الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أطفال الانفال - 2

يوسف ابو الفوز

2006 / 8 / 27
حقوق الانسان


اطفال الانفال هو العنوان الداخلي لكتابي ، الذي اردته شهادة بلسان ضحايا وشهود جريمة الانفال بحق ابناء شعبنا الكوردي ، والذي بدأت العمل فيه بعد احداث الانفال مباشرة ، وكنا لا نزال بالملابس التي اجتزنا فيها الحدود العراقية نحو الاراضي الايرانية ، وفيما بعد صدر عن وزارة الثقافة الكردية في السليمانية ، شتاء 2004 ، وتحت عنوان (لدي اسئلة كثيرة او اطفال الانفال ) . حيث كنت مع انصار الحزب الشيوعي العراقي ، في قلب الاحداث ، وسط أجواء التحدي والموت والجوع والعطش . كنت مع بسطاء الناس ، جزءا من المأساة ، وواحدا من ضحاياها . كنت مع الجميع شاهدا على كثير من فصول جريمة الديكتاتور المجرم ونظامه الشوفيني الفاشي ، و ما جرى بحق ابناء شعبنا الكوردي .
في صفحات الكتاب ـ الشهادة حاولت أن ارصد بعض مما جرى ، ومن خلال زاوية محددة : الأطفال الأكراد !
في الحلقة رقم 1 نشرت جزءا من مقدمة الكتاب ليكون القارئ في صورة الاحداث ، واورد الان بعض القصص ـ الشهادات التي ضمها الكتاب .
***
قصة الطفلة (ئيوان)

الفصل الأول
* حدثني النصير بسام :
حتى وصولنا إلى تركيا ، كنا قد شهدنا عشرات القصص المحزنة التي حصلت للناس المسالمين الهاربين من الموت . وفي تركيا سمعنا عشرات غيرها . وعن عائلة الطفلة ئيوان التي التقيناها هناك سمعنا القصة اكثر من مرة .
وسمعتها من والدها حين التقيته هناك :
لما ضاق حصار قوات النظام الديكتاوري على الناس ، توجهوا لعبور نهر الزاب بأتجاه تركيا. وعند نهر الزاب كانت مئات العوائل تنتظر فرصتها للعبور . قرب أحد الينابيع كانت عشرات العوائل تزدحم ، ومعها تقف عائلة ئيوان بانتظار فرصتها لشرب الماء . كانت أخت ئيوان الأصغر تقف هادئة تنتظر فرصتها دون مزاحمة الاخرين ، رغم عطشها ، ثم جاء دورها . وتقدمت للشرب . ما أن انحنت على النبع حتى سقطت قنبلة مدفع . وسط النبع تماما! تطايرت أشلاء الطفلة وسقط بعضها على أبيها والناس القريبين الذين تراكضوا في مختلف الاتجاهات . أبوها أصيب بالوجوم ، بقي ذاهلا من فرط الصدمة لا يفقه حقيقة الذي حصل . ولما أفاق من ذهوله بعد ثلاث ساعات ، انتابته هستيريا حادة واخذ يلطم ويطلب أطفاله .
حينها عرفوا أن ئيوان أيضا ليس لها أثر !

الفصل الثاني
* حدثني النصير أبو أمال :
مع انتشار قوات السلطة الديكتاتورية على اغلب الطرق والمسالك في المنطقة ، صارت الظروف النفسية والعسكرية اشد تعقيدا وصعوبة . وفي يوم 29 /9 / 1988 كنا مفرزة من قوات أنصار الحزب الشيوعي العراقي، من 29 نصيرا ، قرب نهر الزاب نحاول العبور باتجاه الحدود التركية حسب توجيهات قيادتنا .
بعد استطلاع منطقة العبور عدنا إلى مكان اختفاء المفرزة على مقربة من قرية (شينا) . وعند مقبرتها عثرنا على طفلة صغيرة لوحدها . كانت جائعة وعطشى . أعطيناها كسرة خبز وماء وقليلا من اللحم المجفف على الطريقة الأنصارية . ثم وضعناها على طريق بئر للماء ، إذ نعرف أن هناك بعض العوائل ، وطلبنا منها التوجه إلى هناك .
* النصير وصفي :
في ظهر اليوم التالي غادرنا المقبرة ، فسمعنا طفلة تغني . تصّور غناء وسط أجواء "الكيمياوي" والراجمات والتوتر وفي تلك المنطقة الخالية . اكتشفنا أنها الطفلة التي عثرنا عليها أمس ، إذ لم تبتعد كثيرا . وكان موقفا حرجا جدا : لا يمكن تركها . وضيق الوقت لا يسمح بإيصالها إلى العوائل التي أصبحت بعيدة عنا ، والطريق أمامنا وعرة ومليئة بشتى المخاطر .
* النصير أبو بشار :
ساعتها اندلعت نقاشات حادة وأراء متضاربة بين الانصار وبدوافع مختلفة ، وفي النهاية قررنا استصحابها ، وبهذا لم نفعل إلا ما ينسجم مع مبادئنا . وتطوع الرفيق وصفي للتكفل بها في أثناء الطريق .
* النصير وصفي :
اسمها ئيوان وأبوها سيد نظيف ، من بلدة زاخو . عمرها ست سنوات . في الصف الأول الابتدائي . كانت ترتدي فستانا كورديا احمر فوقه ( روب ) ابيض . نحيلة . قصيرة الشعر.
* النصير أبو أمال :
مساء الثلاثين من أب ، توجهنا إلى الزاب للعبور . حتى الساعة الثالثة فجرا لم يستطع العبور من المفرزة سوى تسعة أنصار ، فعاد الاخرون إلى مكان الاختفاء بعد أن اتفقنا مع الأنصار الذين سبقونا على مكان لقاء في اليوم التالي .
* النصير وصفي :
طيلة نهار الحادي والثلاثين كنا مختبئين بين الصخور وئيوان معنا . بدأت تأنس الأنصار ، وتثرثر . كانت لا تدعنا ننام ، فأحاديثها لا تنتهي . وهي طفلة ذكية . فهمنا منها أن عائلتها مكونة من أب وأم وأخ وأختها . أبوها بيشمه ركه. العائلة هربت من زاخو قبل الأحداث إلى منطقة العمادية . ومع هجوم السلطة على المنطقة هربت إلى منطقة (كافيا) ثم جاءت لعبور نهر الزاب . قبل العبور قتلت أختها عند النبع فهربت من الخوف ولم تعثر على أهلها .
حين تتذكر أهلها تبكي بحرقة . وكثيرا ما حدثتنا عن تفاصيل حياة عائلتها ، وعن مدرستها التي تحبها ، وعن زملائها في الصف . وكان الرفيق أبو بشار ، رغم مرضه ، يتحمل ثرثرتها بشكل نحسده عليه .
* النصير أبو بشار :
اكرر بأن ئيوان ، رغم صغر سنها ، كانت ذكية ، عرفت أننا أنصار شيوعيون ، وأصبحنا نعني لها شيئا . فهمتنا وأحبتنا على طريقتها وأخذت تتصرف معنا بشكل يتجاوزعفوية وبراءة الأطفال. كانت مؤدبة جدا ولكنها ثرثارة ، وتغني كثيرا. قالت لي أنها تغني حين تشعر بالخوف والوحدة . كانت شيئا غريبا في أجواء وأحوال المفرزة الانصارية . أحيانا كنت لا اصدق أنها معنا ، اشعر كأن الأمر كان حلما . كنت رغم مرض الملاريا أتحمل ثرثرتها . أتذكر ، كنا في مكان للاستراحة ، وكل المفرزة غارقة في النوم ما عدا الحراس . كل واحد تحت صخرة أو ظل شجرة ، ومواضع النوم مموهة بشكل جيد . ظلت ئيوان مستيقظة . كنت أراقبها من مكاني دون أن تراني . دارت فلم تجد أحدا . أحست بالوحشة ، تلفتت هنا وهناك ثم بدأت تغني . لم يظهر لها أحد. تهدج صوتها . كادت تجهش بالبكاء عندئذ ناديتها فأنكشف لها مكاني ، فأسرعت إلي كالطلقة ضاحكة لترمي بنفسها علي .
* النصير أبو أمال :
الموقف العسكري يتعقد . العدو يضيق دائرة الحصار. مساء اليوم ذاته أرسلنا مجموعة استطلاع لاختيار نقطة لعبور نهر الزاب . كان الموضع المختار خطرا ، لكن بقدر سلبياته كانت له إيجابيات . إذ لا يبعد اكثر من مئة متر عن أقرب ربيئة للعدو ، ولذلك لا يتوقع اقتراب الأنصار إلى هذا الحد . والمكان فيه أمواج عالية تحدث هريرا يغطي حركتنا والأصوات التي قد تصدر دون أرادتنا . أسوأ ما في المكان الضفة الثانية . صخور حادة عالية يضربها تيار الماء فتخلق أمواج عالية .
من تراكتور متروك كنا قد حصلنا على إطارين مطاطيين نفخناهما بأفواهنا للاستعانة بهما على العبور . فمن بين عشرين نصيرا لم يكن يعرف السباحة سوى تسعة . ولكننا قررنا العبور رغم المشقة والمخاطر. كان السبّاح يصارع التيار الشديد بيد واحدة ساحبا بالأخرى الطوق المطاطي المثقل بالذخائر والسلاح والتموين أو يتعلق به الرفاق الذين لا يجيدون السباحة . عملية منهكة جدا . فقدنا خلالها بعض ملابسنا ومالية المفرزة ، وبعض وثائق وأوراق الأنصار الخاصة .
أخيرا ... تبقى لنا نصيران وئيوان . عدت إليهم لأصطحاب ئيوان أولا .
كانت ترتعش من الخوف . أوصيتها أن لا تصدر أي صوت مهما حصل ، وطمأنتها أني سأنقلها إلى الضفة الثانية حتما . ربطتها بأحكام فوق ملابسي وأشيائي الخاصة على الطوق المطاطي وبدأت السباحة . بيد واحدة ! كنت قد عبرت النهر ذهابا وإيابا عدة مرات . كان التيار شديدا . فالمجرى منحدر والمياه عميقة . حين أصبحت اقرب إلى الضفة الثانية استبد بي الإرهاق . وصلت قرب أحد الصخور فداهمتني موجة عالية رفعتني أنا وئيوان معها ، واخذ التيار يجرفني بلا رحمة . أمسكت بالطوق بكل ما املك من قوة . لكنه انقلب رأسا على عقب بئيوان والملابس والأشياء الأخرى . لم أتخل عن الطوق . انتبهت إلى ملابسي تفلت من رباطها وتطفو فوق الماء. لحظتها لو حاولت التقاطها أفلت الطوق وتهلك ئيوان . كان التيار يدفعني رغما عني إلى موضع أخطر ، فيه صخور عالية وأمواج أعلى . ئيوان ظلت تحت الطوق ، تحت الماء ، أكثر من دقيقة ، ظننت أنها ماتت . نسيت كل المحاذير الأمنية وصرخت بهستيريا أنادي رفاق الانصار . لحسن الحظ لم تسمع الربايا القريبة . صخب المياه طغى على كل شئ . انتشلني رفاقي وئيوان من الماء. كانت على وشك الإفلات هي الأخرى من رباطها . أستطيع القول أنها كانت على قيد شعرة من الموت . حالا أفرغنا بطنها من الماء ونفخنا في فمها . لم نطمئن حتى صرخت وبكت . ثم تذكرت أنها حافظت على الصمت ، كما أوصيتها . لم يصدر عنها في اللحظات الحرجة سوى أنين خافت .
* النصير وصفي :
بعد العبور سرنا بدون دليل . سالكين طرقا شديدة الوعورة . كنت احمل ئيوان على ظهري. ساعدني في ذلك الرفيق " سلمان" الذي فقدناه في المرحلة النهائية من المسيرة ولا يزال مصيره مجهولا . كنت لا أستطيع أن احملها على الدوام ، فأضطر إلى اقتيادها إلى جانبي . كانت تئن بمرارة من التعب . في المسير الليلي كانت تهمس : " ما تنامون ؟ " . أثناء المسير قاسينا من العطش كثيرا . كان الرفاق يسقون ئيوان من حصصهم الشحيحة . وعند نفاد الماء تحملت مثلنا العطش الشديد . وبعد خمسة أيام قاسية وصلنا إلى نقطة معينة .
أتصلنا ببعض" المعارف " الذين ساعدونا على دخول تركيا . سلمناهم ئيوان وزودناهم بعنوان أقربائها .
* النصير أبو بشار :
حين تهيأنا للحركة ، عرفت ئيوان أننا لن نأخذها معنا ، انخرطت في بكاء هستيري . ظلت تصرخ . تعارك . تحاول اللحاق بنا . تنادينا بأسمائنا . تتوسل أن لا نتركها . كنا نسمع صوتها الحبيب حتى بعد أن قطعنا مسافة غير قليلة .
هل أنسى ذاك الرفيق . كان في البداية قد عارض بشدة استصحاب ئيوان حين عثرنا عليها وكانت لديه أسبابه . عندما غادرناها بكى هذا الرفيق بحرقة اشد من الجميع ، كأنه يكفر عن ذنب ما !
لم تبق الطفلة ئيوان معنا سوى خمسة أيام . لكن ئيوان ستظل في قلوبنا زهرة برية شذية على الدوام.
ملاحظة اضافية :
فيما بعد ، علم الأنصار أن الطفلة ئيوان وصلت إلى بيت خالها ، كما أن أخبارها وصلت إلى ما تبقى من عائلتها المتواجدة في تركيا أثناء كتابة سطور هذه الشهادة صيف 1989 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أبو حمزة: الطريق الوحيد لاستعادة الأسرى هو الانسحاب من غزة


.. جبال من القمامة بالقرب من خيام النازحين جنوب غزة




.. أردنيون يتظاهرون وسط العاصمة عمان ضد الحرب الإسرائيلية على ق


.. كيف يمكن وصف الوضع الإنساني في غزة؟




.. الصحة العالمية: المجاعة تطارد الملايين في السودان وسط قتال ع