الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات طفولة..السجن ليس لنا .12.

مهند البراك

2021 / 11 / 21
الادب والفن


السجن ليس لنا

تغيّرت حياتنا بعد فصل الوالد، و صارت جديّة اكثر بعد ان قلّت الافراح بفعل اعتقال الوالد و شعورنا باننا مراقبون و بسبب الضائقة المالية بعد فصله من وظيفته كمعلم، التي صرنا نعيشها بحساب ثمن كل شئ نريد شرائه، و صرنا نتجنب الحديث لأحد عن بيتنا و اهلنا و خاصة عن ضيوف الوالد . . و رغم جهود الوالدين بعدم اشعارنا بما نمرّ به، الاّ اننا كنا نلاحظ ان الفاكهة كانت لنا نحن الاطفال فقط و لم نفهم لماذا لم يأكل منها والدانا لانها كانت غالية الثمن . . و كنّا نلاحظ ان والدنا كان مشغولاً بهموم وامور بدى لنا انها اكبر من هموم البيت . .
في احد الايام جاء الوالد فرحاً و هو يقول :
ـ نقلوا يقظان من نقرة السلمان الى السجن الجديد في بعقوبة ! و اخذت موعداً لزيارته هناك . . سنذهب كلّنا !!
كانت الانباء قد انتشرت، بأن السلطة قد اقامت سجناً اميركياً (حديثاً) للسجناء السياسيين . . في بعقوبة، و قد نقلوا عدداً من سجناء نقرة السلمان السياسيين المحكومين باحكام ثقيلة اليه، و صار ايضاً محطة للسجناء المنقولين مؤقتاً اليه لأغراض متنوعة كإعادة تحقيقات او محاكمات، او اعادة نظر بالعقوبات بين تخفيف و تشديد او قضايا اخرى لاتُعرف و لم يُعلن عنها، لأنها تخص (أمن الدولة) كما كان يُعلن . .
ذُهلنا نحن الاطفال من الخبر و من أننا سنستطيع رؤية ابن العم الكبير يقظان، العائش معنا بصورته المعلقة في غرفة الضيوف، رؤيته بشحمه و لحمه لأول مرة . . و هو القديس و الروح المقدسة التي سكنت بيتنا، الروح التي جعلت والدي الحازم الحنون يبكي و هو يتأملها و يعيد تأملها، و يحاول اخفاء دموعه كي لانراها كلما دخل الى غرفة الضيوف و نظر الى الصورة و كان وحيداً . .
ركبنا باص صغير مع عوائل ملأته . . و سافر بنا الى بعقوبة، الى بقعة فوق رابية في مكان خالي من البيوت و من المزارع و الحقول، نزلنا من الباص و بدأنا بالسير و كانت هناك عشرات العوائل تسير بنفس اتجاهنا، ممن خرجت من باصات اخرى و ممن قدموا من شوارع ترابية فرعية هناك . . لنلتقي بعشرات او مئات عوائل اخرى كانت قادمة بمقابلنا من الجهة الأخرى . .
كان الجميع يسيرون صامتين و ينظرون الى الأسلاك الشائكة المكومة على امتداد جانبي الشارع الترابي الواسع، حتى ظهر المعتقل من تلك الرابية العالية . . كان المعتقل مكوناً من ثكنات عسكرية مبنية على شكل مجاميع من صفوف متوازية ، بدت بيضاء اللون رغم اتساخها بسبب الغبار الذي ثبت عليها بالمطر باشكال رسمتها المياه المنسابة . .
كان المنظر لايُنسى بإثارته للرهبة في ذلك اليوم الغائم الممطر . . صفوف الثكنات النظامية المقسّمة الساحات و بينها بالأسلاك الشائكه، الواقف عند كل زاوية من تلك الزوايا العديدة مسلّح بملابس نظامية وبخوذة وواقفا وقفة استعداد، يفهم منها انه مستعد للأطلاق في كلّ وقت . . لم يُرَ اثرٌ لموقوفين فيها او بينها . . كان الصمت يلّفها و يخيّم عليها . .
وكانت البقعة العامة لكل موقع المعتقل ـ بكلّ ثكناته ـ محاطة باكثر من صفيّن من الأسلاك الشائكة الكثيفة والمرتفعة بقدر قامة انسان . . كانت تحيط بالمعتقل و في كل منها موقع محاط باكياس
رمل و مغطىّ بالنايلون . .

كنّا نسمع والدي و هو يحدّث والدتي . . هنا كأنما صورة مصغّرة للعراق !! شوفي سعاد ذوله كرد مبين من لبس قسم منهم وتجمّعهم على بعضهم، الله يدري مساكين منين جايين ! هذوله بيض حمر ونساء سافرات يعني في الغالب مسيحيين . . شوفي هذوله معممين . . هذوله يزيدية من ملابسهم . . واحنا عرب حتى بينّا السني والشيعي الواضحين من شكل العمايم . . شوفي ذوله خطيّة يبيّن جايين من الجنوب من النجف والناصرية و البصرة . . قسم منهم ديصلّون . .
ـ لعد شنو يكولون الشيوعيين ماعندهم دين ؟!
ـ صدّقتِ بهذا الكلام الفارغ ؟ اكُلّج منو الماعنده دين احنا و اهلنا ؟ لو هذا اعوص العين السريّ بالمحلة الذي اعتدى على بنت الجيران وكل الناس تعرف و ساكته من خوفها منّه. . منو الكافر و الماعنده دين ؟ سعاد هذه سياسة و مصالح و ملايين ونفط !!و لم نفهم نحن الصغار ماعلاقة النفط و بيّاع النفط المسكين بتلك المشاكل . .
و قرب باب النظام، توحد الحشد و ازدحم للمرور من خلال نقطة ضيّقة لسيطرة عسكرية كبيرة مكونة من عشرات رجال الشرطة و وحدات عسكرية شاكّة السلاح، اضافة الى مدنيين مسلحين كانوا يدققون الهويات ويسمحون و يمنعون ويصيحون و يهددون . . بل واعتقلوا اثنين تحت انظارنا . .
و لم يسمحوا بتكوين طابور، خوفاً من (تهدّم القنطرة) كما كانوا يقولون و التي لم نشاهدها . . و كانت تتصاعد من الحراس صيحات (ماكو زيارات اليوم حسب برقية القيادة !!) التي كانت لاتؤدي الاّ الى تصاعد و سيادة الهرج و المرج وسط زعقات رئيس الحرس :
ـ كافي صياح لَكْ !! تره صدك نلغيها اليوم و نضربكم اذا ماتصيرون عقّال !! . . احنا دا نتباحث مع القيادة !!
بينما انشغل الحرّاس بضربنا بالعصي و الدونكيات صائحين : نظام نظام !! ناسين او مفتعلي نسيان اننا كنا نقف منذ اكثر من ساعة تحت المطر و الشارع الترابي و النقطة الضيقة صاروا طين، بدون سبب، و اوضح احدهم في تفسير ذلك بأنهم يضغطون و يعذّبون عوائل المعتقلين السياسيين كعقوبات عليهم لأنهم لم يضبطوا ابنائهم و ذويهم و لم يمنعوهم من النشاط السياسي، ان لم يكونوا حسبوهم شركائهم في جريمة (ممارسة السياسة) . .
الى ان وصل الأمر بحركة الزائرين الى السجن و فُتح بابه . . و كنّا تحت ذلك الضرب بالعصي و الدونكيات، الذي خلاله سقطت امرأة كردية مسنّة على الارض لأن ضربة الدونكي كانت قوية و جاءت على ظهرها و اقعدتها على الارض امام ضغط تدافع الزوّار الماريّن في تلك النقطة الضيّقة . . ركض والدي اليها و اسندها لتقوم و تمشي مؤشراً لوالدتي بالمضي معنا و بانه باقي مع تلك المرأة ليساعدها على المرور، و قد عرف منها انها ام السجين السياسي المحكوم مؤبد عزيز محمد، و انها جاءت من اربيل صحبة عوائل سجناء الاحكام الثقيلة و المبعدين عادل سليم و نافع يونس، و كان يعرف الصداقة القوية بين يقظان و عزيز محمد، و بقيت الام تتشكّره بعربيتها الضعيفة و تستند عليه الى الساحة الداخلية و هو يتبادل النظر و الاشارة مع والدتي للوصول الى تلك الساحة . .
جلسنا في الساحة الضيّقة المحاطة بسور عالي يصل الى ثلاث قامات، و يُشعر الرجل بضآلة حجمه و جاء السجناء للقاء احبّتهم و جاء بينهم شاب نحيف متوسط القامة الذي صاح والدي لدى رؤيته ( اهــــــــــلاً يقظان !! ) و كان الاسم الذي اشتهر به ابن عمي " عدنان البراك " . . تصافحا و تعانقا بقوة لم نألفها نحن الصغار فيما كانت السلاسل التي تكبّل عدنان ترنّ بقرقعة عالية . . و شاهدنا سجناء مربوطين بسلاسل مثبتة الى كرات حديدية ثقيلة كانوا يحملوها الى جانبهم او الى ظهورهم في حركتهم من بينهم المحامي عبد الرحيم شريف . . كان السجناء من كل القوى الوطنية عربية و كردية، و كانت غالبيتهم من الشيوعيين الشباب الذين اشيّب شعر قسم منهم مبكراً.
كان هناك اضافة للعرب، كرد من عشائر بارزان قيل انهم اعتقلوا و حوكموا لدورهم و مشاركتهم بالثورة الكردية المسلحة التي انطلقت من بارزان بقيادة الملا مصطفى البارزاني، كرد من طائفة الحقّة (جماعة شيخ رضا) من الذين اعتصموا بالشارع بالآلاف و قطعوا طريق كركوك ـ اربيل و بعد انطلاقهم من منطقة "كلكه سماق" احتجاجاً على اجراءات السلطة التعسفية ضدهم و مصادرة حيواناتهم و اراضيهم و تهجيرهم بحجج الضرائب . . ايزيديين بملابسهم القومية، تركمان، مسيحيين، يهود و غيرهم ممن حكموا احكاماً ثقيلة بتهمة ( القيام باعمال تخريبية) . .
قبّلنا ابن عميّ عدنان و هو ينحني و يطلّ علينا بابتسامته المشرقة المشعّة وسط هدوئه اللامعقول، و وسط انفعالنا الذي لايوصف برؤيته للمرة الاولى لأنه حُكم و بدأ سجنه قبل ولادتي، و بقيت انا كالمسطول اراقبه و اراقب وجهه و حركات جسمه و يديه . .
و قيل ان هناك عددٌ من السجناء استُقدموا من منفى السعدية ان لم تخُنيّ الذاكرة لإجراء معاملات سجنية من التي مرّ ذكرها، بينهم : الشاعر الكردي الشهير عبد الله كوران، الاديب و السياسي الكردي ابراهيم احمد كاتب اغنية " شيرين بهار " ـ شيرين اقبل الربيع ـ الكردية التي كان يغنيّها في الساحة عدد من السجناء الكرد، بينما غنىّ عدد من العرب منهم اغنية " وردة سكيتهه من دمع العيون، صارت من حسنهه فتنة للعيون " ، في اغاني تدعو للحياة و للحرية و الى الصمود في سبيلها . . .
و كان بين اولئك السجناء عبد الرزاق الصافي، كاظم حبيب، علي صالح السعدي، المحامي ابن حبيب الخيزران . . . و تقدّم احدهم و كان اشيب الشعر طويل القامة ممتلئ البنية نحونا و حيّا والدي شادّا على يده معانقاً ايّاه، و انحنى باحترام و هدوء نحو والدتي بعباءتها قائلاً :
ـ تحياتي الحارة و احترامي ست سعاد، الرجاء ابلاغ الحاجة امينة تحيات والدتي زوجة الحاج خيري من باب الشيخ نقلاً عني، والدتي تذكركم و تذكرها بخير دوماً . . انا زكي ابن الحاج خيري . .
تحرّك السجناء و الزوّار فبسطوا مشمع طويل نُصب كمائدة طعام، و نُشر الطعام المتنوع الذي جلبه الزوار و ماطبخه و اعده السجناء، و كانت مائدة عامرة على انغام راديو كان عند رئيس الحرس الذي فتحه على اعلى صوته بمشهد العوائل و حرارة اللقاءات، رغم انه كان يتلفت بخوف و ذعر بين حين و آخر من حضور مراقب او عنصر أمن . . بينما انشغل الحراس بأكل نصيبهم من الطعام، الذي لم اعرف ان كان فرضاً او كرماً من السجناء.
و عند شرب الشاي انشد عدد من السجناء احدى اغاني السجون التي اشتهرت حينها :
من الســـــــجون تهفو قلوب بحنين و باشتياق
ياليت انّا و النصرُ دانٍ في الطريق بين الجموع
تلك الاماني نارٌ تلظىّ يارفيقي بين الضلــــــوع
و فيما مرّت تلك الانشودة بسلام، انشد سجناء آخرون مع سجين كان يعزف على الكمان :
السجنُ ليس لنا نحن الاباة
السجنُ للمجرمين الطغاة
و لكننا سنصمدُ و نصمدُ
و انّ لنا مستقبلٌ زاهرٌ سيخلدُ
لنا الغدُ . . . لنا الغدُ لنا الغدُ
حين تُنصَبُ المشانق لمن ؟
للمـــــــــــــــجرمين الطغاة
هنا تحرّك الحرّاس كالمجانين صائحين : اسكتوا اسكتوا . . هذا النشيد ممنوع، و الله تتعاقبون انتو و زوّاركم . . . و انطلقت العصي و الدونكيات لتفريق الجلسة و أُنهيت الزيارة !!!
. . . .
. . . .
عدنا الى بغداد، الى بيت عميّ و كانت اخوات عدنان و أمّه ينتظرن اخبار عن صحة و حياة اخوهن الكبير، بعد ان ابقين خبر الزيارة سرّاً عن ابيهن و الاّ يقلب عالي البيت الى سافله لأنهم ذهبوا دون اذنه و هو الاب و الأخ الكبير . . فرحت الأم و الأخوات كثيراً بالأخبار المطمئنة عن الابن و الشقيق و قرأوا رسالته القصيرة بفرح و دموع صامتة، و عاد الوالدان و الاخوة الى بيتنا في الاعظمية، و بقيتُ انا في بيت عميّ، بعد ان دعاني عميّ للذهاب معه الى سوق الصدرية !
ـ ابني تعال معي شنو كاعد يمّ النسوان . . راح تتونس و تساعد بحمل الاغراض، هل انت مستعد ؟؟
ـ طبعاً عموّ انا مستعد دائماً للمساعدة.
ـ عفيه بإبني السبع !
بعد ثلاث محطات باص نقل الركاب من الفضل، وصلنا سوق الصدرية المكتظ بالمتسوقين و البقالين و الباعة المتجولين رجالاً و نساءً، و المكتظ بالحيوانات و انواع الطيور و الدجاج و بباعة اللحوم و باعة لحوم الدجاج و باعة انواع الالبان ، و الأجبان من المعروضة الى المغمورة بالمياه و الى المكبوسة في قِرَبْ جلدية و الى باعة انواع الطرشي . . اضافة الى باعة انواع الخضار . . اضافة الى درابين فرعية هادئة لبيع الاقمشة و الفوط و اليشماغات و اغطية الرأس و الدشاديش و الكرزات و الفاكهة المجففة . . وسط صيحات بيّاعين ينادون على بضائعهم :
ـ بس هاليوم هالطماطة !!
ـ وزيري ياتين !!
ـ هاليوم بفلسين !
ـ ابيض و بيض . .
قال عميّ :
ـ ابني . . تذوّق قطعة الجبن هذي . . شنو رأيك بيها ؟؟
تذوقتها و قلت له :
ـ كلّش طيبة كلّش طيبة . . هسه عرفت منين تجيبون جبنكم اللذيذ.
ضحك عميّ مربّتاً على رأسي :
ـ اعرفك تحب الجبن، طالع على عمّك . . اليك قطعة ثانية.
و وقفت مبهوراً امام معرضين لبيع الطيور التي احببتها حبّاً جمّاً . . عرضا انواع الطيور الجميلة و الحمام الزاجل و تذكّرت قفص الطيور الكبير للخال زكي الذي كان يترك بابه مفتوحاً من حين لأخر (كي تتمتع الطيور بحريتها و تكون صحّتها احسن، فالطعام لوحده لا يكفي لذلك) كما كان يقول، و كيف انهم استخدموا الحمام الزاجل لتبادل الرسائل بينهم كثوّار في ذلك الزمان، و كان يحذّر من الصداقة مع المطيرجية لأن (عالمهم قذر) . .
. . . . .
. . . . .
اصيب سعدون بصدمة عنيفة من فقدان ابن عمه و اقرب صديق له، التي تسببت باصابته بقلق شديد لم يعرف مصدره، هل هو قلق من الاغتيال، كما اغتالوا ابن عمه عبد المحسن ؟؟ عبد المحسن الذي استطاع تهدئة عشائر الفرات و بظهره عشيرة من اقوى عشائر العراق تمتد من البصرة الى شمال الفرات ؟ اذن فالقتلة لايُبالون بمن يقف امامهم سواءً شخصية مؤثرة او عشيرة قادرة . . تأثّر كثيراً بضرب متظاهري مظاهرات العدوان الثلاثي بالرصاص و السكاكين و اعتقال و معاقبة الآلاف ممن شاركوا بها رجالاً و نساءً، رغم ان نشاطهم كان دستوريّاً . .
احسّ بكآبة كانت تزداد و تشتد يومياً و انكفأ على نفسه و غرق بشرب الكحول و خاصة الكحول المنزلي القوي الذي تعوّدت على صنعه ياسمين خاتون ام الماس للضيوف، و غرق بالتدخين المتنوع . . و اهمل زوجته الماس و صار لايستطيع النوم معها و لا اداء دوره كرجل معها، و ازداد شعوره بالعنّة و كأن جسمه و اعضاءه ماتوا . . رغم جهود زوجته التي فهمت حالته، و بذلت جهداً كبيراً بعنايتها به و بنفسها و بماكياجها و شعرها و عطورها المتنوعة و بما يثيره و لكن دون جدوى، الأمر الذي زاد من قلقه، و أسف على فقدانه رجولته . .
كان يشعر بالملل و بحياة صارت لا طائل من ورائها، بغياب الأمل و الهدف الكبير و غياب روح التحدي و المغامرة، التي بدأت تتسبب بفقدانه لتوازنه الطبيعي كبشر، كما كان يحسّ . . راجع طبيب قيل له انه متخصص بالعِنّة بانواعها و بطرق علاجها، نصحه بوصفات طبية و ترك الكحول و التخفيف ما امكن من التدخين، و بالرياضة و التعرض للشمس و الحركة في الهواء الطلق لساعات يومياً، و الأهم ان يصارح زوجته كي لاتُسئ فهمه و تعمل على انقاذه من مشكلته، التي قد تتمكن منه و تدوم و تخلخل عقله ان اهمل ذلك، على ان يستمر بمراجعته . .
و انطلق سعدون برياضته المفضلة و هي الصيد ببندقيته الكسرية لصيد الطرائد البرية و محاولة صيد ماندر منها، يومياً في احراش جلولاء كلّما انهى دوامه في المعسكر الذي نُسّبَ اليه، و القريب من هناك، و نظّم هناك مع عشائر المنطقة المتنوعة العربية و الكردية و التركمانية، حملات لقتل الخنازير البرية و ابعادها عن الحقول الزراعية و حمايتها من تخريباتها . .
بقيت معاناة سعدون قائمة و لم ينفع في علاجها كلّ ماقام به، حتى ذهب بسيارته مصطحباً زوجته الماس الحامل معه، التي وقفت بقوة الى جانبه في مشكلته، بعد استشارته لها . . ذهبوا الى مضارب فخذ العشيرة الذي ينتمي اليه، على نهر الفرات، و سمع نصيحة احد اقاربه هناك بأن يعرض نفسه على طبيب عشائري مشهور في العشيرة (العارفة فتاح) لعلاجه بالطرق العشائرية . .
وصف له العارفة فتاح انواعاً من الضبّ الصحراوي البريّ المشوي، و داوم على اكله دون أكل آخر ضاغطاً على نفسه من التقيؤ، لمدة اسبوعين يومياً، اضافة الى منقوع جذور صحراوية جمعها العارفة، مغلية بالماء و باضافة انواع من عناكب مختارة لها، و كان عليه ان يشرب ذلك المنقوع ساخناً عدة مرات يومياً . .
في ذات مساء، احس بعد شرب المنقوع المُرّ الساخن ذلك، بهبوب طاقة حرارية كبيرة اجتاحت جسمه من كتفيه الى بطنه و ساقيه مسببة له آلاماً مِغَصية كبيرة جعلته يتلوىّ من الألم، من اعلى الى الاسفل و شعر بتجمّع روحه في حوضه و عضوه كما وصف، و انطلق بوله مدراراً محمّلاً بانواع من الرمل و من الدم، و انكفأ نائماً نوماً عميقاً . . فيما هلل طبيب الاعشاب فرحاً و هو يتلمس اعضائه النائمة و قال لزوجته الماس التي كانت ترافق زوجها خائفة عليه :
ـ اختي . . هسه احنا نظّفنا المكينة و الصالنصة بنجاح و شفتي الرمل المقذوف مو ؟ . . ننتظر الى ان يصحى في الصباح و نقرر حالته . .
و ترك الخيمة . .
و لم تتمالك الماس نفسها و هي تشاهد زوجها ممدداً سابحاً بعرقه، وحيداً و كأنه لاحراك به . .
و تذكّرت ماجرى في قراهم في مذابح الخابور، و كيف أُصيب عدد من الرجال بتلك الحالة بسبب القلق و الترقب و الخوف على العائلة، و التي ادّت الى انتحارهم . . و اصابة عدد اكبر من النساء بتلك الحالة التي اصابت اعضائهن، و تسببت بسقوط حمل عدد منهن و موت بعضهن، و اصابت اخريات بحالة من تقلصات قوية غريبة اجتاحت البطن واعضائهن، و لم يستطعن التواصل مع ازواجهن بعدها، و تضاعفت الحالة مؤدية الى انتحار عدد منهن . .
خافت عليه من تلك المصائب، و رقّ قلبها عليه و على العائلة، و لاإرادياً اقفلت باب الخيمة عليهما و تعرّت و شدّته اليها، رأسه بوجهه بين ثدييها العامرين بالحليب لأنها حامل، و سحبت جسمه العاري برائحته البولية، الى مابين ساقيها الدافئتين و هي تضغط عليه بحنان حقيقي بذراعيها و يديها و رأسها و ساقيها و حوضها، و تشدّه اليها متلمسة عضوه بالتمسيد، الى ان استفاق العضو بعد دقائق و قذف و عاد نائماً . . و هي تهلل لعودته اليها سالماً معافى كما تصوّرت.
عاد العارفة فتاح في صباح اليوم التالي و سأل الماس عن حال زوجها قائلاً :
ـ كيف مضت الليلة ؟؟
اعتلى وجهها الخفر و اطرقت برأسها و اجابته بإبتسامة :
ـ لابأس.
ـ ابنتي لاتخجلي، انت زوجته و انا طبيبه و ليس على الطبيب من حرج، و الاّ لن يتعافى . . ماذا حصل بالضبط ؟ حدّثيني و يبقى سرّكم في بير . .
و حدّثته الماس عمّا جرى و هي فرحة بأنه تعافى، قال لها العارفة :
ـ ابنتي . . خطونا خطوة ناجحة واحدة فقط نحو العلاج و انه لم يتعافى بعد، لقد قمتي بعمل كبير على الطريق الصحيح و انت حامل، كان من الضروري ان يتجامع بما يستطيع مع امرأة حامل، لأسباب تعود الى تفاعل السوائل او الى تفاعل الارواح . . هل وددتي مجامعته باحتضانك له و هو زوجك و هذا حقّك . . هل وددتي ذلك ام لا ؟ اجيبيني بصراحة و الاّ لن يشفى زوجك من مرضه . . مرض زوجك ليس عضوياً و اعضاؤه سليمة كما اثبت التنظيف و الانتصاب و القذف . . عقله سليم الى حد الآن، مرضه نفسي بسبب صدمة نفسية عنيفة حدثت له و علاجه نفسي و هناك طرق عديدة لذلك . . هل وددتي مجامعته ؟ اجيبيني بصراحة كي اعرف واجبي و يشفى !!
ـ . . . . نعم وددت ذلك و لكن . . . لم الحق، و ذلك ماجرى . .
ـ عظيم عظيم ان وددتي ذلك فيعني ذلك ان روحيكما لا السوائل تفاعلتا، انت بوعيك و هو بلاوعيه . . انها الكيمياء، الم تسمعي بالكيمياء ؟
و لم تفهم الماس مايعنيه و سألت :
ـ و الآن ماذا عليّ ان اعمل ؟؟
ـ عليك ان تسأليه عندما تستقر حالته و يصحى . . هل احبّ امرأة قبلك و نام معها ؟ اذا نعم . . عليه ان ينام معها الآن و عليك ان تقبلي ذلك عزيزتي لأن ماكو حل آخر و سيصحى عضوه و جزء عقله المرتبط به ذاك و يعود سليماً . . و ان لا ، فعليه ان يراجعني في الربيع القادم، لأني ساسافر اليوم الى وادي السرحان، عندي عدد من المرضى ينتظروني هناك. اخبريه بتحياتي الحارة له و بأن هذه هي وصفتي له الآن و لا تنسي او تتناسي ابنتي !! و ستعيشون بافراح و صحة و بنين و بنات ان شاء الله . . . نشوفكم بالافراح يا ابنتي الشجاعة !
بعد ان افاق سعدون من نومته العميقة بعد يومين او ثلاثة، و بعد ان هدأ نفسياً، اخبرته الماس بوصية العارفة، و قالت له :
ـ آني كل اللي يهمني ان تعود كما كُنت . . شاباً مقداماً نشيطاً مستعداً لتلبية حاجة الضعيف و المحتاج و ان نعيش حياة زوجية سعيدة و ان نكوّن اطفالاً و اسرة جميلة، مهما كانت الوسيلة . . لستَ مجبراً على اجابتي كما اوصى العارفة فتاح . . سرْ في الطريق الذي يسعدك و يشفيك كما تُقرر عزيزي سعدون، و انا الى جانبك و اشدّ ازرك، احببتك من كل قلبي و عقلي . .
لم يتمالك نفسه و عانقها عناقاً حارّاً و قال لها :
ـ انتِ املي الكبير في الحياة و سأكون دوماً عند رضاكِ !
عادوا الى بغداد و هو يحمل شيئاً من أمل و تفاؤل بحياة وجد ان ابوابها التي اوصدت بوجهه يوماً، يمكن ان تنفتح . . فكّر طويلاً و طويلاً . . و قرر ان يذهب الى بانسيون ماري بعد انقطاعه عنه لشهور، و جهّز هدايا الى البانسيون في مقدمتها كميّة معتبرة من طيور الدرّاج التي اصطادها و حفظها بالثلج، اضافة الى علبة حلويات كبيرة لماري و مصوغة لـ ريتا ان وجدها هناك . .
فرحت ماري خاتون كثيراً بهدايا سعدون و امرت النادلات بخدمته، و عرف منها ان ريتا موجودة في البانسيون و انها مشغولة بزبائنها و سترسل لها خبر وجوده و اكيد انها ستفرح لأنها . . كانت تسأل عنك باستمرار، و كانت خائفة عليك من مكروه ما المّ بك . . كما عبّرت.
جاءت ريتا اليه على عجل ناسية تعديل ملابسها و هيئتها، و عانقته بحرارة و هي تقول :
ـ يا اهلاً و سهلاً . . من زمان القمر مابان سعدوني . . آني تصوّرت انك نسيتني بعد ان تزوجت . . يظهر عليك تعب لم اشاهده قبلاً و لايليق بك . . ماذا حصل ؟
ـ . . .
ـ تعال نروح الى غرفتي . . حتى يمكن ان تتحرر من الجلوس في الصالة و من الضيوف و من . .
طاوعها و ذهب معها و هو يستند عليها، مما اثار انتباهها و قالت :
ـ حدّثني بصراحة ماذا حصل، قد استطيع ان اعمل شيئاً . .
جلس على سريرها كعادته فيما اخذت دوشاً و تنشّفت و خرجت بروب الحمام و رمت على وجهه بسروالها المعطّر بعطورها و رائحتها وسط ضحكاتها التي انعشته . . و بشمّه لتلك العطور و احساسه بالسروال على وجهه، شعر بانتعاشة افتقدها لشهور، و شعر برجولته و باستعداده لإثباتها، فابتسم، و قال و هو يخلع ملابسه :
ـ لن احدّثك الآن بما حصل . . فقط تعالي جنبي . .
و بعد إي . . و آي . . و على كيفك . . و دقيقة . . و آخ . . و إيخ . . تواصل معها الى الاخير كما في المرّات السابقة و شعر بأن الروح بدأت تسري في جسمه و اعضائه كالسابق، و وصف حالته لها دون حذر من التفاصيل بعد ان وجد فيها هي الدواء الناجع لعلّته . . و اهدى لها المصوغة الذهبية التي قرر اهدائها لها، و التي افرحتها كثيراً.
ضحكت ريتا و قالت :
ـ لك سعدوني . . لك انت صدك تحبني و انا الغبية كنت اتصور انك نسيتني
ـ . . . .
ـ شوف . . آني عالجت يمكن مئة رجل و صارت عندي خبرة بهالموضوع و عليك العمل و الالتزام بما اقوله لك . .
و دخلت بالعلاج :
ـ قهوة قوية، بلا كحول و بلا . . و بلا . . و خليّني براحتي معك
ـ هالمرّة انت تحت
ـ هالمرّة على جنب
ـ هالمرّة وضع 69 و كل واحد ينشغل بما في مقابيله
ـ هالمرّة . . .
حتى تاه سعدون بين القهوة و الأعضاء و بين العطور و القهقهات التي بدأ يقهقه معها و احسّ بالإعياء بعد انتهاء خزينه السائل . . و نام نوماً عميقاً . . و استيقظ في ضحى اليوم التالي و هو لا يعرف اين هو ؟؟
حتى فتحت ريتا الباب و هي تحمل صينية الفطور التي أمرت بها ماري خاتون له، كشكر على هداياه و على معاودته القدوم الى البانسيون كأحد حمايته بلا مقابل، و جلسا الى المنضدة الصغيرة في الغرفة لتناول الفطور. قال سعدون :
ـ ريتا . . هاي منين تعلّمتي هالملاعيب ؟؟ شنو مكمّلة معهد او دارسة دراسات عليا، لأن حتى الاطباء لم يستطيعوا عمل شئ ؟؟
نظرت اليه و هي تراه رجلاً نَظِراً جذّاباً كعادته الاولى، و قالت :
ـ المهم انك مرتاح و سعيد و هذا يفرحني كثيراً . . لا معهد و لا دراسات طبية عليا و لا هم يحزنون، تعلّمت من شغلنا، احنا نبذل كل الجهود لإرضاء الزبون الى النهاية، حتى يدفعلنا الأجرة و يبقى زبوننا، و بأن لايخرج زعلان او غير راضي علينا او على حاله، و يكفّ عن المجئ الينا . . لانريده يخرج و هو يبكي لفشله كما حصل مرات، و من لديه مشكلة فان عليه ان يدفع عن كلّ مرّة قضّاها عندي . . في حالتك مثلاً عليك ان تدفع الأجرة مضاعفة اربع مرات ههههههههههههه لكني اعتبرها هديّة منيّ لإنسان عزيز عليّ المهم انه عاد سعيداً . . و هكذا تعلّمت الصنعة. (يتبع)

21 / 11 / 2021 ، مهند البراك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة