الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الملفوف الساخن

سوزان خواتمي

2006 / 8 / 27
الادب والفن


صفعة واحدة .. ثقيلة .. قاسية .. ظالمة .. و كافية لتنبئه بما قد يليها .
قليل من العنف ، كمزاح ثقيل من صديق سمج جعله يعترف .
- ستنطق يا ابن الكلب .
الكف القاسية هوت فوق صدغه مثل سيخ النار ، أزَّ خيط الألم ، اتقد خده ، فصرخ مستجيراً .
- أرجوك يا سيدي .. سأعترف .
وقد اعترف لسببين ، أولهما انه ابن كلب كما كانت تصرخ والدته حين تفور بغضبها ، والثاني أنه يستطيع احتمال برودة بلاط السجن لسنتين إن وقع بين يدي قاض رحيم أو ثلاث كحد أقصى ، ولكنه لن يحتمل صفعة أخرى من كف الضابط الأخطبوطية ..
سالت دموعه ..
روى تفاصيل سرقاته على مسامع الضابط :
- أما ما بقي من المال والذهب فقد خبأته داخل كيس خام في (طاقة ) حمام بيتي ، خوفاً من اللصوص .
- أعطني عناوين البيوت التي سرقتها يا ذكي زمانك .
كخطف البرق تذكر : فيلا في الشهباء ، و أربعة بيوت في المحافظة ، وواحد في منطقة الشيخ طه ، ومحلان في التلل ، وأشرطة كاسيت من سيارة كانت مفتوحة أمام أحد دور السينما ، محفظة صبية في إحدى سيارات السيرفيس ، هاتف نقال .. سطل لبن من دكان جارهم أبو يوسف ..
استغرق الاستجواب الليل بطوله .. وحين غمر ضوء النهار صفحة السماء .. أغلق الضابط المحضر على أقواله ، أطفأ المصباح الجانبي .. تمطى متثائباً لاعناً حرامية منتصف الليل .
رماه الشرطي في زنزانة رطبة ، وناوله بطانية تفوح منها رائحة عرق حادة ، بين عظام جسده المتكومة و البلاط البارد المتسخ ، بساط لا لون له ، ذاك تفصيل لا أهمية له ، فالإعياء نال منه ، ثنى مرفقه تحت رأسه ، لملم باقي جسده على نفسه ، أغفى متعباً ، وشوق حثيث لحضنها الدافئ يتسرب بين مفاصله ، يهدهده حتى ينام .
*******
ظهيرة البارحة فقط كان أسعد رجل في العالم . يطحن بين أضراسه لقمة ساخنة تغلي ، فهو يحب محشي الملفوف المحمّض بدبس الرمان الذي تطبخه زوجته نجاح وتقدمه له ملهلباً .
نجاح ست بيت شاطرة ولا كل الستات ، لها نفس طيب في الطبخ والنفخ ، حمامها ومطبخها يشعان نظافة ، إضافة إلى أنها تنقلب امرأة مثيرة حين تقشر له التفاح وتلقمه الفصوص بيدها ، فيقضمها ثم يأتي على الأصابع الملونة بالأحمر القاني .
قال له أبوها : خذها بالثوب الذي عليها ، وزغردت زوجة أبيها .
أحبها منذ كانت تلعب على رصيف الحارة ، وانتظرها بعين قلقة حتى تكور نهداها .
حين ضمها إلى صدره صار أكثر الرجال سعادة .
غرفة فوق السطوح بملحقاتها كانت كافية آنذاك ليعيشا نعيم الحب .. متى كبرت أحلامهما ولم يعد المكان يتسع ؟
حين تزوج نجاح ، كان يعمل سائقاً لشاحنة المعلم حسن يسافر بحمولة الخضار والفواكه من حلب إلى السعودية ، جلوسه وراء المقود في عتمة الليل وغبش الطرقات الموحشة لم يكسبه الثروة التي تذيقه طعم الملذات ، بل إن صوت أم كلثوم الذي يرافق دربه كان يجعل من قلبه خرقة بالية يعتصرها الشوق إلى دلال نجاح وغنجها .
تقول له وهي تدلك وتاب رقبته : البيت فاضي من غيرك يا حمودة ...
كانت تتشيطن تحت لحافه وتسأله بهمس مبحوح : متى ستشتري لي مبرومة الذهب التي وعدتني بها ؟.
يرتجف فؤاده هلعاً . ما أقسى زعلها حين يتلاقى قوسا حاجبيها ويتغضن جبينها على هم الوعود التي لا تتحقق!
نجاح تستاهل سوق الصاغة بأكمله ، لكن " العين بصيرة واليد قصيرة " فكل ما اشتراه لها : حلق تخشخش كراته في أذنيها كلما حركت رأسها .
ظل فقيراً ..
عاد ذات ليلة ، ورأى نجاح تبكي وبدنها يرتجف من الحرارة .. لم يكن يملك ثمن الدواء حملها وركض بها إلى العيادة الليلية المجانية .. ساعة انتظار ، وتكشيرة الممرضة ، وتثاؤب الطبيب المناوب ..
اتخذ قراره : سيشتري لنجاح الأساور التي تريدها .
حظه العاثر جعل جرس الإنذار يرن وهو يحاول دخول أحد البيوت ، وبغمضة عين أحاط به كل شرفاء العالم .
*******
نخز الشرطي خاصرته فانتفض مرعوباً .. عرك نعاس عينيه .. لملم أطراف سترته حول صدره ، وتبع خطوات الشرطي الثقيلة .
ضابط الليلة الماضية ، يرتشف الشاي الساخن وبجانبه مدفأة تتقد نيرانها .. شعر بالحرارة تفكفك عظامه المتجمدة .. أراد أن يقترب أكثر ، خده الأزرق والجرح الصغير عند زاوية فمه جعلتاه يتراجع عن الفكرة .
أنار الضابط ثريا ابتسامته العالقة فوق فمه ثم لعقها بلسانه قائلاً :
- لديك زيارة ..
حرك حاجبيه بخبث ثم أضاف :
- حريم .
غيظ يتقد برأسه كجمرة في مهب الريح : لحن قديم .. خشخشة أساورها .. برد عظامه .. دفء حضنها .. ليل الطرقات الموحش .. الصفعات المؤلمة .. رائحتها .. ولقمة ساخنة من محشي الملفوف تحرق سقف حلقه .
ما أن لمح وجه نجاح الطافح الحسن يطل بشبابه من شق الباب حتى وثب إليها كنمر غاضب .. رفع يده إلى الأعلى .. وهوى صافعاً اندهاشها ، ومن غير أن يكترث لدموعها النافرة وصرخة الألم التي فلتت منها ، أدار وجهها نحو باب الغرفة ، ودفعها بقسوة من بين كتفيها إلى الخارج .
زعق بصوت جهوري هز جدران غرفة المحقق الضيقة :
- إياك أن تأتي إلى هنا مرة أخرى لأي سبب .. أتفهمين ؟ ... لأي سبب .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة


.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا




.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم


.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا




.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07