الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صياغةٌ فاتنةٌ للحبّ في مجموعة الشاعرة ديمة محمود -أصابع مقضومة في حقيبة-

المثنى الشيخ عطية
شاعر وروائي

(Almothanna Alchekh Atiah)

2021 / 11 / 28
الادب والفن


مثلما تتلبّس الفيروسات الكومبيوترات والأجسادَ فتصبحَ جزءاً منها، تَشلّ إرادتَها وتُوجّهُها لغاياتِها، تتلبّسُ عوامل مجهولةٌ، هي جزءٌ من الأجساد ذاتِها على الأغلب، الأرواحَ، وتضيفُ تعريفاً آخر للإنسان هو أنّه كائنٌ قابلٌ للتلبّس، ولا يهمّ هنا اعتقاد البعض بهذه العوامل أنها الجنّ، وأنها قد تكون موجودةً في عوالم موازيةً، بقدْر ما يستحضر المرء اعتقادات الشعوب على صعيد الشِّعر، من وجود جنيّاته التي تتلبّس الشعراء، "فيقولون ما لا يفعلون، ويتبعهم الغاوون"، معارضةً من قبل السّائد لشطحاتهم المتفجّرة من براكين وادي عبقر، وفقَ التصوّر العربي لهاتيك الجنيات.
الشاعرة المصريّة ديمة محمود، في مجموعتها الجديدة: "أصابع مقضومة في حقيبة"، امرأة ٌتلبّسها الشّعر، ليس في خلايا قصائدها على مدى المجموعة التي تنتهي بـ" مواقيت غول" الحبّ الآسر، وإن ببعض الانسدادات في بعضها، وإنّما كذلك في نَصّ تصديرها للمجموعة التي تتداخل فيها الأسطورة بأنواعها، وجرأةِ شطحها، وخجلِ وخوفِ وقصورِ تصوّر بعضها؛ كما تتداخل فيها الأغاني التي تعكس الثقافة الجمعية، بعاديّة التداخل وألقِ ارتقائه؛ مع أودية الشّعر بليالي شهرزاد المستمرة إلى ما وراء الليلة الأخيرة؛ ودورانِ الأفلاك في سبّحات القديسين والمؤمنين ثلاثاً وثلاثين شهقةً، وإن اقتصرت البنية على اثنين وعشرين قصيدةً بخلاف تجلّيات أسرار انسدال الشَّعر وهجس القارئ؛ بالإضافة إلى ثقوبِ الواقع السوداء التي تأكل بياض أميرات الماضي الجميل، والأهمّ: سموّ الحب من كلامه الذي ابتذلته سطحية الاعتياد والتكرار، وارتقاءُ الشهوةِ مما أوقعها الابتذال في فخاخه، إلى انصهارات الحب والشهوة بفطرية الكون والطبيعة التي يتفجّر فيها الخصبُ، وتطوفُ غيلان النار، وتتخايل ربات الجمال:
"هنا حجرٌ في طريق العثرة/ ترتطم به امرأة تركلُ المسافةَ/ تسحب سقف العالم في حُجرها/ لا تكترث سوى/ للسناجب تُعدُّ مؤونة الشتاء/ والدودِ ينأى بنفسه بعيداً عن ترّهات الحكمة/ تُعدُّ جحور النمل في زوايا الأبواب/ وتهُشُّ عليها الهواء بضفيرتها/ وبنهمٍ تكوّم قشور الفاكهة البائتة آخر اليوم/ لتوقد نرجيلةً أو شجرة/ أو تملأ بها كيس نفاياتٍ تقذف لا مبالاتها معه/ للمرّة التسعين بعد الألف/ تمشّط شَعرها في اليوم ثلاثاً وثلاثين مرّة/ كلَّ مرّةٍ بقصيدة/ وترقص حتى يذوي اللّيل لما يَجِنّ التعب/ أو تعودَ ذاتُ الرداء الأحمر.".
في تلبّس جنّي الشعر لامرأتها، تُكوّن ديمة محمود الشغوفة بالأساطير والأرقام المقدّسة، باقةَ قصائدها برقم اثنين وعشرين قصيدة، وهو الرقم الثاني المقدّس بعد الرقم 11، قبل الرقم 33، وربّما كان هذا بقصدية من الشاعرة التي وضعت هذا الرقم لوحده في الفهرس أو بدونها؛ وترتدي جميعُ القصائد ثيابَ "قصيدة النثر" المتوسطة الطول، بعناوين يوحي أغلبُها بنهجها في التداخل مع الأسطورة والطبيعة، وشغف الولوج بخبايا أسرار الكون والنفس، مثل: ( قداس الماء، المتاهة، كأس اللّوتس، إغفاءة ربّة، حضرة، دوائر في حفيف، كأنّها هي، واسعةٌ بما يكفي، بسُرّة واحدة، مواقيت غول). وتفتتح ديمة باقة قصائدها بنصّ يبدو قصيدةً من دون عنوانٍ، ويبلور خطوط وألوان القصائد، قبل أن يتكوّر ويستقرّ في وضع الجنين بحضن القصيدة الأخيرة الخاتمة، "مواقيت غول"، التي تتألّق بها المجموعة. ويعود بها القارئ إلى نص البداية.
في تلبّس جنّي الشّعر لامرأتها، تتجلّى وتترادف مع بعضها المزايا التي تُبَلور طبيعة المجموعة وأسلوب شاعرتها، ومن ذلك ما يلمسه القارئ من:
ـــ إدخال الأسطورة في القصائد، بشخصياتها: الملك النبي سليمان وموسى والمسيح من التراث اليهودي المسيحي الإسلامي، بإضافة النحوي الفذّ، شارح المتنبي المعروف "ابن جنّي"، في إشارة عميقة لعناية الشاعرة بلغتها، مع إله الشمس "رع"، و"رمسيس" و"رِني" من التراث الفرعوني، وغير ذلك من أساطير البشرية؛ ولكنْ بتعامل متفاوتٍ بين إدخال الأسطورة كتداخل عضويّ تتجلّى فيه بشخصيات الواقع، وشخصية الشاعرة بصورة خاصة، لتعيش حيّة بجمالها ومعانيها في الواقع، كما يتبدى داخل قصيدة "الدهن والسكّر:
"الشِّعر بَكرةٌ/ أشدُّ خيوطها فيسقط الهدهد في صحراءَ موحشة/ ولا يعود/ تُولَد الأسطورة حينذاك/ فوق بساطٍ أخضرَ من الهندباء والسراخس/ يصير النهر وردةً أخفيها تحت وسادتي/ كيما أهديها لفارسٍ يأتي بحصان أزرق/ عادياً كالبحر ويرشُّ بشجوه المدى/ لا صولجان لديه/ لا فيالق/ ولا جيوش جرّارة، مُحاربة/ لكنّه يملك من الحكمة ما يجعله عادلاً/ وإذا مرَّ على وادي النمل/ فات نشيد الأناشيد دهناً وسُكَّرا".
وبين الإدخال المتوازي الذي يكتفي من شخصيّات الأسطورة بما أوردها عنها مخترعوها، لتمرير الثقافة الذكورية، فيما يتركز بأساطير الديانات التوحيدية الثلاث، بخداعات الحكمة والعدل والسلطان التي تُبقي على هذا التمرير وهماً وسيفاً في ذات الوقت، يثيران الخوف ويردمان تفتّحات الوعي للتحكّم في بشر الواقع. غير أن الشاعرة تُغْنِي إدخالاتها لأساطيرها بإدخالات رموز هذه الأساطير، مثل زهرة اللّوتس التي تجرّد الأساطير من غاياتها الإيديولوجية، وتُرسلها في انصهارات الجمال والحبّ والسلام داخل الإنسان:
"أجثو في كَنف »رع « بينا يلفّني بذراعيه منفلتاً من/ عرشه السماوي/ أغمض عينيّ وأرفع رأسي نحو وردته اللاهبة/ فتشهقُ الحكمة لاهجةً من آبار المسام/ ها هي ذي الألوهية الحَقّة/ ونحن.. ألم نركض إليها مُختاليْن/ في قوسٍ من الألوان والأنوار التي لم تفطم بعد؟/! ليتنا لمّا شاهدنا زورق التكوين يمخر في البحر/ الهائج والضباب/ ما تركنا زهرة اللّوتس تحمل كأس دمعها البرَّاق/ وحدها/ وانشغلنا بنقش مفتاح الحياة/ وتزيين جنائن السلام بالأنجم والسنابل.".
ـــ إدخال الأغاني، المصرية بشكل خاص، التي دخلت الثقافة الجمعية، ودرجت أمثلةً على الألسن في التعامل اليومي للناس، ولكن أيضاً، بتفاوت الإدخال، بين المتوازي الذي تذكر الشاعرة فيه لازمة الأغنية مستقلةً وتأتي كمثل، كما في قصيدة: "كلّ دا كان ليه"، وبين الإدخال المتداخل مع القصيدة والمنصهر معها لتوليد حالة أقوى في التعبير عن حال الشخصية، مثلما يحدث في قصيدة: "كأنّها هي"، التي تستخدم فيها جزءاً من أغنية "الأطلال" التي كتبها إبراهيم ناجي وغنتها أم كلثوم: في نقلها وإيحائها بحالة الحبّ التي كان عليها الزمن الجميل:
"حفاةً إلا من الأغنيات/ نربط الفراشات في ذيل اللّيل/ تظلّلنا أجنحتها ولا يلحق بنا أحد/ أنجبَنا الفرح فعدونا في الظّلال/ تشظّت الموسيقى بينما يمامةُ في الخلف/ تدفّ الفراغ لأعلى/ فينفِض اللّيل ما تبقّى من جِرار/ لن يمرّ قطعاً على الجادّة واحدان مثلنا/ يجذبان السعادة من تلابيبها/ ويروّضان التّاريخ في قيلولة النّهر".
وفي نقلها ما ذهب إليه الحبّ والزمن الجميل من مآل بائس:
"للتلاشي لذةُ النّرفانا الّتي تقطع أصابعها بالتّتالي/ ولا ينهكها التّطواف في ليلٍ بهيمٍ كانوا يزفّونه في/ القصور/ ثم آل إلى أرصفة الشّحاذين وبائعات الهوى لمّا/ هوت العملة/ سيّان بين الحنين والشهوة/ بين اللهفة والآلام/ يتكوّر الزمن كنُدبةٍ في ذباب/ مراتع الطّفولة والثّغور أسمالٌ/ والعشّاق يحفرون ظلاًّ لِقضم الشّفاه/ لا يقوم الظّل بينما حوائطها مِبولةٌ.".
ـــ مَحْوَرة المجموعة حول المرأة، التي تلبّسها الشعر في أصفى وأعنف سكون بحيراتها وتفجّرات براكينها، بلغة الطبيعة التي ترتديها وتنفرد فيها، راسمةً صورةً بسيطة وأسطورية في ذات الوقت للمرأة، الشاسعة كما السماوات والمحيطات والصحارى، بلا تفكير، ولا تلكّؤ ولا توازٍ؛ في انسحابها إلى نشأتها الأولى، وتعدّدها بأشكالها وألوانها وروائحها، وتقدّمها إلى مستقبل البشرية في حُضنها؛ مُدخلةً رموز الخصب في أتون انصهارات الأنوثة والرجولة وفواحِها بعطور رموز خصب الأنثى التي تتقدّمها زهرة الأوركيدا، الأكثر تعبيراً عن زهرتها في تفتحها وانصهاراتها.
"أُسرج قنديلاً ثم أغفو/ يذوي الفتيل على فخذيّ/ تبزغ أوركيدا في ترابٍ أبيض/ تتذكّر نشأتها الأولى/ تراودها سيرة المشّائين/ أنْ أيُّنا رصّ خبايا الذُّرى وتيجان الكؤوس/ أيّنا أهّب العود وراقص الأوتار/ أيّنا نادى النّحاسين ومدّ الرّيش تباعاً/ تبوح بسرّها: / ويكأنّي مهرةٌ ذبّاحةٌ تعضّ نواجذ الشّهوة/ فتسقط في غُرّتها شهقاتٌ ولهانة/ يمتطيني ربٌ فأكون ربّتَه/ والفرائس ترتع لن أقول لها تعالي/ لكنّني آتي وآتي حتى ترفلَ قطع السّماوات في هيئة/ لؤلؤٍ/ ويشتعل المرجان فيّ"./.
ـــ دفع مجموعتها في غموض كرات الساحرات وأوراق لعب النبوءات وسحر دوران الأرقام، دون ابتعاد عن إظهار الواقع الذي تظهر يده خفية في بعث الموات بأجساد وأرواح البشر، وبناء الجدران بينهم. وإيصال هذا الدفع إلى ختامه وانفتاحه في حقول الغيلان التي تعيد صياغة الحب بلغة الطبيعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط


.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش




.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح