب منهم وقال بتودد: "كم أنا معجب بكم وكم أحترم عقيدتكم وكم أحب ما تقومون به من عبادة...! إن في رؤيتكم أجمل المشاهد إلى روحي..." وهنا التقت الأعين ببعضها وفرح كل أفراد جماعة المصلين وراحوا يقدمون له الطعام والشراب وتمنوا عليه لو يبقى بضيافتهم ولكنه اعتذر لأن أمامه سفر ليصل قريته. خرج من المعبد وهو فرح وأهل المعبد يرافقونه لخارجه. تابع سيره بسرور وهو يفكر أن جمال الدنيا بتنوع من فيها وبزركشة انتماءاتهم وعقائدهم....وصل الحافلة وصعد إليها وهي في الثواني الأخيرة من نصف ساعة الاستراحة قبل متابعة السير فتحركت وعند وصولها قريته توقفت ونزل منها.

في بيت وأهله كان الفرح كبيرا بعودته وراح الأهل والشقيق الأكبر يتساءلون عن كل شيء بدءا من الدراسة والشهادة ومرورا بتجربة حافلة العودة...وهناك راح كل من الشقيقين يروي ما حدث معه في نفس المعبد على طريق عودته بالحافلة. فشرع كل من الشقيقين يحكي قصة متناقضة مع الأخرى عن مواصفات أهل المعبد فالشقيق الأكبر رآهم كفرة ومجانين بينما رآهم الأصغر مضيافون ولطفاء..، وبعد سرد القليل من تجربة الأكبر كان للشقيق الأصغر ملاحظاته التي شرع يقولها لشقيقه الأكبر على مسمع والديه: "إن أردت أن تكون مقبولا في هذا العالم فعليك أن تكون كريما على الآخرين، وكما تحب وتقدس عقيدتك عليك أن تحترم عقائد الآخرين لأنها مقدسة لديهم، وإن كنت تظن أن عقيدتك هي الصح فعليك أن تفكر أن الآخر أيضا ينظر لعقيدته على أنها هي الصح الصائبة، ومن هذا المنطلق عليك أن تبحث في عقيدتك عما يجعلك تفهم عقائد الآخرين وتعتبر أن كلا منا يكامل الآخر.. لا أن تركز على نص يعتبرك أنت الوحيد الذي على صواب، إياك أن تقصي أحدا بسبب عقيدة أو أن تقلل من أهمية أحد في هذه الحياة فأنت موجود وغيرك موجود أيضا."








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال