الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأوراسية الجديدة والثورات العربية: قرارات 25 أكتوبر بالسودان أنموذجا

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2021 / 11 / 27
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


الثورات العربية ومفصليتها الثقافية الكامنة هي في صلبها مشروع لتجاوز تناقضات القرن الماضي، وإرثها الثقافي وتراتباتها الاجتماعية المستقرة سلطة ومعارضة، وتبدو سمتها الرئيسية في أن قاعدتها الشعبية أو "كتلتها الجامعة" الفطرية التي نشأت بعيدا عن المشهد السائد سلطة ومعارضة، تسبق دوما النخب السائدة المرتبطة باستقطابات القرن الماضي يمينا ويسارا.
وتبدو أروع تمثلات الذات العربية الجمعية الجديدة أو المرتبطة بمشروعها الثوري، في قدرتها الجذرية والمباشرة على التجاوز لاستقطابات اليمين واليسار العربيين إرث القرن الماضي، وفي الوقت نفسه وعيها ببنية "دولة ما بعد الاستقلال" عن الاحتلال الأجنبي التي نشأت في الدول العربية منذ أواسط القرن الماضي، بالاعتماد على التراتبات الاجتماعية للمؤسسات أو الأبنية العسكرية انطلاقا من دورها في التحرير الوطني من الاستعمار، ثم الارتباط بين شعارات مرحلة التحرير والدور السياسي/ العسكري المزدوج لتلك المؤسسات.

"كلن يعني كلن"
وفي مشاهدة متكررة ستجد أن جماهير الثورات العربية وكتلتها الجامعة المرتبطة بمستودع هويتها، تقدم خطابا مغايرا تماما للطبقة السياسية والنخب المرتبطة بها إرث القرن الماضي يمينا ويسارا، فجماهير الثورات العربية تتجاوز بوضوح كافة الاستقطابات وتؤكد على الشعار الثوري اللبناني: "كلن يعني كلن" بمعنى إزاحة الطبقة السياسية كلها وخطابها والسعي بحثا عن خطاب جديد بنخبة جديدة يرتبط باللحظة الراهنة.
في حين تحاول النخب المرتبطة باستقطابات القرن الماضي إعادة إنتاج التناقضات القديمة نفسها، وتقديم سردية دينية أو سردية يسارية أو ليبرالية مثلا، لمشروع الثورات العربية التي صلب مشروعها هو تجاوز إرث القرن الماضي سلطة ومعارضة على السواء، وموضوع إعادة إنتاج التناقضات هذه يمينا ويسارا في الحالة العربية، وأزمته مع المفصلية الثقافية العربية الكامنة ومشروعها للتجاوز والتمحور حول لحظتها التاريخية، يتكرر على المستوى الدولي وسيادة "المسألة الأوربية ومحاولتها إعادة إنتاج نفسها من خلال متلازمات ثقافية جديدة بين الشرق والغرب الأوربيين وأمريكا والصين.

تمثلات عربية رد فعل لـ"المسألة الأوربية"
أو يمكن القول إن "المسألة الأوربية" وثنائياتها الحدية الفكرية والثقافية والأيديولوجية، تتمسك بفكرة السيادة والهيمنة في ذاتها وحضورها المباشر، ومن خلال التمثلات المرتبطة بها عربيا سواء مع في تيارات اليسار والليبرالية أو ضد في فرق الدين السياسي، فكل من الفصيلين يتجمد عند خطابه التاريخي بحجة الموقف من "المسألة الأوربية" ومتلازماتها الثقافية والأيديولوجية، فهناك من يعتبرها لحظة الميلاد المقدس الجديد للعالم بمشروعها الحداثي عن العقلانية والاختيار المادي المتطرف، سواء في المادية الليبرالية المنفلتة أو المادية الشيوعية التنميطة، وفي الوقت نفسه هناك من يعتبرها الشيطان الأكبر الذي لابد من رفع الشعارات الدينية الحارسة في وجه غواياته، دون جهد واجتهاد دنيوي حقيقي للبحث في سبل التحديث وبناء التراكم الحضاري البديل.

روسيا الجديدة: الأوراسية
وفي فكرة إعادة إنتاج التناقضات هذه على مستوى القوى الدولية و"المسألة الأوربية" يجب التوقف أمام عدة ظواهر، تحديدا في الثورة السودانية، وموقف روسيا منها فيما يخص قرارات 25 أكتوبر 2021م وإزاحة المكون العسكري للمكون المدني، والأحداث المؤسفة التي حدثت بعدها، مع أهمية الإشارة إلى أن روسيا الجديدة في القرن العشرين ليست روسيا نهايات القرن العشرين التي كانت تبكي على أطلال الاستقطاب الأوربي القديم، بين المادية الليبرالية والمادية الماركسية.
إنما روسيا اليوم وبعد فترة ارتباك لم تطول طورت نظرية سياسية جديدة، لتعيد إنتاج الاستقطابات بينها وبين غرب أوربا وأمريكا، ورغم كون هذه النظرية غير شيوعية إلا أنه أسهم في تقديمها الشيوعي القديم المفكر "ألكسندر دوجين"، وفي كثير من النظرية الجديدة هذه نرى تطرف المنهزم وتشدده، هي تشبه مرحلة هزيمة القومية العربية فيما بعد عام 1967م وردة الكثيرين عنها إلى الماركسية غير الوطنية/ القومية، أو إلى فرق الدين السياسي غير الوطنية/ القومية أيضا.

الأوراسية وإعادة إنتاج التمركز الأوربي
تقوم النظرية الجديدة لروسيا التي يتبناها الرئيس فلاديمير بوتين لحد كبير؛ على إعادة إنتاج "المسألة الأوربية" والتناقضات الخاصة بها يمينا ويسارا، والتأكيد أيضا على أن الذات الأوربية شرقها وغربها هي مركز العالم وما سواها مجرد حشو أو لزوم ما يلزم، والتناقض أو الاستقطاب الجديد الذي تقدمه الأوراسية يقوم على فكرة تقسيم الذات المركزية الأوربية إلى جانبين أو "ثنائية حدية" جديدة، جانب تسميه قوى البر الأوراسية (تضم جغرافيا مناطق من روسيا وأوربا) والجانب الآخر هو قوى البحر الأطلسية (يضم أمريكا ومعها دول أوربا الغربية القريبة من المحيط الأطلسي).
وقدم ألكسندر دوجين الشيوعي عدة سمات لكي تمنح نظريته الجديدة سمات التناقض بين الذات الأوربية المركزية شرقا وغربا، أولا أن هدف النظرية الجديدة سيكون التمدد الجغرافي والصراع على النفوذ بين قوى البر بقيادة روسيا وقوى البحر بقيادة أمريكا، اعتمد دوجين الماركسي المتطرف القديم في خلق عناصر الاستقطاب الجديد على فكرة الدين، فاعتبر –بشكل ما- أن قوى البر تمثل "المسيحية الشرقية الأرثوذكسية" وأن قوى البحر تمثل "المسيحية الغربية البروتستانتية".
وتجاوز دوجين فكرة التأويل الاقتصادي والثنائية القديمة بين المادية الليبرالية والمادية الشيوعية، وأكد بنسبة كبيرة على مبدأ الليبرالية، وسمى دوجين نظريته الطريق الرابع وفق تأويل خاص أنه يتجاوز ثنائية الليبرالية والماركسية وفكرة ثالثة طرحها لم تكن مشروع الطريق الثالث الغربي، لكن بما أن دوجين يقف على الأرضية الليبرالية نفسها فيمكن القول إن دوجين قدم الطريق الرابع تأكيدا على فكرة "الثنائية الحدية"، مع الطريق الثالث الغربي الذي ظهر أواخر القرن الماضي وذاع صيته بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.

الذات العربية مجالا للاستقطاب الجديد
بين الأوراسية والأطلسية
دعك من كل هذه الديباجة الثقافية التي الهدف منها هو إعادة إنتاج مركزية الذات الأوربية بذهنيتها الجرمانية القبائلية المتطرفة العنصرية القديمة، ولنصل إلى فكرة التطبيق الواقعي للأوراسية الجديدة في السياسة الدولية ومحاولات روسيا للتمدد الجغرافي في مواجهة أمريكا..
سنجد هنا أن أبرز تطبيق حي لنظرية الأوراسية الجديدة بخطابها الثقافي المسيحي الشرقي الجديد كان على حساب الذات العربية، ففي ملف الثورة الروسية قدمت روسيا خطابا ثقافيا يكرس لدورها في حماية مسيحيّ سوريا عبر التواجد بقوات عسكرية هناك، مع الإشارة والسخرية الضمنية من النموذج الأمريكي للديمقراطية والمسيحية الغربية الذي جرى تطبيقه في احتلال العراق، وكأن السباق وإعادة إنتاج "المسألة الأوربية" الجديدة يقوم على أيهما "الاحتلال الجيد"! واستمرار العقلية الكولونيالية القديمة التي ربطت الحداثة بالاستعمار، وقدمت التبريرات المتعددة لاعتبار الآخر خارج المركز الأوربي فاقدا للأهلية، وفي حاجة للهداية والرشاد على طريقة الحداثة الأوربية في شكلها المادي الليبرالي المنفلت أو المادي الشيوعي التنميطي، وكأن العالم لم يكن يوجد فيما قبل صعود الذات الأوربية و"ثنائيتها الحدية" المتطرفة رد الفعل لتطرفها الجرماني/ القبائلي القديم في قبول الدين المسيحي وما ارتبط به من فظائع ومحاكم تفتيش في العصور الوسطى.
واستمر تطبيق نظرية الأرواسية الجديدة على الذات العربية في استقطابات الثورة الليبية، ودخلت روسيا بقوة في الملف سد النهضة في غير صالح الذات العربية، مع الإشارة إلى أن طرفي "المسألة الأوربية" القديمة الجديدة يستخدمان التكتيكات نفسها التي تقوم على "تفجير التناقضات" وإدارتها لصالح كل منهم.

قرارات 25 أكتوبر بالسودان
لكن ما يهمنا في هذه المقالة تحديدا هو دراسة النمط السياسي لنظرية الأوراسية الجديدة الروسية وتطبيقها على الملف السوداني، تحديدا فيما يخص قرارات 25 أكتوبر وإزاحة المكون العسكري للمكون المدني وما استتبع ذلك ن أحداث على المستوى الشعبي او الجماهيري، ومواقف الدولة الروسية منها.
ففي 25 أكتوبر 2021م أعلن عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني والقائد العام للقوات المسلحة السودانية، عن مجموعة قرارات مضمونها كان إزاحة المكون المدني في نظام ما بعد إزاحة نظام البشير، وهذه القرارات نصت على التالي: (إعلان حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد - التمسك الكامل والالتزام الام بما ورد في الوثيقة الدستورية - تعليق العمل بالمواد الـ 11 و12 و15 و16 و24-3 و71 و72 من الوثيقة الدستورية مع الالتزام الكامل بها واتفاق السلام - حل مجلس السيادة الانتقالي وإعفاء أعضائه - حل مجلس الوزراء - إنهاء تكليف ولاة الولايات - إعفاء وكلاء الوزارات - تكليف المدراء العاميين بتيسير دولاب العمل - تجميد عمل لجنة إزالة التمكين حتى تتم مراجعة أعمالها).
وهي مجموعة القرارات التي دفعت البلاد إلى حافة الاشتعال، خاصة أن أن الفترة الانتقالية فيما بعد إزاحة نظام البشير اتسمت ككل بلدان الثورات العربية بحالة من الجمود وعدم وضوح الرؤية الكاملة، وضبابية السلطات الممنوحة للحكومة المدنية الجديدة، لسبب واضح ومركزي في كل الدول العربية وهو بنية "دولة ما بعد الاستقلال" المركزية التي تقوم على الحضور المزدوج للمؤسسة العسكرية في أجهزة الدولة التنفيذية، خاصة وأن الحالة السودانية كان تداخل هذه الدولة فيها مع فرق الدين السياسي (الإخوان) قويا للغاية، وحالة "الدولة حارسة التناقضات" الداخلية كانت محققة بشدة في السودان، والتي تم تفجيرها بسهولة في عدة ملفات لكي يدفع الناس ثمن رغبتهم في التغيير.

الحد الأدنى والحد الأعلى للقرارات
ونتيجة لقرارات 25 أكتوبر وجدت القوى الدولية والإقليمية نفسها أمام معادلة سياسية صعبة؛ هدف قرارت البرهان كان الهرب من الاستحقاقات السياسية التي كانت ستفكك البنية التاريخية لدولة ما بعد الاستقلال، دون وجود بديل واضح تثق فيه المؤسسة العسكرية لتأمين تصوراتها الوجودية التي ترى أنها صلب الدولة الحديثة في العالم العربي، وطوق نجاتها ودونها يغرق العالم العربي في بحار الظلمات، وهذه مشكلة حقيقة في كافة الدول العربية الممتدة من الجزائر والسودان وسوريا وغيرهم، أي غياب تصورات بديلة لتجاوز "دولة ما بعد الاستقلال"، وتركيز المعارضة العربية التاريخية على شعارات أيديولوجية دعائية سطحية لا تقترب حتى من مقاربة الواقع العربي.
كان البرهان له حد أعلى وحد أدنى للهروب من الاستحقاقات السياسية لتفكيك بنية دولة ما بعد الاستقلال ودورها المركزي، الحد الأعلى هو التخلص الكامل من كافة الاستحقاقات السياسية، وتفجير التناقضات شيئا فشيئا بين النخبة السياسية الجديدة برمتها التي خرجت بها الثورة في السودان، وبين الظهير الشعبي عن طريق تعقيد سير الحياة اليومية ومتطلباتها (كما حدث في النموذج اللبناني)..
والحد الأدنى كان الإزاحة الجزئية لضغط القوى الأكثر تشددا المشاركة في نظام ما بعد إزاحة البشير، بما قد يمكن على المدى الطويل من استمرار التناقضات كما هي في السودان، وثبات التراتبات الاجتماعية الموروثة منذ الاستقلال عن الاحتلال الأجنبي في القرن الماضي.
المحددات الحاكمة للقبول بالحد الأدنى أو الحد الأعلى لقرارات 25 أكتوبر 2021م، لم تكن يتعلق بالداخل السوداني فقط، لأن الداخل السوداني كعادة كل الثورات العربية كان سيدفع الثمن عن رضا من دمائه دون بخل أو إمساك أو تردد، حتى تصل المسألة لنقطة العجز والجوع العام فتبدأ مرحلة المفاوضات..

أثر الموازين الدولية والإقليمية على السودان
لكن المحددات الأهم التي حكمت وستحكم المآل النهائي هي موقف القوى الإقليمية والدولية ومصالحها المادية والمعنوية في السودان، على المستوى العربي دول الخليح في معظمها وعلى رأسها الإمارات ليست عموما مع مشروع الثورات العربية لأن فكرة الثورات تقلقهم خوفا من أن تنتقل عدواها لشعوبها، ومصر الرسمية لديها توازناتها الخاصة لأن درس تفضيل كفة على أخرى في الملف السواني كان موجعا في تأثيره على ملف سد النهضة.
وكانت نقطة الحسم تكمن في القوى الدولية والتناقضات التي تفجرها في المنطقة لصالح حساباتها، خاصة التناقضات الموروثة منذ العصر الاستعماري القديم وأزمة الحدود والتقسيمات التي وضعت بهدف ان تكون قنابل هوياتية موقتة، تم دعمها عن طريق المعونات، والتوجيه الثقافي الناعم لدعم الإثنيات والجماعات الصغيرة وتمويلاته، وحملات التبشير المكثفة.
أمريكا والغرب لها حساباتها في منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل ومصر والسودان وأثيوبيا، وتربط ذلك بمشروع منح الصهيونية و"إسرائيل" السيادة والهيمنة المباشرة أو بالوكالة، من خلال بقايا صفقة القرن ومشروع "الإبراهيمية" الجديد آخر ما أنتجته قريحة الاستشراق الجديد، عبر اختراق العقلية العربية الطيبة من خلال باب المشترك الديني.
لكن روسيا والصين من جهة أخرى أصبح لهما التواجد المتزايد في القارة الأفريقية، وكان ترامب برعونته قد عجل من كشف الصين عن أنيابها حينما دخل معها في حرب تجارية في فترة ولايته، وروسيا كانت قد طورت نظرية سياسية جديدة تقوم على التمدد الجغرافي في مواجهة أمريكا والغرب الأطلسي.
في الإجمال أمريكا تميل في مقاربتها للثورات العربية على محاولة احتواء كافة الأطراف: الثوار، المعارضة، السلطة، والحرص على حضورها وتمرير خلطتها الاستعمارية التي تجمع بين شعارات الديمقراطية والتعدد الثقافي ودعم الصهيونية، والحرص على وجود التناقضات كما هي في الدول العربية وأفريقيا، كي لا تطور هذه الدول مشروعا حقيقيا يقلل من هيمنتها.
روسيا كانت تميل للتدخل العنيف وعلاج "النقص النفسي" وعقدتها التي أصابهتا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، فتدخلت في سوريا لصالح دولة ما بعد الاستقلال هناك، وقدمت خطابا سياسيا يقوم على خلطة دفاعية أو رد فعل بعض الشيء، فرفعت شعارات حماية مسيحي الشرق! والسخرية من الديمقراطية الأمريكية ومآلاتها في العراق.
وتدخلت روسيا لصالح أثيوبيا في ملف سد النهضة بقوة ردا على محاولة أمريكا إدارة التناقضات في أثيوبيا لصالحها، ولأن الوزن النسبي لمصر الرسمية عند روسيا اعتبرت أنه يمكن السيطرة على ردود فعله وفق إماكنيات مصر وظروفها الراهنة، مع علمها أن الموقف السوداني من السد غير محسوم وتتدافعه التوجهات العاطفية تارة والواقعية تارة أخرى.

الأوراسية وموقفها من قرارات 25 أكتوبر
لكن روسيا وموقفها من السودان كان يرتبط بحلمها في التمدد الجغرافي وفق نظرية الأوراسية الجديدة، والحصول على قاعدة بحرية في منطقة حيوية للغاية هي البحر الأحمر (بالسودان)، لتعد انتصارا نفسيا كبيرا للدولة التي كانت تظن نفسها قطبا من قطبين يتحكمان في مصير البشرية، وبالطبع وفق هذا الهدف والنظرية السياسية الجديدة لروسيا ستميل لدولة ما الاستقلال وقلبها المتمثل في المؤسسة العسكرية السودانية، لأنها من تملك القرار السيادي فيما يتعلق بالشئون العسكرية، وهذا المحدد كان له الأثر الكبير في موقف روسيا الرسمية من قرارات 25 أكتوبر 2021م.
وهو ما كان واضحا في الموقف الروسي في مجلس الأمن، حيث "أخفق مجلس الأمن الدولي في الخروج ببيان مشترك لمناقشة الوضع في السودان. وأحجمت الصين وروسيا، عن وصف الأحداث في السودان بـ: الانقلاب، كما ورد في الصياغة التي اتفق عليها أعضاء المجلس الآخرون، حسب ما ذكرت مصادر." (1)، ليتضح هنا أمامنا موقف الحلف الروسي الصيني الجديد ومصالحه الحاكمة في السودان.
وليتأكد الموقف الروسي أكثر وأكثر في مجلس الأمن "كان نائب المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة دميتري بوليانسكي، قال في وقت سابق إن على الشعب السوداني، أن يحدد بنفسه إذا كانت الأحداث التي تشهدها بلاده انقلاباً أم لا، داعياً جميع الأطراف إلى وقف العنف.. وقال الدبلوماسي الروسي في تصريحات صحفية قبل اجتماع مجلس الأمن: من الصعب القول إذا كان ذلك انقلاباً أم لا. الانقلاب له معنى محدد. والأحداث من هذا القبيل تتكرر في مناطق مختلفة من العالم، ولا توصف بالانقلاب" (2)
وفي سياق المعادلة نفسها التي توضح محددات الموقف الروسي ونظريته السياسية الأوراسية الجديدة من قرارات 25 أكتوبر، كان البرهان يلعب على الوتر نفسه وملف القاعدة البحرية، حيث وفي سبيل الرسائل المتبادلة بينه وبين روسيا في بداية شهر نوفمبر، كان قد "أعلن القائد العام للجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، أن الخرطوم لديها ملاحظات على الاتفاق مع روسيا حول إنشاء قاعدة بحرية روسية في ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، مضيفاً أنه يجب معالجة هذه الملاحظات قبل المضي قدماً في تنفيذ الاتفاق" (3)
وفي التصريحات نفسها وعلى سبيل المغازلة "قال البرهان، في مقابلة مع وكالة «سبوتنيك» .. إن تعاون السودان مع روسيا قديم ولم ينقطع، وأشاد بموقف موسكو من التطورات في السودان. وأضاف: «نحيي روسيا على موقفها الداعم باستمرار للحكومات والشعوب على أن تقرر مصيرها، ونقدر ونحترم روسيا فهي صديقة للشعب السوداني، قبل أن تقف إلى جانب الأنظمة" (4)
وفي استمرار للخطاب الروسي وفق النظرية السياسية الأوراسية المعادية للغرب كمبرر لموقفه من قرارات 25 أكتوبر، كان قد "ألمح لافروف إلى أن: تغيير السلطة في الخرطوم جاء نتيجة لرفض الشعب السوداني للمسار السياسي الذي فرضته الولايات المتحدة والدول الغربية، في إشارة لاتفاق تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين في السودان، والذي تم توقيعه في أغسطس 2019 لتنظيم المرحلة الانتقالية في البلاد" (5)

عودة حمدوك والتوازنات الدولية
من هنا يمكن القول إن عودة حمدوك كانت استمرارا للتوازنات الدولية الاستعمارية والتناقضات العربية -والأفريقية- التي خلقتها لتحرص على تفوذها ومصالحها، باعتبار المنطقة مجرد منطقة لتنازع النفوذ دون إرادرة مستقلة وحرة خاصة بالذات العربية، في استمرار لفكرة "المسألة الأوربية" ومركزيتها من خلال "الثنائيات الحدية" ومتلازماتها الثقافية التي تعتبر العالم كله مجرد فناء خلفي لها، سواء في شكل الثنائية الحدية الكولونيالية القديمة بين المادية الليبرالية أو المادية الشيوعية، أو الثنائية الحدية الجديدة بين قوى البر الأوراسية التي تتزعمها روسيا وقوى البحر الأطلسية التي تتزعمها أمريكا.
فلم يكن غريبا أبدا أن تحمل نظرية الأوراسية الجديدة اسما فرعيا آخر وهو الطريق الرابع، وكأنها ترد أيضا وتخلق "ثنائية حدية" مع الطريق الثالث الذي ذاع في الغرب بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
عودة حمدوك هي نتاج للتوازنات الدولية، ودون أن يقلل ذلك من أثر العوامل الثابتة الأخرى الحاضرة في المعادلة ومنها حضور المد الثوري المخلص وقدرته على التضحية كطبيعة كل الثورات العربية، لكن تبقى المشكلة في مآل المستقبل وسيناريوهاته.


دولة ما بعد الاستقلال
والمفصلية الثقافية العربية الكامنة
مشكلة الثورات العربية كلها حتى الآن، ليست في الإخلاص أبدا او القدرة على الفداء والتضحية بالنفس وحب الوطن، ولكن في قدرة المفصلية الثقافية العربية الكامنة المرتبطة بتلك الثورات، على تقديم تصورات نظرية ومعرفية وسياسية تتعلق بالبديل لـ"دولة ما بعد الاستقلال" وقلبها العسكري، المعارضة العربية يمينا ويسارا رد الفعل للمسألة الأوربية ومتلازماتها الثقافية لا تقدم جديدا، ولا جهدا نظريا في تأمين وتقديم نظرية للوجود العربي الطبيعي فيما بعد "دولة ما بعد الاستقلال".
كيف يتم العبور السلمي -لأن الثورات العربية مشروعها سلمي- من "دولة ما بعد الاستقلال" بشكل "طوعي"، كيف يتم تقديم نظرية للوجود والحياة والعمل فيما بعد تلك الدولة! بعيدا عن شعارات المعارضة العربية التقليدية التي ليست سوى انعكاس للمسألة الأوربية القديمة (الليبرالية والماركسية) أو الجديدة (الأوراسية والأطلسية).
ستنجح الثورات العربية حينما تتوصل لمعادلة سلمية ثقافية؛ تقدم نظرية للحياة والدولة فيما بعد "دولة ما بعد الاستقلال" وتراتباتها الاجتماعية المختلفة الموروثة في كافة الدول العربية المتعددة، وعلى اختلاف الطبيعة الاجتماعية لتلك الدول، وتجاوز التناقضات الهوياتية والتراتبات الاجتماعية التي خلفها الاستعمار، إذا نجحت دولة واحدة في تجسير المسافة بين "دولة ما بعد الاستقلال" وتجاوزتها إلى أبنية اجتماعية وسياسية تحقق التوافق المجتمعي، وتتجاوز التهميش والتبعية لـ"المسألة الأوربية" يسارها ويمينها، قديمها وجديدها، تكون الثورات العربية قد أسست لمشروعا إنسانيا جديدا بحق، ومنحت البشرية قبلة الحياة، بدلا من إعادة إنتاج تناقضات المسألة الأوربية ومتلازماتها الثقافية الميتة مجددا.









هوامش:
1- جريدة الخليج، بتاريخ 28 أكتوبر 2021م
https://www.alkhaleej.ae/2021-10-28
2- المصدر السابق
3- جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2 نوفمبر 2021م
https://aawsat.com/home/article/3279626
4- المصدر السابق
5- موقع ستب نيوز بتاريخ 1نوفمبر 2021م
https://stepagency-sy.net/2021/11/01


مقالات سابقة للكاتب في مقاربة الملف السوداني:

- علمانية السودان: استحقاقات ثورية أم ثورية مضادة!
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=692772
- أزمة القوة الناعمة والخشنة لمصر في لبنان والسودان
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=688751
- تطبيع السودان والأفق السياسي لدولة ما بعد الاستقلال
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=664866
- دروس الملف السوداني لمصر في ليبيا
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=661583
- الموقف المصري من ثورة السودان وأثره على سد النهضة
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=649846
- دولة ما بعد الاستقلال والموجة الثانية من الثورات العربية
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=631496








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا تريد الباطرونا من وراء تعديل مدونة الشغل؟ مداخلة إسماعي


.. الجزيرة ترصد مطالب متظاهرين مؤيدين لفلسطين في العاصمة البريط




.. آلاف المتظاهرين في مدريد يطالبون رئيس الوزراء الإسباني بمواص


.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل




.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري