الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأثيل كلمة -إنقلاب-

المنصور جعفر
(Al-mansour Jaafar)

2021 / 11 / 22
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


هدف هذا النص وتأثيله وتمحيصه كلمة "إنقلاب" هو الإشارة إلى بعض معالم كلمة "إنقلاب" وطبيعة إستعمالها في عالم السياسة لوصف تغييرات حادة في أمور الحكم والحكام تحدثها جماعة معينة بإستعمال قوة أو سلطة لها تقوي بها سلطتها أو تخفض بها سلطات أخرى، مغيرة بعض عناصر الحكم والسياسة أو وضعها أو أهدافها أو أسلوب عملها، أو كل هذه الأمور، بهدف تزعم كل الإنقلابات إنه هدف موجب لمصلحة المجتمع والدولة!

الصعوبة التي ولدت الحاجة إلى بدء هذا التأثيل تشكلت من تراجيديا حدوث وتنوع الإنقلابات وطبيعة قبولها أو رفضها وسط كثير من الناس في بلاد مختلفة الظروف والثقافات والآيديولوجيات. وتتجسد هذه الإختلافات في إن الإنقلاب قتل للوضع القديم وهو مثل كل قتل وتغيير تختلف الأراء إزاء شرعيته أو مشروعيته السياسية والأخلاقية، إختلافاً يشبه في طبقيته أو زعمه بأنه إنقلاب لا طبقي حالة إختلاف الناس على أخلاقية القتل في الحروب.

صعوبة التقييم الأخلاقي إنه في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية صنف أخلاقيو الآيديولوجيات الحروب إلى نوعين: "حروب عادلة" للدفاع عن الوطن والحق والحقوق و"حروب عدوان" هدفها كسب غنيمة أو منع حقوق آخرين. لكن كل جانب في هذين النوعين من الحروب يزعم إنه ممثل الخير والعدالة! وكلا الحربين يتضمن جرائماً ظاهرة وجرائماً خفية الآثار والمحرضين والشركاء، قلت محاكماتها، لكن المكشوف منها كاف لرفض جزء كبير من فلسفة الحرب وتبديلها بفلسفة التكامل والتعاون والسلام. أيضاً من النوعين ولد نوع هجين يسمى "حرب الجيل الرابع" وهي حرب ناعمة بين الدول تدعم وتنمي بعض الفروق والإضطرابات في بلد لتضعف حكومته أو تقدم له مساعدات وحلول تزيد سموم أزماته.

ضد بعض صعوبات الفرز السياسي: تظهر الحاجة إلى تأثيل إستعمال كلمة إنقلاب وتمحيص إستعمالها في صور جزاف مع حاجة تصنيفها أخلاقياً إلى حساب بيئتها وعناصرها وعلاقاتها ومبانيها حساباً طبقياً كانت تتمايزه قوتان ثوريتان هما القوة الليبرالية الحداثية أو الرجعية، والقوة الثورية الإشتراكية، لكن منذ سبعينيات البترودولار صعب تحديد هذا التمايز النظري مع سيولة الآيديولوجيات والأنشطة السياسية وتحول نخب المدن من حالة التميز الحزبي وخسائرها الشخصية إلى حالة التميز المعيشي وما تتطلبه من نفاق فكري وسياسي يؤيد إنقلاباً في أوله ثم يدينه في العام التالي وآخر يرفضه عند ولادته ثم يلتحق به.

لعل أهم وجه من وجوه الصعوبة هو تداخل بعض سلبيات وموجبات نظم الإستعمار الداخلي والإستعمار الحديث والأزمات المتولدة منهم وتمازجها مع "حروب الجيل الرابع"، لتوكيد أو هزيمة بعض نتائجهم، وإرتباط كل تداخل أو تمايز في هذه الحالة بولادة حالات جديدة أو قتل حالات أخرى. في سياق إشكالي التقييم كون بعضه يوكد وبعضه يقاوم بعض نتائج الأوضاع القديمة الداخلية والعالمية. وهو كسياق مضطرب أوجد - بتنوع عناصره وأفكارها وصراعاتها الطبقية الأسس السياسية والعسكرية الصور- أزمات وانقلابات في كثير دول العالم الثالث كلها مرتبط بليبرالية المعيشة والتجارة الرأسمالية.


من ثم مع كثرة التداخلات والاختلافات الأخلاقية تحتاج كل كلمة سياسية إلى تمحيص وتأثيل يهتم هذا المقال بالتأشير إلى بعض ملامح التواريخ والمعرفة و الإختلافات الطبقية السياسية أو القانونية المرتبطة بكلمة "إنقلاب" إسهاماً في إخراج جزء من إستعمالات هذه الكلمة وما يرتبط بها من حالة العفوية والجزاف، إسهاماً يواشج التنبيه إلى بعض مياسمها التاريخية والطبقية الموجبة أو السالبة.



1- من تاريخ الإنقلابات:

(أ) زمان الروم:
قديماً، في تاريخ الحكم والحكام والتغيير الكبير في كل أو بعض إحداثياتهم اختلفت آراء مهمة في طبقات مجتمعات أثينا وروما حول شرعية أو مشروعية تولي الحكم وقراراته وفي تقييم نتائجها أشهرها المختوم بإعدام سقراط، ثم المنسوب إلى نيرو يوليوس قيصر، وغالبية قياصرة روما.

(ب) الإسلام:
اختلف المسلمون على تقييم إنقلابات كبراء قريش الأوائل أو تابعيهم من الأمويين فالعباسيين والعثمانيين وما بينهما، أو صحة انقلابات تابعيهم الناهجين لتغيير الحكام لتحقيق رسالات الإسلام المساوتية أو الانتقائية، أو لتوكيد أو نفي طبيعة وشكل إحترام إمامة المسلمين الإصطفائية، أو الشورية وحتى الانقلابات على درجة من علمانية الحكم الإسلامي أو على مستوى إسلامية الحكم العلماني، واحترام أو رفض مدى معين من التغيير الكبير فيها بواسطة فئة أو جماعة معينة.

(ج) إنقلابات روما الجديدة:
في غرب أوروبا نهاية عصر الأنوار وبداية عصر الحداثة إختلف تقدير التغييرات/الإنقلابات في هولاند وإنجلترا وفرنسا رفضاً لها أو تعظيماً وإختلفت تسمياتها من "التخريب" و"العصيان" في هولاند القرن السادس عشر إلى "تمرد البرلمان" إلى "الثورة الظافرة" في إنجلترا القرن السابع عشر إلى "الثورة" في أمريكا ثم "الثورة الفرنسية". وآنذاك كانت كل هذه الإنقلابات الدموية أعلى درجات إنتصار البرجواز (=أصحاب الحرف التجارية) على تحكم الأوروستقراط (الإقطاعيين) .

تسنمت أفكار ثورات غرب أوروبا وأمريكا وتمثلت في أيديولوجيات ناشئة رفعت على تنظيراتها كلمات شعارات أهمها "الحرية"، "المساواتية"، "الدستورية"، "الجمهورية"، "الأخوة"، وكلها إيديولوحيات مرتبطة بحرية الحرف والتجارة من سيطرة الملوك والإقطاعيين ذات الكنيسة والأرض والعنصرية، ومن سيطرة الممولين التمييزية، ومن سيطرة جباة الضرائب والبيروقراط الباهظة. وبمرور الزمن إختزلت كل هذه الآيديولوجيات في صيغة "الحرية" أو "الحرية والإخاء والمساواة".

في ذروة جدل سلاسل من الصراع الطبقي في مختلف مجالات الحياة والمعيشة والمعرفة شملت الصراعات حول الأصول الفلسفية والمبررات المنطقية أو الدينية لوجود المجتمع والدولة وأعمالهم: تراخيص وضرائب وتكاليف وأسعار كل واحدة من الأعمال الحرفية، وتكاليف وفوائد الأعمال الكنيسية، وتكاليف وفوائد الأعمال الحكومية، وتكاليف وفوائد معيشة إنسان السوق.

نمت شؤون الأمور العامة ومحاولات تبيين حكمتها أو مظالمها فطالت أمور ومحاور وأساليب الآداب والفنون والعلوم والتأريخ والفلسفة بدعم من البرجواز (أصحاب الحرف التجارية) وجمعياتهم العملية العلانية Guilds وجمعياتهم السرية (بعضها شبه أحزاب، وبعضها إيلافات التجار) وبإرشاد صفوة محافل الإعمار (الماسونية) .

بمواشجة عفوية أو قصدية لهذه الجهود صاغ فلاسفة البرجواز الأفكار التي أوجدت الآيديولوجيات الليبرالية التجارة. وبشكل عملي سياسي ساقت الطلائع التقدمية للبرجواز أفكار هذه الآيديولوجيات الليبرالية بقوة عسكرية دموية مسيطرين بها على مجتمعات بلادهم وتوابعها وعلى بلدان العالم التي غزوها، فصارت هذه الأفكار والآيديولوجيات النبيلة تجذر وتبرر سيطرة الطبقة الصاعدة ضد حالة المبالغة في التحكم الديني لشبكة الملوك والإقطاعيين المترسخة في دول غرب أوروبا ومستعمراتها.


(د) الانقلابات في عالم الحداثة:
مع فقد الحكم والحكام القداسة وأفول الثيوقراطية ومعرفة الناس للطبيعة الطبقية والفئوية للدولة والحكومة أختلفت الآراء السياسية الحديثة على تعريف "الإنقلاب" بصورة عامة قاطعة تشمل كل جوانبه بل (((توافقت))) على ميسمه الرئيس وهو التغيير الحاد في طبيعة الحكم.

تنوعت تعريفات الإنقلابات وفق أمور شتى كلها مرتبطة بأمرين الأول هو الطبيعة التقنية لعملية الإنقلاب، والثاني مستوى تقبل الناس له أو ركونهم إلى حكمه وحكوماته في السنوات التالية لحدوثه فكلما استقر الحكم الجديد وطالت سنواته زالت عنه عند كثير من الناس سمة الإنقلاب وأصبح/صار الحكم المؤسس على إنقلاب يتهم بعض خصومه الناشطين بـ"محاولة قلب نظام الحكم بالقوة"، ويتهم خصومه داخل الجيش المؤسسات الإستراتيجية بـ"خيانة قسم الولاء وتهديد أمن وسلامة القوات المسلحة"، إضافة إلى تهمة تهديد أمن وسلامة البلاد.




2- معالم الإنقلاب:

تمثلت أهم معالم ظروف وتقنية الانقلابات وموقف غالبية الناس إزاءها، في الآتي:

1- ظروف حدوث الانقلاب:

(أ) الظروف العامة:
(أ) وجود مظالم أو مطامع طبقية، قد يكون لها بعد إثنوثقافي سياسي (لبنان، السودان، جنوب إفريقيا)،

(ب) مظالم أو مطامع إقليمية، قد يكون لها بعد طبقي أو إثنوثقافي سياسي،

(ج) مطامع أو مظالم فئوية، قد يكون لها بعد إثنوثقافي سياسي ،

(د) تمايزات أو اضطرابات وقلاقل داخلية، قد يكون لها بعد إثنوثقافي سياسي،

(هـ) ضغوط خارجية وقد يكون لها بعد إثنوثقافي سياسي داخلي أو إقليمي ( تنزانيا، جنوب إفريقيا، رواندا، السودان).


(ب) زعم التصدي لـ"الخطر":

(1) تاريخ الخطر:
حدث كل إنقلاب في أي دولة بعد نزاع كبير أو مجموعة نزاعات، تشهد بذلك تواريخ النزاعات والإنقلابات في غرب أوروبا القديم والذي حدث قبل ومع وبعد مؤتمر ويستفاليا عام 1648 ثم الإنقلابات المخابراتية المدنية وإسقاط الحكومات فترة قبل وبعد الحرب العالمية الثانية خاصة فترة الحرب الباردة وبعدها، كذلك في بقية مجتمعات العالم كان كل إنقلاب يحدث بعد أزمة.

(2) توصيف الإنقلاب لـ"لخطر":
يبرر الإنقلاب الليبرالي حدوث نفسه وتغييره نظام تغيير الحكم بأنه (((واجب وطني))) لدفع (((خطر))) داهم على وحدة وسلامة المجتمع والدولة و(((حل))) أزمة كبرى تسبب فيهما الخلل والتفكك وتؤدي إلى نشوء حالة (((فوضى))) داخلية تهدر الأموال والأرواح وتسمح بغزو خارجي يلغي عزة وكرامة المجتمع!! وهو تبرير مشحون بالأوهام والتضليل.

(3) الشكل الواقعي لحالة "الخطر":
يحدث (((الخطر))) الداخلي الذي تبرر به كثير من الإنقلابات نفسها بزيادة خروج بعض التعاملات في الدولة والمجتمع من مجال الأذون الحكومية أو من مجال التجارة أو من مجال التعامل الأهلي (((المعتاد)))، إلى مجال تستعمل فيه جماعات مطلبية القوة المدنية أو الجماهيرية رافضة الأوضاع والسلطات النمطية (أسعار، قرارات، نظم) قارنة رفضها بكثافة في الدعاية أو المطالب أو التظاهرات أو بعصيان أو إعتصام، وهو وضع يسميه بعض فلاسفة الليبرالية "سياسة النزاعات".

أي إن الخطر ليس جريمة سياسية نبت ذاتها، بل هو سموء نشاط الشعب للتحكم في مصير معيشته ومواردها وتحرير حياته ومستقبله من الظلم والفساد وحالتي البطش والتكالب المرتبطة بهم. سموء يحققه الشعب بزيادة طلائعه النقابية والسياسية والقومية للأنشطة الجماهيرية التي يكشف نموءها تضليلات الحكام وتعرقل إستمرار توليد أوضاع التضليل والاستغلال.

(4) الإنقلاب الليبرالي المعيشة والتجارة أكبر خطر على معيشة وكرامة غالبية الكادحين:
ما يظنه الإنقلابيون الليبراليون جريمة هو نفسه حق الجماهير الكادحة في صنع كرامتها بقوة مطالبها وإحتجاجاتها الموضوعية وتآزر فئاتها في تجميع وتقوية وتحقيق بعض هذه المطالب، وإظهارها ضرورة تغيير نظم الثقافة والمجتمع والحكم والدولة ونقلها من حالة الأنانية والتكالب والفساد والبطش إلى حال أكثر عقلانية ذو مياسم إجتماعية وإشتراكية البناء والهدف. حال يتساوى فيه الناس في ضرورات المعيشة والحياة والكفاف مساواة تمكنهم من التنافس المنظوم بشكل ديموقراطي متكامل - وليس بشكل ليبرالي نخبوي- على إلغاء أسس ونتائج الأنانية والإستعمارين المتداخلين: الإستعمار الداخلي والإستعمار الحديث .

(5) محاولة تغيير النتيجة دون تغيير غالبية أسبابها:
تبعاً لتصور الإنقلابيين السطحي لـطبيعة "الخطر" على المجتمع والدولة يتجه الإنقلاب لحل الأزمة التي يتخيلها بإعلان "حالة الطوارئي" الأمنية منعاً لتجمع ونموء الأزمات الصغرى بشكل يظنه مهدداً لتعاملات المجتمع، الحكومة، أو الدولة. أي إن الإنقلاب الليبرالي يبعد النظام المعيشي المولد للأزمات من دائرة "الخطر" ويرى فقط إن تجمع الأزمات الصغرى المولودة من النظام المنقلب عليه ونموءها هو المهدد للتحكم أو الإستقرار القديم أو أصوله الطبقية أو الفئوية السياسية أو أصوله الدينية أو الإثنوثقافية أو طبيعة وجوده السياسي في العالم، ولو كان إستقراراً ظالماً لغالبية الكادحين أو منتجاً للمظالم!

أي إن الإنقلاب الليبرالي يحاول وقف ظهور النتيجة دون منع غالبية أسبابها فغالبية الإنقلابات التي تصون ليبرالية المعيشة وأجزاء مهمة من التجارة تكتفي بتغييرات شكلية في الحكم والسياسة لاتعالج الأزمة الأصل وتوليدها للفروق الكبرى في الدولة والمجتمع ونزاعاتها وهي أزمة طبقية ذات أشكال متنوعة متداخلة معيشية وإدارية وإقتصادية وسياسية إلخ.



2- طبيعة الانقلاب وقوة أعداءه وقوة أصدقاءه:

(أ) أسلوب الإنقلاب:
لكل حالة إنقلاب أسلوب في تسلم الحكم أو توجيهه بقوة جسمية خفيفة على الناس أو بدماء غزيرة سواء سالت بسببه من عسكر الدولة أو من الذين يعارضونه سلماً أو حرباً. وفي الحالتين لكل أسلوب جمهور.

(ب) أبطال/مجرمون:
لكل إنقلاب أبطال/مجرمون، يدور بعض الخلاف حول جدارتهم كفئة؟ أو حول كفاءة بعضهم؟ أو حول صعوبة أو سهولة الظروف التي أدت إلى نجاح الانقلاب أو أدت إلى خسارته؟

(ج) جمهور الانقلاب:
لكل انقلاب طبقة يتجه بأفعاله إليها وجمهور يؤيده وجمهور يرفضه.

يتحدد رأي كل جمهور مع أو ضد الاتقلاب حسب تصرف الانقلاب وحكمه، ويخضع تقييم التصرف الانقلابي لثقافة وطبيعة وعي الجمهور المهتم بالإنقلاب، ومدى إدراك هذا الجمهور لمصلحته الطبقية القريبة أو البعيدة.

(د) تواريخ كل إنقلاب:
1- لكل انقلاب ثلاث أجيال من التأريخ أولهم جديد مواشج لفترة حدوث الانقلاب، وثانيهم وسط بعد فترة من حدوث الإنقلاب وآخر بعيد يكتب عند نهايته أو بعد فترة طويلة من حدوث الانقلاب.

2- يتضمن كل تأريخ -في زمان نشره- صور سلبية تبخسه أو صور موجبة تمجد الانقلاب بإوضاحها الوضع السيء الذي قضى عليه الإنقلاب أو بإوضاحها سوء الوضع المستقبلي الذي منع الإنقلاب وقوعه على الدولة والمجتمع.

3- تاريخ كل إنقلاب يكتبه المنتصرون به ويكتبه المنهزمون به ولكل منهما تأثيره وإمكانات تروج له فكل انقلاب له جمهور معه أو ضده ولكل جمهور منهما إعلاميين ومؤرخين يكتبون انطباع جمهورهم أو انطباعهم عن الإنقلاب. وإذ يقومون بتأريخ الإنقلاب سلباً أو موجبية ونشره في كتب ومقالات مطبوعة ثابتة ، فإن حكاوى أو روايات شفاهية تحيط بتلك التواريخ بعضها يدعم المكتوب أو يخالفه، وبعض هذه الحكاوى عن الإنقلاب أو بعض حوادثه أو بعض شخصياته تسري بين الناس بقصد وعفوية سريان الشفاء في البدن العليل أو تستشري في أفكارهم إستشراء السقم في البدن العليل والخبث في الذهن السليم.

4- التاريخ الكبير، الأكثر موضوعية: ضد تأثيرات وعوامل الأسلوب "النخبوي" وضد تأثيرات وعوامل الأسلوب "الشعبوي" على كتابة تاريخ التغييرات السياسية، تظهر مزية القراءة الشمولية المتكاملة لتأريخ كل مجتمع وحركة جدلياته:

تبين القراءة الشاملة تمايز أوضاع وصراعات المجتمع في مراحل موضوعية إقتصادية وطبقية لها مياسم ثقافية وسياسية، ومن ثم توضح طبيعة كل إنقلاب دون غرق في تحليل كل تفصيلة فيه حسب تاريخ أو موقف بعض قادته أو وفق حساب جزاف غير متكامل لكم من قرارات الإنقلاب (((الموجبة))) إزاء طبقة معينة في الصراع الطبقي، فمن الصعب تحديد صحة كل قرار بإنه يدعم الكادحين أو إنه يدعم النخب المسيطرة وعموم الكبراء الليبراليين الذين يستخدمون كل الأفكار والآيديولوجيات التي تنسجها لتبرير استغلال الإنسان لحاجات وجهود وموارد أخيه الانسان ومصادرة مستقبل غالبية الكادحين.


ننتبه إلى إن التاريخ ككتب ليس سجلاً للمواقف الطبقية والوطنية الكبرى، بل يذكر معها الظروف والحوادث والبيئة والثقافة والآثار المرتبطة بها وبكل حادث (((مهم))) سواء كان حادثاً نبيلاً أو كريها، وفي بعض اللحظات يبين بعض المؤرخين بعض المواقف المحدودة وما أنتجته من آلام أو أفراح، بشكل قد يخفض أو يزيد موجبية أو سلبية الصورة التاريخية، وقد يعيدون حكاية أهمها كتاج وصولجان لثقافة المجتمع أو الدولة، وقد تكرر ظروف معينة معالمها كملهاة مأساوية أو مأساة ضاحكة تنتاب سخريتها متأمل حوادث الزمان.




3- جهة إنجاز الإنقلاب:

تتعدد أنواع أو تعريفات الانقلاب حسب عوامل مختلفة منها الجهة المنفذة أو المنجزة أو الداعمة أو الراعية للإنقلاب وعادة ما تكون واحدة أو أكثر من هيئات قيادة الدولة ، لكن قد يحدث الانقلاب كنتيجة من ثورة شعبية أو ضدها، وأهم الهيئات التي تحدث إنقلاباُ في طبيعة الدولة، أو طبيعة وجود أو عمل الحكومة، او بعض سياساتها الرئيسة، هي:

(أ) البرلمان:
بفعل مجموعة فيه سواء كانت غالبية أو أقلية (إنجلترا، أمريكا، فرنسا، السودان 1965، فنزويلا، والسلفادور)

(ب) المحكمة العليا:
(هندوراس، إسرائيل، المالديف، مصر، مالي، السلفادور) بتغيير المحكمة لفاعلية بعض مواد الدستور بالخفض أو بالزيادة بشكل يغير إلى حد كبير الوضع السياسي ونظام الحكم

(ج) الجيش:
(سوريا والعراق، وغالبية دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا ، وكثير من دول آسيا خارج الهند والصين)،

(د) رئاسة الدولة:
( إنقلاب رئاسة مصر منذ عام 1971 على بعض معالم دستور 1964. إنقلاب رئاسة بيرو على دستورها عام 1992 بحل الرئيس للبرلمان وتغييره المحكمة العليا، وتأسيسه قوة حرب قذرة، وأدخل نظام تعقيم جنسي بشري. كذلك إنقلاب رئاسة الدولة في السودان على الدستور في عام 1966 بامتناع رئيس الدولة عن القيام بفعل دستوري لإنفاذ حكم المحكمة العليا ضد قرارات البرلمان الإنقلابية عام 1965 التي حظرت الحزب الشيوعي ومنعت نوابه المنتخبين في البرلمان وأوقفت طبع ونشر صحفه إلخ، كذلك قيام رئيس الدولة في عام 1980 بخرق الدستور جهة حقوق إقليم جنوب السودان وفي عام 2021 بإنقلاب الحاكم العسكري على أهم أمور الحكم في الوثيقة الدستورية وهي إستقلالية المكون المدني في شراكة الحكم المدنية-العسكرية.

(هـ) رئاسة الحكومة
(أشهرها في السودان عام 1958 حين سلم رئيس الحكومة أمور البلاد إلى قيادة الجيش)

(ز) أعلى جهاز مخابرات في الدولة:
إنقلاباتها أقل شهرة لكن إمكاناتها تواشج كثير من الإنقلابات العسكرية الشكل وكثير من الإنقلابات المدنية الشكل والتغييرات داخل أحزاب أو حكومات أو برلمانات وفي بعض النقابات أو في بعض مؤسسات الإعلام، ضد بعض تياراتها أو شخصياتها بممارسة ضغط أو إغراء معين، وتهيئة ظروف معينة.

أيضاً تمارس أجهزة المخابرات أنشطة تزيح أو تعلي بعض الشخصيات في المجال العسكري السياسي وضمن ذلك تسهم المخابرات بتكوين أو إضعاف بعض صداقات العسكريين والحزبيين، ويخابث قادة وكوادر أجهزة المخابرات علاقات مريبة مع كثير من أفراد النخب الداخلية، ومع بعض النخب في دول أخرى. والكلام كثير عن إمكانية إختراق المخابرات وعن إنحراف بعض قادتها، وظروف تغير ثقافتهم أو أفكارهم السياسية، أو تغير ظروف دولتهم أو ضعهم داخلها.

(ح) الإنقلابات الثورية المواشجة لمد جماهيري:
تجسدت إنقلابات المد الجماهيري بكل ثورة من الثورات (((الناجحة))) (بداية أمثلتها من غرب أوروبا، هولاند ما بعد 1500، وانجلترا ما بعد 1642 وما بعد 1688 وهما إنقلابان كبيران، ثم تغييرات أمريكا منذ 1765 و1777 إلى 1783 وصولا إلى تغيير كل نظام الدولة بعد 1865، أيضا تغييرات فرنسا بإنقلاباتها المدنية والثورية والعسكرية فالمدنية منذ ما قبل عام 1789 و 1799 و 1804 و 1815 و 1830 و 1848 و 1871 و 1946 و 1958 ثم عام 1968، وثورات إنقلابات وتغيرات إسبانيا في الأعوام 1822 و 1854 و 1868 و 1936 و1975 وإيطاليا منذ ما بعد 1790 و 1848 و 1871 و 1947 و نوعا ما تغييرات 2012 و 2016.

أما في خارج غرب أوروبا فقد شملت الإنقلابات الشعبية المد كثير دول أمريكا اللاتينية منذ ثورة هاييتي عام 1791 إلى عام 2021، وثورات وإنقلاب مصر 1882 ثم 1919 و 1923، وفي نفس المنطقة والفترة حدثت تغييرات مهمة في تركيا وإيران 1905 و1922 وإنتفاضات وحروب حرية البلقان واليونان 1915، وثورتي روسيا الليبرالية عام 1905 و الإشتراكية عام 1917، تركيا 1923، ثورات الصين 1911 و1949، سوريا 1925 و 1946 و1949 و 1966 و1970، مصر 1952 و2011، تغييرات العراق وكوبا وغينيا عام 1958، اليمن 1962، تنزانيا 1964، السودان والصومال وليبيا 1969، إثيوبيا 1974، أنجولا وموزمبيق 1975، إيران 1978، هندوراس 1979، دول جنوب إفريقيا بداية من عام 1980 في زيمبابوي إلى عام 1994 في دولة إتحاد جنوب إفريقيا) وهذا مجرد سجل بإسم الدولة وتاريخ التغيير يؤشر إلى ظاهرة حدوث إنقلابات أو تغييرات سلطوية واشجت مداً جماهيرياً.



4- مشروعية الانقلاب:
يختلف تصنيف التغييرات السياسية الحادة والانقلابات ومتوالياتها وحساب مدى ضررها أو صحتها وفق:

(أ) (((تقدير))) كل جماعة سياسية أو ثورية أو مهنية للظروف المحيطة بعملية الإنقلاب،

(ب) شرعية أو مشروعية فعل الجهة القائمة على إحداث الإنقلاب،

(ج) مشروعية أو قانونية أو طبقة القائمين على تقدير الإنقلاب ونوع ثقافتهم ووعيهم،

(د) ثقافة وظروف زمان حدوث أو حياة الإنقلاب

(هـ) ظروف وثقافة زمان تقدير وحساب طبيعة الإنقلاب/ الثورة،

(و) الطبيعة الطبقية للانقلاب والطبيعة الطبقية لتقدير مشروعيته !



5- موضوع الإنقلاب:
تختلف الإنقلابات وتقديرات بعض الآراء لطبيعتها حسب علاقة الإنقلاب سلبا أو موجبية بأمر معين أو أكثر في ثلاثة أمور:

(أ) تغيير النظام العام لوجود أو حكم البلد: (من ملكي إلى جمهوري، أو العكس (هولاند، انجلترا، أمريكا، فرنسا، تركيا، مصر، العراق، اليونان، إثيوبيا، البرتغال، ايران، كومبوديا، روديسيا، أو من تابع مستعمر إلى مستقل، إلخ) ، أو سحب البلد من اتحاد /وحدة أو إدخالها في إتحاد/وحدة (هولاند 1566 إلى 1648 ، إنجلترا منذ ثورات 1642 و1688 إلى تأسيس المملكة المتحدة بإستعمار ويلز وآيرلاند وأوسكوتلاند 1707 ، وأمريكا 1775 و 1865، وروسيا ما بعد ثورة 1917، وسوريا 1925 والعراق 1958، وسوريا 1961 .. إلخ).

(ب) تغيير نظام الحكم وسياساته: من رأسمالية الى اشتراكية أو العكس (روسيا في أكتوبر 1917 وروسيا في أكتوبر 1993، ثم الصين في أكتوبر 1949 أو إنحصار التغيير في سياسة أو فئة الحكم أو قاعدته الانتخابية دون تغيير شكله (أوكرانيا 1996 و2012 و2014 و2016)

(ج) تغيير في تركيبة أو أسلوب عمل الحكومة: بتغليب فئة فيها أو إلزامها بموقف معين أو سياسة معينة (كل دول العالم) .



6- الخلاصة:
الإنقلاب سواء كان ليبرالياً أو خلاصة عملية ثورية عسكرياً أو مدنياً لا يختلف كثيراً عن السياسة في كونه ملتبس بمصالح نخبوية عسكرية، ومدنية، وإثنية وطائفية، وتجارية إضافة إلى المصالح الشخصية لنفوذ وتحكم قادته، وكأي حكم سياسي يبدأ أي إنقلاب أياً كان عدد جماهيره، قليلاً أو كثيراً بإنسجام فدائي لكنه مضطرب ثم مع تنوع حركته في مجالات الحياة تزيد فيه الإختلافات والتناقضات تخنقه أو تهلهله بأمور طبقية أو إقليمية أو إدارية أو إختيارات وسياسية داخلية أو خارجية وبأنساق مدنية أو عسكرية ذات مياسم نخبوية أو شعبوية، إضافة إلى إبتلاء أي إنقلاب -كأي كائن سياسي- بإختلافات أو تحالفات ثقافية وفكرية وفلسفية وإعلامية وأكاديمية لكل منها تاريخها جماعاتها ووجودها الإجتماعي والدولي.

من ثم فإن الثقة في أي حكم سياسي سواء كان منتخباً أو قريب إنقلاب أو الوجل من هذا الحكم أو ذاك الإنقلاب تمثل حالة نعاس أو حالة إرتباك شخصي بين الفدائية والقلق لذا من المهم تبديل إرتباكها وقلقها بتركيز جمعي منظوم على بنائين متصلين هما "بناء الديموقراطية الشعبية المتكاملة" و"بناء التنمية المتوازنة" (وهما بناءان تهتم بهما كثير من الأدبيات الشيوعية) وتفريدهما أو جمعهما ضد نوعين متداخلين من الإستعمار وهما الإستعمار الداخلي والإستعمار الحديث.

أما الإنشغال الجزافي أو العاطفي بفحص مبدئية أو ظرفية أي حكم سياسي أو طبيعة قرارات أفراده فأمر جميل يقود إلى نموء الوعي السياسي والطبقي رغم إنه -أحياناً- قد يشغل بعض الناس عن بعض الأمور في عمليات إنجاز التغيير الجذري ضد كل النظم النخبوية بمختلف أشكالها، أياً كان شكل رئاستها أو حضورها إلى مقاعد التحكم.




إضاءات:

القانون الدستور:
researchgate.net/publication/348603602_mhadrat_alqanwn_aldstwry_alsdasy_alawl_2021


تعريف للإنقلاب:
ar.facts-news.org/taaryfar.facts-news.org/taaryf-alanklab-alanklab


كلام الإنقلاب:
stringfixer.com/ar/Coup_d etat


تطور عمليات الإنقلاب وطبيعة فهمها:
arbyy.com/detailarbyy.com/detail992485123.html


Monty G. Marshall & Donna R Marshall
(Coup de Etate Events (1946-2017
Center for Systemic Peace, May 2, 2018
systemicpeace.org/inscr/CSPCoupsCodebook2017.pdf


United States involvement in regime change
en.wikipedia.org/wiki/United_States_involvement_in_regime_change


إنتقاد السياسة الخارجية الأمريكية:
https://en.wikipedia.org/wiki/Criticism_of_United_States_foreign_policy


Adam Bensaid
The secret history of US interventions in Latin America
TRT 2019
trtworld.com/americas/the-secret-history-of-us-interventions-in-latin-america-23586


M. Doug, S. Tarrow, C. Tilly.
Dynamics of Contention
Cambridge University Press, 2001








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات جامعة إيموري.. كاميرا CNN تُظهر استخدام الشرطة الأم


.. كلمة الأمين العام الرفيق جمال براجع في افتتاح المهرجان التضا




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيمرسون بأ


.. شبكات | بالفيديو.. هروب بن غفير من المتظاهرين الإسرائيليين ب




.. Triangle of Love - To Your Left: Palestine | مثلث الحب: حكام