الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العالقون على حدود بولونيا، أي درس؟

راتب شعبو

2021 / 11 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


يمكن لحالة العالقين على الحدود البيلاروسية البولونية أن تفيد في فهم العالم واتجاه حركته. يقدر عددهم بحوالي 4000 حالماً باللجوء إلى أوروبا، من مختلف الجنسيات، وإن كانت غالبيتهم من الكرد والعرب (سوريين وعراقيين). ويقال أن هناك حوالي عشرة آلاف آخرين ممن وصلوا بيلاروسيا دون أن يصلوا إلى الحدود مع بولونيا بعد. بيلاروسيا سهلت الحصول على فيزا إليها، لا لكي تبقي الناس فيها بل كي توصلهم إلى حدود بولونيا، كنوع من الضغط على الاتحاد الأوروبي ليرفع العقوبات التي فرضها على بيلاروسيا بسبب سياساتها القمعية. الاتحاد الأوروبي يرى في سلوك بيلاروسيا حرباً هجينة، ويقول مسؤولون فيه إن الحرب مع روسيا (ظهيرة بيلاروسيا) لم تكن وشيكة من قبل كما هي الآن. يستنفر حلف الناتو إذن بسبب وقوف بضعة آلاف من طالبي اللجوء على حدوده، مات منهم حتى الآن أكثر من عشرة أشخاص بسبب البرد.
لا حاجة للقول إن هؤلاء القادمين إلى بيلاروسيا لم يأتوا إليها إلا بوصفها بوابة للعبور إلى بولونيا ومنها إلى باقي دول الاتحاد الأوروبي. الحقيقة أن هؤلاء اليائسين الحالمين، والآلاف غيرهم ممن يحاولون عبور الحدود إلى أوروبا من كل مكان ممكن، يمثلون عشرات الملايين من أبناء بلدانهم، ممن يحلمون ليل نهار بالفرار من بلدانهم إلى دول الاتحاد الأوروبي، وبشكل خاص إلى دول وسط وغرب أوروبا.
شعوب كاملة أحالها تحالف قذر يجمع التسلط مع الفساد مع الجريمة المنظمة في بلدانها، إلى كتل بشرية فقيرة مهانة بائسة تسعى إلى الخلاص من تحت سيطرة هذا التحالف الصلب الذي يستعمر الدولة، تحالف ارتد عليها بالمزيد من التسلط والإجرام حين حاولت رفعه قليلاً عن كاهلها، فلم يبق لها سوى الفرار أملاً. العالقون على حدود بولونيا يديرون ظهورهم إلى بلدانهم ويستقبلون أوروبا التي لا تستقبلهم، ومع ذلك يسمون حطام أرواحهم "قافلة الأمل". ليس أملاً بشيء أكثر من حدود معقولة من الحياة الكريمة.
مع الأخذ بالاعتبار نواقص الديموقراطية الأوروبية وخللها الداخلي أو "أعداءها الحميمين"، بحسب تعبير تسفيتان تودوروف، وما تكشفه الصحافة الاستقصائية الأوروبية من فساد وتمييز وتجاوز للقانون ... الخ، فإن شروط الحياة في البلدان الأوروبية تبقى متقدمة قياساً على العالم كله، من شتى نواحي الحياة، وعلى رأسها الحريات السياسية والفردية وسياسات الضمان الاجتماعي. لقيم حقوق الإنسان في هذه البلدان وزن معتبر لأنها تدخل في تكوين الوعي العام الذي يحوز على وزن بدوره لأنه يساهم في اختيار السلطة السياسية. هذا الواقع "الانساني" مفقود أو شبه مفقود في معظم العالم خارج البلدان الأوروبية، وهو ما يجعل من هذه الأخيرة مقصد اللجوء الأول في العالم.
بسبب جاذبيتها، تنشغل البلدان الأوروبية بمعالجة مشكلة الهجرة إليها، وتنفق الكثير في سبيل صد سيول المهاجرين، وفي هذا الانشغال تتم إدارة الظهر لكل القيم الإنسانية التي تشد الناس أصلاً إلى هذه البلدان. تقوم الدول الأوروبية بدعم ديكتاتوريي بلدان العبور في أفريقيا لصد موجات المهاجرين ومنعهم من الوصول إلى البحر المتوسط، ويجري رهن تقديم المساعدات للدول بسياستها تجاه الهجرة، هذا إضافة إلى دعم ميليشيات وتحويلها إلى خفر سواحل. وهكذا بدلاً من خوض غمار السفر بالبحر نحو حلمهم، يجد الحالمون أنفسهم في سجون تشبه معسكرات الاعتقال معرضين لكل صنوف الإذلال والاستغلال إلى حد العبودية، بمباركة أوروبية.
في الداخل الأوروبي، تتآكل القيم الديموقراطية تحت ضغط الصعوبات الاقتصادية الناجمة عن التنافس العالمي، ويكسب الميل القومي الانغلاقي زخماً قوياً ويجد تعبيره الأبرز في قضية الهجرة، فيصل الأمر إلى حد المطالبة ببناء جدران تعزل الاتحاد الأوروبي عن خارجه، كما تفكر بولونيا اليوم إزاء مشكلة العالقين على حدودها مع بيلاروسيا. "العالم الحر" يغلق حدوده في وجه الخارج القادم إليه، فيما كان السوفييت يغلقون حدودهم في وجه شعوبهم بغرض منعهم من التواصل مع "العالم الحر".
في الحالتين لا يبقى الداخل معزولاً عن سياسة الإغلاق أو الانعزال التي لا بد أن تنعكس في انقسامات داخلية، ولا بد أن تحتضن بروز تيارات سياسية يمكن أن تقوض البناء السياسي الذي يُراد حمايته ببناء الأسوار العازلة من حوله. صحيح أن أوروبا لا يمكنها أن تستوعب كل الراغبين في الهجرة إليها، ولكن الصحيح أيضاً أن سياسة الاتحاد الأوروبي مع الواصلين إلى حدوده، مؤشر على بداية أفول النموذج الأوروبي، وهذا يعني خسارة عالمية كبرى.
انتهاك حقوق الانسان لحماية حقوق الانسان، التخلي عن القيم لحماية القيم، هذا ما يمكن أن يصف الموقف الأوروبي حيال اليائسين ممن يغامرون بحياتهم لدخول البلدان الأوروبية، أو الموقف الأوروبي المساند لأنظمة ديكتاتورية متعاونة في موضوع الهجرة.
الموقف من قضية الهجرة يشكل اليوم في أوروبا برنامج انتخابي كامل، يعادل، وربما يتفوق على، قضية الطاقة والمناخ والصحة والقدرة الشرائية ... الخ، ولاسيما حين يتم ربط موضوع الهجرة بالأمن والهوية و"صراع الحضارات". أحد أقطاب اليمين المتطرف الفرنسي (وهو من أصول إيطالية) يسمي محاولة المهاجرين، أو المهجّرين بالأحرى، الدخول إلى بولونيا "غزواً"، وآخر يصرح بأنه يفضل أن يموت هؤلاء العالقون على الحدود من البرد، على أن يدخلوا الاتحاد الأوروبي.
أسوأ النزعات السياسية في أوروبا تجتمع في هذا النزوع الديموقراطي القومي الانغلاقي والضيق الأفق الذي يغذي الخوف من آخر لا يكف عن التكاثر، من الآخر الذي خارج الحدود الأوروبية، إلى الآخر الأوروبي، إلى الآخر المختلف المنبت في البلد نفسه، وصولاً إلى الآخر المختلف في العقيدة والرأي السياسي، مسار ينتهي إلى خنق القيم التي يظن أو يزعم أنه يدافع عنها. كما تهيأ لأسوأ النزعات السياسية الأوروبية وأكثرها كارثية، أن تصعد على ذراع "اشتراكي قومي"، في النصف الأول من القرن العشرين، كذلك تبدو "الديموقراطية القومية" اليوم حاضنة دافئة لمثل هذه النزوعات التي تشتد اليوم في كل أوروبا، وتحرف كامل المشهد السياسي الأوروبي إلى اليمين.
لن يكف الناس من كل مكان عن محاولة الوصول إلى أوروبا، ولن تجد هذه من وسيلة سوى المزيد من "الهمجية" لتحصين نفسها. إما أن ننجو في العدل معاً أو نغرق في البؤس معاً، هذا هو الدرس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا تعلن استهداف خطوط توصيل الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا |


.. أنصار الله: دفاعاتنا الجوية أسقطت طائرة مسيرة أمريكية بأجواء




.. ??تعرف على خريطة الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية


.. حزب الله يعلن تنفيذه 4 هجمات ضد مواقع إسرائيلية قبالة الحدود




.. وزير الدفاع الأميركي يقول إن على إيران أن تشكك بفعالية أنظمة