الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جنرال الكتريك والإيمان بسحر الإدارة

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2021 / 11 / 15
الادارة و الاقتصاد


إن عملية تقسيم هذا المارد الأمريكي تبرز حقيقة إدارية أساسية: ما من استراتيجية بمقدورها أن تمحي أثر عقوداً من القرارات السيئة- أو أن تبطل مفعول تغييرات لا رجعة فيها في طريقة مزاولة العمل.

كتبه،
جايسون زويج

وول استريت جورنال
13 نوفمبر 2021

لقد انتهت جنرال الكتريك، نموذج الشركة الحديثة طيلة عقود من الزمن، عقب إعلان المارد الصناعي المتنوع هذا الأسبوع عن نيته الانقسام إلى ثلاث شركات متخصصة. فما هي يا ترى الأسباب التي أوصلتها إلى هذا المصير؟

إن انطباعاتنا الأولية لمسببات أفول الشركات ثم سقوطها قد تتمحور حول انهيارات من شاكلة انرون في 2001 أو ليهمان برازرز هولدنجز في 2008 أو ثيرانوس في 2018، حيث أظهرت هذه الانفجارات المدوية أن الشركات على ما يبدو قد تقطع المسافة من ذروة المجد إلى حضيض الفشل والإخفاق في طرفة عين.

بيد أن تقسيم جنرال الكتريك يبرز كذلك عاملاً آخر من عوامل حياة الشركات ومواتها. وكما عبر عن ذلك ارنست هيمنجواي في "والشمس تشرق أيضاً"، يأتي الإخفاق عادة في صورتين: "متدرجاً ثم فجائياً".

كانت جنرال الكتريك تتباهى بثقافة تعلي من قدر الإدارة إلى مرتبة العلم. غير أن عملية التقسيم تبرز حقيقة قد لا يطيب لكثير من التنفيذيين الإقرار بها:

الإدارة تعني الكثير حقاً، لكنها قد لا تعني بقدر ما تتخيلون (خاصة إذا كنتم الإدارة).

الدوائر الاقتصادية والتجارية هي في الغالب أكثر أهمية للشركة مما يفعله مديروها. وقد تتسبب الجهود المخلصة لمحي أثر ما فعله السلف في تكبيل المدراء الحاليين بأعباء إضافية فلا يستطيعون إنجاز ما كانوا سينجزونه خلافاً لذلك.

لقد ظلت التكتلات تحقق نمواً منذ الأربعينيات إلى السبعينيات، حتى أصبحت تحيط بكل شيء. كانت شركات قابضة مثل شركة الهاتف والتلغراف الدولية وشركة الخليج والصناعات الغربية تمسك في قبضتها عشرات الشركات الأصغر على أساس الاعتقاد في أن الكل أكبر من مجموع أجزائه.

ورسخت شركة آي تي تي فكرة أن صفوة المدراء بمقرات التكتل سيوفرون الخبرة المطلوبة في المحاسبة والشحن والتوظيف وبراءات الاختراع ومراقبة المخزون والبحث والتطوير.

ثم، في السبعينيات، توقف المستثمرون عن المزايدة على أسهم التكتلات؛ وتعثرت آي تي تي وأقرانها. لقد انتهت موضة التنويع، وحل محلها التخصص في حفنة صغيرة من الأعمال الأساسية. من ثم اضطرت تكتلات عدة لتقسيم نفسها حتى تثبر قيمة ظلت محتجبة خلف كدس من المشروعات المتنافرة.

ثمة ريح مماثلة تتجمع عبر الأفق في الوقت الراهن. فمباشرة بعد إعلان جنرال الكتريك هذا الأسبوع، صرح عملاقان آخران، توشيبا وجونسون أند جونسون، بنيتهما الانقسام إلى وحدات منفصلة تركز على مجموعة محددة من الأنشطة التجارية. (جدير بالذكر أن جونسون أند جونسون لا تعد تكتلاً بالمعني التقليدي.)

لقد تأسست جنرال الكتريك في عام 1892 ونجحت في الاستفادة بداية من ولع سوق الأسهم حينذاك بالحجم والتكتل، ثم فيما بعد عبر التخصص في مجموعة مركزية من الأنشطة ستظل تدعم نموها طيلة عقود: السلع الاستهلاكية، والطاقة والكهرباء، والخدمات المالية، والبنية التحتية والتكنولوجيا (بما في ذلك الرعاية الصحية)، والإعلام.

كان الرئيس التنفيذي الراحل جاك ويلش، الذي شغل المنصب من 1981 حتى 2001، بارعاً في اللعب على كلا الحبلين، ليعقد زهاء 1.000 عملية استحواذ وصفقات أخرى على طريقة المتكتلين- لكنه، على شاكلة الأخصائيين المركزين هذه المرة، كان حريصاً في الوقت نفسه على أن تبقى جميعاً في نطاق عدد محدود من القطاعات.

لقد ظلت جنرال الكتريك كابيتال، وحدة الخدمات المالية التابعة للشركة، مزدهرة بفضل هبوط أسعار الفائدة طيلة عقود من الزمن. كانت شركة جريئة تقتحم كل شيء من عربات السكك الحديد والرهون العقارية السكنية إلى قروض السيارات في تايلاند، وتجني من وراء مغامراتها تلك أرباحاً طائلة.

الموسم تلو الآخر، ظلت مكاسب جنرال الكتريك ترتفع باطراد وسلاسة منقطعة النظير، لتتربع منفردة ولأمد طويل على عرش مملكة الشركات بلا منافس تقريباً.

ومثل شركة آي تي تي والتكتلات الأول، كانت جنرال الكتريك تتباهى بتدريبها المحكم لمديريها. ففي 1956، أنشأت الشركة "معهد القادة" في هدسون فالي بنيويورك حيث انكب آلاف التنفيذيين على دراسة أحدث التقنيات لتحسين عملياتها واستراتيجيتها. ثم تناوبت النجوم الشابة الواعدة الأدوار فيما بينها من مشروع لآخر وعبر المواقع حول العالم.

بحلول الألفية الثانية، كانت الشركة تنفق 1 مليار دولار سنوياً على التدريب. ما من مشكلة تستعصي على الحل. فعلى حد تعبير الرئيس التنفيذي جيف ايميت في تقرير الشركة السنوي 2001، "نستطيع الجلوس معاً حول المائدة والتباحث في أي فئة من المسائل ثم نطرح السؤال ‘ماذا ترون؟‘ لنصل إلى ‘الجواب الصحيح‘ بصدد أغلب المسائل الهامة".

بدا هذا النظام معصوماً من الخطأ لزهاء قرن من الزمان.

لدى تحليلها لأكبر 100 شركة من حيث القيمة في سوق الأسهم عام 1912، وجدت المؤرخة الاقتصادية ليزلي هانا أن 21% منها فقط هي التي بقيت من بين أكبر 100 شركة في عام 1995. اختفى قرابة النصف، بينما تقلص حجم أغلب الناجون.

بيد أن جنرال الكتريك لم تظفر ببقائها على قيد الحياة فحسب، بل ازدهرت أيضاً. من سابع أكبر شركة في عام 1912، كانت هي أيضاً رقم 2 على مستوى العالم في عام 1995، لا يسبقها سوى مارد الطاقة رويال داتش شل.

وفي ربيع عام 2000، حتى وسط تداعي أسهم شركات الإنترنت، صعدت القيمة السوقية لجنرال الكتريك، لتتربع في رقم 1 وسط جميع الأسهم الأمريكية عند قرابة 550 مليار دولار. وحتى في مطلع أكتوبر 2008، كانت جنرال الكتريك لا تزال هي ثاني أكبر شركة، وفقاً لمركز البحث في أسعار الأوراق المالية.

ثم شُرعت أبواب الجحيم على مصراعيها. فبحلول أواخر مارس 2009، كانت القيمة السوقية لجنرال الكتريك قد هبطت إلى 105 مليار دولار من 214 مليار دولار لدى تبخر جنرال الكتريك كابيتال في أتون ما اقتحمته من مخاطر مفرطة. وفي مساعي جنرال الكتريك لسد احتياجاتها التمويلية، استثمرت شركة بيركشاير هاثاواي التابعة لوارن بافيت 3 مليار دولار وضمنت الحكومة الأمريكية عشرات المليارات في صورة دين.

كان ذلك الانهيار يتشكل منذ عقود. لقد تتبع نيكولاس هيمان، مدقق داخلي أسبق في جنرال الكتريك ويعمل الآن محلل أوراق مالية لدى وليام بلير وشركاه، خط سير الشركة لنحو 40 عاماً، ويرى أن مشاكل جنرال الكتريك تعود على الأقل إلى عام 2000-2001، حين أرجأ السيد ويلش تقاعده لكي يعيد تشكيل جنرال الكتريك عبر الاستحواذ على التكتل المنافس، شركة هانيويل الدولية.

في نهاية المطاف فشلت الصفقة المقدرة بمبلغ 45 مليار دولار وحافظت هانيويل على استقلاليتها، لكن جنرال الكتريك ضلت الطريق، على حد قول هيمان. لقد ركزت الشركة كل طاقاتها على عملية استحواذ ضخمة في ذات الوقت الذي كان الاقتصاد ماض فيه نحو ركود حاد. ويتساءل: "حين تتخلف للوراء على هذا النحو، كيف ستستطيع اللحاق؟ تتمدد رأسياً وأفقياً".

نفذت جنرال الكتريك سلسلة من عمليات الاستحواذ الكارثية، من ضمنها صفقة بقيمة 14 مليار دولار لأصول سينمائية وتلفزيونية ونحو 10 مليار دولار لشركة علوم بيولوجية.

وأدت المساعي لإدماج بعض من تلك الاستحواذات البلهاء، علاوة على تباطؤ النمو في موضع آخر بالشركة، إلى دفع جنرال الكتريك كابيتال إلى حافة الجنون. ما من خيار أمام الإدارة؛ كان لابد أن تتدفق المكاسب من مكان ما حين كانت أجزاء الشركة الأخرى تتداعى. وما كان باستطاعة جنرال الكتريك كابيتال "أن تحقق عائدات أعلى سوى عبر اقتحام مخاطر أكبر"، على حد قول زميلاي توم جريتا وتيد مان في كتابيهما "انطفاء الأضواء: الكبرياء والوهم وسقوط جنرال الكتريك."

كان الانخفاض في أسعار الفائدة والرواج في أحوال السوق من العوامل التي أبقت تلك المخاطر تحت الرماد- حتى ضربت الأزمة المالية 2008-2009 وانفجرت إلى السطح. حينها هلع المستثمرون فجأة وأحجموا عن دعم عملية اعتمدت بشكل مبالغ فيه على الدين. وأصبح يتعين على جنرال الكتريك كابيتال أن تنكمش، مما قلص التدفقات النقدية التي ظلت لمزمن طويل تغذي مكاسب الشركة الأم.

كانت جنرال الكتريك تمتلك دائماً عملية محكمة لتقييم المخاطر والصفقات عبر مشروعاتها، ومن ضمنها جنرال الكتريك كابيتال، على حد قول الشركة.

طيلة الجزء الأكبر من حياتها، ظلت جنرال الكتريك متواجدة في المكان الصحيح في الوقت الصحيح. لكنها الآن تقف في المكان الخاطئ في الوقت الخاطئ- ولم تنفع خبرة الإدارة العبقرية في تجنيب جنرال الكتريك ويلات المصير المحتوم. في عام 2015 دفعت الشركة 10 مليارات دولار لعملاق الطاقة الفرنسي شركة ألستوم. ثم في 2017، وضعت 7 مليارات دولار في مشروع مع شركة خدمات الطاقة بيكر هيوز. لكن بداية من 2018، أخذت أسعار الطاقة في التراجع، ومن ثم باعت جنرال الكتريك معظم حصتها بمشروع الطاقة في 2019.

إن دوام النجاح لفترة طويلة من الزمن يكسب الشعور بالرضا والثقة بالنفس. تقول ريتا ماكغراث، أستاذ الإدارة بكلية كولومبيا للأعمال التتدرس تغير الشركات وسبق لها العمل لدى جنرال الكتريك، أن الاتجاه الغالب وسط مديري الشركات مطلع الألفية الثانية كان كالآتي: "لا يهم ماذا نصنع؛ المهم هو كيف ندير."

كانت جنرال الكتريك تراهن على أن "تكنولوجيا الإدارة سوف تنقذهم دائماً"، على حد قولها.

بيد أنه ما من تكنولوجيا إدارة بمقدورها أن تمحي أثر عقوداً من القرارات السيئة- أو أن تبطل مفعول تغييرات لا رجعة فيها في طريقة مزاولة العمل.

في التقرير السنوي 1999، كتب جاك ويلش أن "الكتريك" في "الكتريك جنرال" قد ترمز إلى "التجارة الإلكترونية" وأن الدافع إلى الرقمنة أكسب الشركة "شفافية وحماسة وحيوية الشركات الشابة. لكن نظام الإدارة المصمم لتحقيق كفاءات تدريجية ما كان يستطيع أن يحقق القفزة من العصر الصناعي إلى العصر المعلوماتي.

في بداية 2010، أطلقت جنرال الكتريك منصة ضخمة للبيانات والتحليلات من أجل "الإنترنت الصناعي" أسمتها بريديكس، وأنفقت عليها وفقاً لما يُشاع نحو 5 مليارات دولار. لكن المحاولة كانت ضئيلة للغاية، ومتأخرة للغاية، لدرجة لا تفيد. ففي هذه الأثناء، كانت ميكروسوفت وأمازون وشركات أخرى قد نمت إلى تكتلات العصر الجديد، تقدم جناحاً من خدمات التكنولوجيا يلبي الاحتياجات الأساسية للصناعة المعاصرة أشبه بما قد ظلت جنرال الكتريك تقدمه لزمن طويل في الماضي.

بالمثل، كانت صفقة جنرال الكتريك بمبلغ 10 مليارات دولار لشراء ألستوم في 2015 تقوم جزئياً على علة أن الغاز الطبيعي سيبقى وقوداً مهيمناً لمحطات توليد الكهرباء. لكن اليوم، أصبحت الطاقة الخضراء هي الموضة. وباتت جنرال الكتريك ذاتها تسابق لكن متأخرة في ذلك الاتجاه؛ إحدى تقسيماتها الثلاثة سوف تركز على "الطاقة الميسرة والموثوقة والمستدامة"، على حد تعبير الرئيس التنفيذي لاري كولب هذا الأسبوع.

في أسواق اليوم، صناديق المؤشرات المتداولة جعلت التنويع أمراً ميسوراً. وربما ما يريده أغلب المستثمرين من الرؤساء التنفيذيين هو التركيز على عدد محدود من الأعمال، وليس على تقديم حزمة كبيرة منها يستطيع المستثمرون استنساخها بأنفسهم في صندوق مؤشرات متداولة بتكلفة منخفضة ومخاطر أقل.

لذلك التكتلات الصناعية في طريقها إلى الأفول، في أيامنا هذه على الأقل. وكذلك يجب أن تأفل معها شمس الأسطورة القائلة بأن الإدارة العظيمة تستطيع دائماً أن تصنع المعجزات.
_____________________________________
ترجمة: عبد المجيد الشهاوي
عنوان المقال الأصلي: https://www.wsj.com/amp/articles/ge-what-went-wrong-11636762439?mod=hp_lead_pos8








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمين عام -الناتو- يتهم الصين بـ”دعم اقتصاد الحرب الروسي”


.. محافظات القناة وتطويرها شاهد المنطقة الاقتصادية لقناة السو




.. الملاريا تواصل الفتك بالمواطنين في كينيا رغم التقدم في إنتاج


.. أصوات من غزة| شح السيولة النقدية يفاقم معاناة سكان قطاع غزة




.. عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الخميس 25-4-2024 بالصاغة