الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غار عمري

نادية خلوف
(Nadia Khaloof)

2021 / 11 / 15
الادب والفن


ما أقصر العمر !كأنه البارحة يوم ميلادك . كانت ليلة قاسية فتحت عينيك في الساعة الخامسة صباحاً بدأت تصرخين ، وضعك الطبيب عارية على بطني فسكت . العمر لحظة علينا أن نتمتع بها . تعتقد أنك مقبل على تحقيق بعض الأحلام ، يفاجئك المرض ، وبينما كنت قد حضّرت حقيبتي للسفرإلى كندا ..أخبرني الطبيب عن مرضي ، أصبت بخيبة أمل. كنت أعتقد أننّي صحيحة الجسم ، لكن يبدو أنه لا بد من العلاج ، و أوّله العلاج الكيماوي .
أعياد الميلاد يجب أن تكون مناسبة للفرح ، وفي يوم ميلاد ابنتي كنت أود أن أكتب فرحاً ، لكن قلمي استعصى ، وفي هذا العام اخترته مناسبة للبوح ، ربما كي أئن ، فعندما تئن تحتاج لم يقول لك: لا عليك! لازالت الدنيا بخير ، رغم أنها ليست بخير .
أقول لا بنتي:
أبوح لك بتفاصيل عمري الصغيرة كي تحمليها
أبوح لك بوجعي ، آهاتي ، ذكرياتي التي لا تعرفينها
أبوح لك بأشياء لا أعرفها،وقد عزّ عليّ البوح
عزّ علي البكاء ، والنوح
أنتظر على مفرق الدهر صوتاً يؤنسني
أسمع ضجيجاً ، صراخاً ، أختبئ منّي
مارست لعبة الاختباء زمناً، أصبحت جزءاً مني
سوف أظهر اليوم
لن أختبئ ثانية
المرض فضحني
أصبحت أنظر للمرآة أرى ظلي
كخيط رفيع ، أطويه
أضعه في جيبي
كي لا أفلت منّي
بينما كنت أتناول جرعات الكيماوي ، كانت ترافقني ابنتي أحياناً ، نظرت مرة إليها ،وكنت أئن من الوجع ، قلت لها : اشتقت لسيناء " غار عمري سيناء " بكت ابنتي، وقالت لي سوف تكونين بخير .
في رحلة علاج الأشعة كنت وحدي ، ممنوع أن يرافقني أحد ، وفي عمليتي الأولى للإشعاع الداخلي كنت أعتقد أنني سوف أموت ، لم أحزن ،لأنني سوف لن أشعر بالموت لأنني تحت التخدير ، وجسدي هزيل جداً وكان المستشفى قد أعطاني الدم في الليل . أي أنهم طوال الليل كانوا يعطونني الدم تارة و يطلبون مني أن أستحم تارة، وهي المرة الأولى التي غلبني النعاس فيها فمنعت من النوم .
كان يحز بنفسي يا ابنتي أنّك سوف تحزنين وحيدة . في الحقيقة لم أمت رغم أن الأمر كان قاسياً وكنت في العناية الفائقة ، أهلوس بك "غار عمري سيناء" يبدو أنني كررت التعبير كثيراً لدرجة أن الممرضة التي تراقبني حفظته .سألتني : من هو غار عمري؟ ابتسمت : هذا ليس اسم شخص . إنّه تعبير لا يفهمه سوى أهل ماردين ،حتى في اللغة العربية ليس له تفسير ، يمكن أن تفسر : لينته عمري وتبقين ، وربما تفسر كما يقال يا بعد عمري .أو لايفسر على الإطلاق هو قصة عمر يغور .
في عملية الإشعاع الثانية، كان ضعفي قد وصل لحد الانهيار ، اجتمع في غرفة العملية أكثر من عشرة أشخاص ، بعضهم متدرب ، قالوا بماذا تشعرين ؟ أجبت : أغني لا بنتي الصغيرة نطّي. نطّي ، لم أشعر بعدها ، كنت منهكة بعد العملية، عندما استيقظت كتبت بضع كلمات : ادفنوا معي الأغاني التي ألفتها: نطّي ، نطّي. رقص نط ، رقص نط .
كنت أتواصل معك عندما أهدأ فتبادريننني بسؤال: متى قال الطبيب أنه يمكنك السّفر ؟ ماذا أجيبك ، ولا زلت تحت العلاج؟
لا يروق لي منظر البنات وهن يقبلن أمهاتهن كدليل على الحبّ، وبخاصة لو وضعت الصور على الفيس بوك ، وقد جرت تلك العادة في عيد الأم الفائت وضع تلك الصور، وهي من ضمن عملية التزييف القائمة على الفيس بوك ، تساءلت يومها: نحن لسنا هكذا ، ثم تساءلت عن الحبّ ، ورأيته شيئاً مبهماً يشبه الله و السعادة و الوطن . ليس بيننا هذا الزخم من القبلات ، لكن بيننا انتماء.
أنت تنتمين لي يوم كنت تحشرين نفسك في الخلافات العائلية، أتسامح من أجلك .
هل تذكرين ؟ كنت في الصف الخامس الابتدائي ، يوم جلست في حضني و أنا جالسة على الأرض في غرفة النوم العلوية ، بيديك الصغيرتين مسحت دمعي ، قلت لي: سوف تبقى صورتك في قلبي ، وكنت عازمة على الرحيل. ابتسمت لك ، قلت : لن أرحل من أجلك .
لا أشعر بما يدعى " الحبّ" تجاه أولادي ، بل أشعر بالانتماء لهم، و أنهم ينتمون لي، لذا أعقد صفقات السلام في عقلي بيني وبينهم ، وحتى عندما أنفعل و أخرج عن السيطرة عندما كنت أهاتفك أعود و اعتذر دون اعتذار ، أقول: هل إذا كانت ابنتي يتوجب عليها أن تكون نسخة عنّي ؟ يجب أن أبقى ذلك الانتماء حتى الموت، ولو مت فادفنوا أشعار الزجل و الأغاني التي ألفتها لكم معي ، كنتم حياتي ، وكنتِ أوّل من شكّل تلك الحياة .
عندما أرحل لا تبكي
تحممي بنور الشّمس
ضعي أغنية طرب
اغفي على أنغام الأمل
أحببت الأغاني
أحببت الحياة
أودعتكم حبّي الغامض منها
ضميني عن بعد
قولي أنّك بخير
أستطيع أن أستشعر كلماتك حتى عند الموت
لن أموت اليوم ولا غداً ، و لا أعرف متى أوضب حقيبة سفري كي آت إليك ، لكنّني متأكدة أنك سوف تكونين بخير .
قلت لك مراراً أن الحياة سوف تعطيك ، و أنا مؤمنة بما أقول .
لا يسعني إلا أن أقول لك اليوم : غار عمري سيناء !
ويمضي عمري
يغور كينبوع ماء
وتبقين أنت
تكونين أنا
ولا ينتهي المشوار
قادمة إليك لنزرع الحديقة
لنسافر
لنفرح
ثم أعود كما أتيت
وأبقى أنا هنا ، وأنت هناك
لكنك أنت ، و أنت أنا
مادمتِ أنا لماذا أخاف؟
سوف يزهر عمري
هنا وهناك
أنا لا أموت ياحبيبتي
فقط أغفو وتنتقل روحي إليك ، وتستمر الحياة . . .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ...
جوان علي ( 2021 / 11 / 15 - 18:51 )
سلامتك يا طيبة .. وسلمت سيناء .. ذكرتني بشطر بيت شعري يتيم بقي لجماله من قصيدة نسيتها أظنها للابنودي .. سينا مراعي القمر .. تحياتي


2 - تحياتي جوان
نادية خلوف ( 2021 / 11 / 16 - 12:39 )
عندما كنت في أوج مرضي كنت أقوى مني اليوم ، لكنها الحياة هكذا . تستحق ابنتي الكثير ، لكنه حصلت على القليل . هي ابنتي الكبرى ولولاها لما استمريت . أشعر أنها ولدت معي . محبتي لك وشكرا ولمشاعرك

اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا