الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مذكرات طفولة.. العراق المنصدك .13.

مهند البراك

2021 / 11 / 28
الادب والفن


العراق المنصدك

نهض سعدون من علله و عاد واقفاً على قدميه، مرحاً مقداماً باحثاً عن التحديّ و المغامرة من اجل قضية الفقراء . . و عاود اللقاءات الصاخبة في بانسيون ماري مع صديقه سعيد المصلوب و مع ريتا و جوزفين، غيرعارف بما كان يدور في اللواء الرابع و العشرين الذي كان يعمل في ذلك الوقت في احد افواجه، فقد وصلت كُنْيَته (سجله العسكري) الى هيئة اركان اللواء، التي عرضت ما وصلها من اوامر عليا و معلومات و بيانات اطّلاع على آمر اللواء الزعيم الركن عبد الكريم قاسم الذي انتبه الى ماورد في كُنية سعدون :
" ضابط مدفعية نشيط ، شجاع يحب المغامرات و التحديّ، صيّاد ماهر، نجح في المعارك العشائرية في الفرات، نُسّب كطالب في القوة الجويّة العراقية، تزوج من آثورية بدون موافقات عسكرية اصولية، تسبب بتحطم طائرة تدريب بسبب مغامراته و تسبب ذلك بفصله من القوة الجوية و اعيد تنسيبه الى القوات البرية، ابن عم الوزير المرحوم عبد المحسن . . حُرِمَ من ترقيات بسبب مغامراته، لا نشاط سياسي له . "
فرح الزعيم قاسم بهذا الضابط المنسّب حديثاً الى لوائه، و تناقش مع صديقه الرئيس (النقيب) ممدوح ضابط استخبارات اللواء و عضو هيئة اركانه الذي استلّ كُنية سعدون و قدمها باليد اليه، حوله . . و قال الزعيم :
ـ ان لم انسى، اعتقد انه هو الضابط الذي نزل بطائرة في الغدير لإنقاذ خطيبته، و هو من الضباط الذين لايحبّون الانكليز و هم لايحبوه و لذلك حُرم من ترقيات لأسباب تافهة يقوم بها الضباط بشكل اعتيادي . . و كان مداوماً على بانسيون ماري . . وفق معلوماتنا.
ـ اتفق معك سيدي.
ـ عزيزي ممدوح حاول ان تحتك به، و تقيم صله معه . . بالشكل المناسب و اخبرني، ضابط بهذه المواصفات يفيدنا، خاصة و انه ابن عم الوزير عبد المحسن، هذول ابناء عوائل و عشائر ضد الانكليز . .
في احد الأيام جلب سعيد المصلوب صديقه النقيب ممدوح الى بانسيون ماري، و التقيا بـ محسن و جمعتهم احاديث كانت شيّقه للجميع، و تكررت تلك اللقاءات . . خاصة بعد الصداقة التي نشأت بين ماري ام جوزفين و ممدوح الذي بدا و كأنه وجد ضالّته في ام جوزفين المناسبة لعمره ايضاً كما قال . . و تزايدت الصداقة الى حد حديث ممدوح مع سعدون بإعتبارهما من لواء واحد، بأن هناك تنظيم لـ " الضباط الاحرار " . . يهتم بجمع المعلومات الخاصة بالامن . . و (قد) يسعى لتغيير الحكومة لا اكثر ؟؟!
و باعتباره ضابط استخبارات اللواء، سأل ممدوح مرة سعدون في النادي العسكري للفرقة الثالثة في بعقوبة عن معلوماته عن اخبار مطبوعة على آلة كاتبة و ما اذا كان يعرف شيئاً عنها :
ـ هرب اثنين من قياديي او نشطاء الحزب الشيوعي في المجال العسكري، و يُقدّر انهما : اما عمر علي الشيخ الطالب في الصف المنتهي في كلية الهندسة و هو كردي من السليمانية، و امّا آرا خاجادور رئيس عمال ماهر (فورمن) في مجالات النفط، و هو ارمني من سكنة بغداد، من اب ارمني كان ضابطاً كبيراً في الجيش الابيض الذي حارب الجيش الاحمر في روسيا و هرب الى العراق بعد خسارته امام الجيش الاحمر و حصل على موافقة بالسكن في سميّل ـ دهوك و تزوج آثورية انجبت له آرا ، و هربا مع ابنهما اثر مذابح سميّل و سكنوا بغداد . .
و انهما هربا ضمن مجموعة سجناء سياسيين، من سجن نقرة السلمان و سجن بعقوبة . . و قد وجدت بقايا جثة احدهم بعد ان اكلته الذئاب و جثتين لسجينين ماتا من العطش في بادية السماوة، بدلالة الارقام الوشمية المثبتة على اذرعهم التي تشير الى اسمائهم . . السؤال اين يمكن ان يكون هذان الهاربان، و لماذا هذا الهروب الصعب في هذه الفترة ؟؟
ـ اخبارية من قوادة تعمل لصالح الأمن عن عدد من الشباب من تنظيمات القوميين العرب يقتنون و يجمعون اسلحة ؟ السؤال لماذا و لأية غاية في هذه الفترة ؟؟
بعد قرائته للاخبار دخل في تفكير طويل . . " . . (قوادة تعمل لصالح الأمن) ؟ الا يمكن ان تكون ماري او ريتا او . . هكذا ؟؟ علينا الحذر فعلاً. كنت اتصوّر ان ابن عمي الوزير عبد المحسن هو وحده الذي يقود ثورة و باغتياله ماتت الثورة و مات الأمل، و الحقيقة ان اوساطاً متعددة القوميات و الديانات تعمل للثورة . .
ناس تجمع سلاح و ناس خطرين محكومين لأنهم ينظّمون عسكريين، يهربون من سجونهم رغم كل تلك المخاطر، و المرحوم عبد المحسن تصوّر ان الثورة تحصل بالمناقشات، و آني تصوّرت بغباء انها تحصل من المغامرات مع سيقان النساء و بكشف الفضائح . . و لكن يبدو ان الثورة مشروع كبير يحتاج الى ما تصوره المرحوم عبد المحسن و ماتصورته انا و يحتاج سلاح و احزاب و عشائر و اموال و علوم و ايمان بالثورة و الله يدري شنو بعد . . و يعني باختصار على كولة اهلنا : " الثورة طك فشك ضد الحكومة، مو شيل زرور " . . و عاد الى جليسه النقيب ممدوح الذي قال :
ـ شي زين اذا كدرنا نوصل للشيوعيين حتى نعرف ماذا يريدون، هل يريدون تغيير الحكومة الآن ؟ او يريدون ثورة تغيّر كلّ النظام السياسي الآن ؟؟ لأني كما عرفت من جارنا بالاعظمية " خالد السلام " السياسي و اللي على صلة مؤكدة مع الشيوعيين، ان الحزب لديه اهداف بعيدة ستراتيجية يعمل لها على مراحل، مرحلة سلمية و اخرى عنفية و اخرى انتخابية . . وهكذا للتقرّب من اهدافه البعيدة. المهم ان نعرف ماذا يريدون الآن . .
ـ بس كيف تعرف ان خالد السلام على صلة بهم الآن ؟؟
ـ و الله لأنه على صلة شبه دائمة بالشيوعيين السوريين، لصداقته مع زعيمهم " خالد بكداش " اللي ساعده على طبع و نشر كرّاسه المهم " في الكادر " لديمتروف، اللي ترجمه السلام من الانكليزية الى العربية، و اللي اشتراه من مكتبة مكنزي للكتب الإنكليزية في شارع الرشيد . . الكراس الذي يوضح خطط تكوين الجبهات للقوى السياسية للحصول على اوسع تأييد شعبي لتحقيق ثورة او هدف كبير تُجمع عليه القوى لتحقيق مرحلة ما . . المشكلة اني لا اعرف الان هل خالد في بغداد ام لا، لأنه لم يعد يأتي الى " بار هافانا " حيث كنا نلتقي كل ليلة جمعة . .
ـ هل تقصد خالد اقارب بيت شيخ رشيد ؟؟
ـ بالضبط . . شيخ رشيد خاله او عمه
ـ سأحاول معرفة ذلك من بيت اهلي بالاعظمية
. . . .
. . . .
من جهة اخرى . . فمن حبيّ للطيور و حديثي الدائم حولها و احاديث الخال الكبير زكي عن كيف نقلوا الرسائل عن طريقها ايام الثورة العربية، ثم ايام ثورة عقداء المربع الذهبي في 1941 التي أُعدموا بسببها منهم العقيد " كامل شبيب " والد صديقة أمي . . ستّ خولة، و من خوف ابي عليّ من الاختلاط بالمطيرجية سيئي السمعة . . كان ابي يسألني عن اي الطيور أحب و كنت احدّثه عن طيور الخال زكي من : الزاجل و المحجّل و القلاّب و التركي و الفارسي و و . . التي كنت ازورها اسبوعيّاً في بيت الخال الذي كان يحذّر و يكرر التحذير ايضاً من اوساط المطيرجية لسوء اخلاقهم و تعديّهم على الجيران سواء برشق الحجارة او بالصفير العالي الذي يزعج و يعكّر امزجة الناس، و تجمعات السرّاق حولهم، و دوسهم على كل عُرفٍ و اخلاق للحصول على طير جديد، اضافة الى سلوكهم المنحرف مع الاطفال الذين يحبّون الطيور، و شرح لي كيفية نقل الرسائل و اصطحبني بتجربة اخذ فيها حمامة رسائل الى بيت اقاربه في المحمودية الذين كتبوا رسالة صغيرة و ربطوها بساقها، لنجد الحمامة في بيت الخال مع الرسالة و كانت قد وصلت قبلنا الى بيت خالي زكي في بغداد . . و تحدّث عن كيف انقذتهم تلك الحمامات في احداث كانوا مُحاصرين فيها تماماً . .
و تفاجأت يوماً بأن ابي قد اهداني زوج طيور بيضاء جميلة مع بيتونتها المصنوعة من مادة الحصير، و قال :
ـ انها اصيلة و نتركها حرّة و ستعود من نفسها الى بيتونتها . . المهم ان نعتني باطعامها و مائها و سيكون ذلك واجبك . . و لنتمتع جميعاً بسجعها في حالات فرحها، سأُثبّت البيتونة بقمرية العنب، لتكون عالية و في مأمن من القطط التي كانت تدور في المحلة من بيت الى بيت . .
نعم ذلك ماجرى بشكله الجميل الممتع، لكن احداً لم يفكّر بأن الشرطة الجنائية (شرطة بهجت عطية) ستكون هي القطط الوحشية التي اختطفت تلك الطيور الحمائم عند تفتيشها منزلنا و اعتقالها والدي، و اعتبرتها مبرزاً جرمياً ضده، كونه (يمارس اتصالات سريّة ممنوعة يتوجب عليه التعريف بها) و هكذا ضاعت الحمائم الجميلة و سجعها . .
كان والدي قد اهدى والدتي شجيرتا عنب (ديس العنز) المتسلّق، التي كانت والدتي تتمنىّ وجودها في البيت لتظلل الطارمة الصغيرة للبيت، و عمل بجهد حقيقي و نحن الاطفال عملنا كـ (مساعدين) له لجمع الاخشاب و السيور و وايرات الربط الضرورية، و صَنَعَ قمرية جميلة ظللت الطارمة فعلاً في الصيف و جعلتها ركناً مظللاً طيّب الهواء مبرّداً . .
و في مواسم الصيف الأكثر حرارة، حين كانت تتكاثر و تنتشر انواع الحشرات الطيّارة، كنّا كاطفال محلة الشيوخ نتمتع و نتدافع الى قرب مناسب من فوهة رشّ مبيدات الـ دي دي تي المتطايرة ابخرتها بقوة من اجهزة الرشّ التي كانت مثبتة على لوري صغير دوّار في طرق المحلة، مخصصاً لتلك الاجهزة . .
و كنّا ننتظر مجئ سينما التوعية الصحية . . . التي كانوا ينشرون شاشتها على حائط بيت الهندي، و ينصبون اجهزة العرض على عدد من قنفات مقهى محمد راغب الموضوعة بعناية بعضها فوق بعض بشكل ثابت، لتكون في علو مناسب لها لإنجاح العرض . . و كان من اشهر تلك الافلام : افلام مكافحة الذباب و عرض دورات حياتها، افلام مكافحة البعوض و دوراتها . . التي تطورت بعدئذ الى عرض افلام عن الثورة الجزائرية و عن جميلة بوحيرد ايضاً .
و لابد من ذكر ان اشغال الوالد بين كُوَر معامل الطابوق منذ الثالثة صباحاً، و دوامه المسائي في حسابات شركة فريح و حمد لتجارة سيارات الفورد . . لم تمنعه من الاهتمام بنا نحن اطفاله، بل زادته اهتماماً بنا كأنه كان يكفّر عمّا يسببه لنا من قلق و خوف عليه و من الشرطة السريّة، فكان يأخذنا فرادى او معاً، الى سينما الخيام المقابلة للشركة لنقضي وقتاً ممتعاً في مشاهدة افلام ذات معنى الى ان ينتهي عمله في الشركة، بعد اتفاق مع عامل التذاكر هناك بدفع نصف مبلغ البطاقة في الطابق الارضي الارخص . .
و من الافلام التي لم انساها و لم انسى دروسها طيلة حياتي الفلم الفرنسي بالالوان الزاهية "جيتانو" عن الصداقة التي نشأت و تقوّت عراها بين الصبي الإسباني مساعد عامل الاسطبلات "خوسيه" و ثور المصارعة الذي كان يُعَدّ لنزالات مصارعة الثيران " جيتانو "، الذي انقذ خوسيه من موت محقق من عصابة سرقة ثيران . . بعد ان هاجمهم جيتانو بقرنيه الباسلين، و جرى الى خوسيه ليطمئن على حياته، لتتطور صداقة متينة بينهما بمرور الوقت الى الوقت الذي وقف فيه خوسيه لإنقاذ حياة صديقه الثور جيتانو حين ساقوه بممر اجباري ينفتح على ساحة المصارعة فقط في موعد كان المصارع متهيأ فيها للنزال . . تمكن خوسيه بمخاطرات من فتح كوّة جانبية في الممر الإجباري ليهرب الاثنان معاً الى ولاية اخرى تتوفر فيها الحرية الضامنة لحياتهما و صداقتهما . .
. . . .
. . . .
في بيت عميّ في ذلك الصيف، سمعت لأول مرة ان جارتهم مريم الصغيرة الجميلة زوجة القاضي نعمان، كونها كورجية (جورجية) التي لجمالها النادر حار البعض باصلها، ومنهم من قال انها فارسية او آذرية . . سمعت بانها كورجية من جورجيا، و انها من عائلة رقيق (عبيد) استطاع احد ابناء الفضل الملقّب ابوه في المحلة بـ (صريصر)، الذي صار قاضياً كهلاً، ان يشتريها و يتزوجها . .
و سيطر ذلك الموضوع على تفكيري الطفولي كلّما رأيتها . . كيف اشتراها ؟ هل يستطيع المرء ان يشتري إمرأة ؟ و من اي دكّان او معرض ؟ هل يستطيع الواحد ان يشتري انسان ؟ احتمال انها ليست انسان او من الملائكة او من الجن الطيبين الذين سمَعْتُ عنهم من احاديث جدّتي أمينة عن ان الجن الطيبين يكونون حلوين و لا يعملون الاّ الخير . .
سألت والدي عن الرقيق و من هم، هل هم عرب او من ايّة قومية ؟ و كيف يشتروهم و من يبيعهم، اجابني اجابة مختصرة عن انهم في الغالب من جورجيا و هم مرغوبون لجمال نسائهم و رجولة اجسام رجالهم و ضخامتهم، و كانوا يأخذوهم عبيداً لخسارة وحداتهم في الحروب و لم اعرف اية حروب، او من خلال اعمال غدر و سرقة تقوم بها عصابات و يبيعوهم و يحصلون من ورائهم اموالاً طائلة، و تأريخياً صارت هناك مراكز لبيعهم في البصرة و البحرين و جدّة . . و ان الإسلام و الاديان السماوية تحرّم الرقيق.
و بعد نقاشات و نقاشات مع ابنة عميّ الصغرى هناوي عن الرقيق، و كم هم مساكين و انهم يأخذوهم اسرى او يختطفوهم من اهاليهم، توصّلنا انا و هنّاوي و ما سَمَعَتْهُ هي من نُتَفٍ من اخواتها، بأن مريم حزينة جداً و تبكي من حين لآخر، لأنها تحنّ لأهلها و لاتعرف اين هم و لا عنوانهم، و انها لابد ان تحمل ختم او وشم على جسمها و في مكان خفيّ، مكتوب فيه من هم اهلها و من اين جاءت، لكنها لاتعرف مكانه رغم بحثها المضني عنه . . و حَلَفتُ لهنّاوي، باني سأجده و (سأحدّثك عن مكانه و ماذا فيه).
و ذات يوم حضنتني مريم بقوة و قبّلتني و دعتني الى بيتها لرؤية ببغاء الأمازون الجديد الذي اهداها ايّاه زوجها القاضي نعمان و الذي تعلّم عدة كلمات عربية مهمة حتى الآن، كما قالت . . . و ذهبت عدة مرّات الى بابهم لرؤية الببغاء و لكن الباب كان مغلقاً و من ترددي او خجلي لم اطرق الباب و عدت الى بيت عميّ.
و في ظهيرة تالية، وبينما كنت انظّف عتبة باب البيت بعد ان كثر الحاح زوجة عميّ على البنات بضرورة تنظيفها وتثاقلن من ذلك و كلّفنني بذلك بقبلات محبة و نستله . . نادتني زوجة القاضي من فتحة باب بيتها الملاصق لباب بيت عميّ، نادتني للدخول لرؤية الببغاء لأنه كان هادئاً كما قالت .
دخلت من الباب المفتوح الذي اغلقته ورائي، وشاهدت في الممر البارد ذي الضوء الخافت، الذي كانت لاتصله الشمس رغم انها تضيئه، و فوجئت و بفرح كبير برؤية الببغاء . كان طيراً كبير الحجم ملوناً بالوان عديدة غلبت عليها الوان الأحمر والأخضر والأصفر بعيون دائرية واسعة . . كانت ساقه مربوطة بسلسلة صغيرة لمّاعة، و كان يكرّز من وعاء البذور الموضوع امامه وينظر الى القادم و من هو . . بين آن و آخر، و التزم الهدوء بعد ان قالت له مريم (صديق).
وبعد ان قالت لي اني استطيع ان اراقب الببغاء عن قرب وحذّرتني من ان المسه او اصيح عليه . . دخلت هي الى الحوش المفتوح الخالي واندلقت بخفة الى احدى الغرف الداخلية، التي كان جدارها المطل على الحوش عبارة عن شباك زجاجي كبير . . بقيت اتابعها بنظراتي ناسياً الببغاء بشعور الباحث عن الوشم و لشعور اجتاحني لم أعرف كنهه . . شعور و رغبة بالمغامرة قادتني الى الذهاب بحذر الى تلك الغرفة التي لم يكن بابها مغلقا وانما كان مفتوحا نصف فتحة .
بقيت اتابعها بنظري بكل حذر من فتحة الباب ورأيتها تخرج من باب الحمام في تلك الغرفة، كانت عارية و تنشّف نفسها بمنشفة بيضاء كبيرة، و اخذت تلبس و تبدّل ملابسها بحركات خيّل لي انها كانت تعرف انيّ اتابعها . . رأيت مريم الصغيرة الحجم بين النساء وهي تعدّل وضع ثديها الأبيض البض الخالي من ايّ وشم ، وترتّبه في الحمّالة الخفيفة التي كانت توثق شدّها، و كذلك بطنها و ساقيها و كانتا خاليتان من الوشم، في مشهد كان كالذي في الاساطير و الافلام، لم استطع تحويل نظري عنه . . ثم عدت سريعاً الى الببغاء الذي اخذت اتفرّس فيه، من منقاره الى ريشه الملوّن الجميل وحتى مخالبه القابضة على مسنده .
وبينما كنت اشرب شربت عصير البرتقال الذي اعدّته لي مريم شممتُ رائحة عطر ازهار البرتقال (القدّاح) الذي كان ينبعث منها في العادة، و لم استطع مقاومة التلصص الى وجهها الجميل وثدييها البارزين بينما كنت المح شبح ابتسامتها وهي تداعب شعري قائلة :
ـ ولك ملعون . . اكْبِر حتى تشوف العجب !
ـ . . .
و لم اعرف من اين واتتني الجرأة و سألتها :
ـ خالة مريم اشو ماعندج وشم على جسمك ؟؟ يعني مو الرقيق عدهم وشم دائماً ؟؟
ـ ولك ملعون انت كنت تراقبني و آني طالعة من الحمّام شبه عارية ؟؟
ـ نعم خالة مريم . . كنت ادوّر على الوشم اللي بيه عنوان اهلكم.
سكتت و ذَهَبَتْ في خيال بعيد و قالت و العبرة تملأ صوتها :
ـ نعم عيني حبيبي . . باعوني بسوق العبيد في تفليس و انا عارية مع النساء العاريات و كُنّا في قفص كبير . .
ـ زين شلون و ليش ؟؟
ـ والدي الفلاح كان عليه ديون كثيرة بسبب شراء الادوية لوالدتي المريضة بالقلب، و بسبب خساراته بالقمار و ادمانه على الكحول . . و امام تهديد الدّيّانة، باعني لهم مقابل الغاء الديون . .
اخذت تبكي و تقول :
ـ اغتصبوني مراراً ثم باعني واحد للآخر، و الأخير عمل لي وشم او ختم فيه اسم عائلتي و اسم القرية لأن المشتري الجديد ليس جورجي و قال . . (احتمال تريدين فد يوم ان تزوري او ترجعي لأهلك) و لكن نسيت اين بالضبط عمله على جسمي، لأنهم خدّروني و لأن دكّ الوشم او الختم ممنوع و يعاقبون عليه بالقتل هناك، و لذلك لازم يكون في مكان مخفي . . طلبت من نعمان مرآة كبيرة لأفتش عن مكان الوشم و طبعاً لم اخبره لماذا، و لكنه دائماً يقول انه ينسى او (ماذا تعملين بمرآة كبيرة و انت صغيرة)، و اكمَلَتْ :
ـ ماذا رأيت من جسمي و وجدت انه دون وشم ؟
اخبرتها بما رأيت من فتحة الباب . . و قالت بلهجة جديّة آمرة لأمر لابد منه لها :
ـ حبيبي انت تشبه اخي الصغير و انا اثق بك . . سأنزع ملابسي و انت دقق جيداً من جديد و على كيفك حتى اعرف اين الوشم، سأقفل الباب الخارجية و باب الغرفة ايضاً، حتى لايتلصلص علينا الببغاء و احتمال يخبر زوجي لأني أحس انه اشتراه ليراقبني . .
نزعت ملابسها و وقفت عارية تماماً و قالت . . دقق زين حبيبي على :
ـ ظهر عنقي و ها انا ارفع شعري، ظهري من اعلى الى الاسفل و ظهر ساقي من اعلى الى الاسفل، جانب ساقي من الخارج من اعلى الى الاسفل، جانب ساقي من الداخل من اعلى الى الاسفل، سانام على ظهري و ارفع ساقيّ و افتحهما و دقق بين ساقيّ من الامام و من الخلف . . دقق على كيفك و لاترتبك و لا تخاف . . آني مثل اختك الكبيرة.
و بينما اعتراني خوف و ارتباك من مجهول و من مهمة كانت في البداية مغامرة لذيذة، صارت كابوساً لابد من المرور به و تحديّه، لمساعدة مريم الغائصة في بكائها الذي لا يتوقف . . صحت بصوت عالي :
ـ هناك شئ مثل ختم محروق بين ساقيك الى الخلف على اليمين . .
ـ الحمد لله الحمد لله وجدته، اشر عليه باصبعك و اضغط عليه لأحس اين هو بالضبط . .
ـ ساضع اصبعي عليه و اضغط حتى تحسيّن . .
ـ نعم عفيه عفيه عليك حبيبي . . انا عرفت هسه اين و سأخبر بنت عمّك الكبرى ساهرة لتقرأه بمكبّرة او تجد طريقة لتسجيله . .
و فيما رفعتني بشكل لا إرادي و قبّلتني و هي تردد آيات الشكر و العرفان . . فجأة قرقع صوت المفتاح وهو يدور في قفل الباب لينفتح الباب بدفعة قوية و كأنها ضربة، و دخل زوجها القاضي نعمان ذو الشعر الأشيب الطويل والمصفف المفروق بعناية و صاح :
ـ بنت الكلب ماذا تفعلين و انت عارية مع هذا الصبي على فراشنا ؟؟
انزلتني بسرعة على الارض و هي تتلقىّ صفعاته و ركلاته و هي تقول له :
ـ شعرت بوجود قمل على جسمي و الولد يساعدني على اصطياده بعد ان طلبت انا منه ذلك !!
و كان القاضي ينظر لي بشزر و تحديّ و كأنما كنت غريمه . . سحبني من كميّ و جرّني بقوة الى خارج الدار و هو يصيح في باب دار بيت عميّ :
ـ ابو عدنان تقبل هيجي يصير ببيتك ؟؟ تقبل هيجي يصير ببناتك ؟؟ هذا يمكن يكون وحش، متعلّق باحضان زوجتي و هي عارية خارجة لتوها من الحمام . . آني راح أهجم بيتكم و سأشتكي عليكم بالمحاكم بقضية شرف، هذا الله يدري شنو عمَلْ و سوىّ بإمرأتي . . سأخبر د. سلمان فائق الذي اثق به و اشوف حكمه الطبي الاولي . . !!
اشتعلت النيران في اعصاب عميّ و سحبني بقوة و هو يقول :
ـ ولك !! تشيل غراضك و تروح الى بيت ابوك !!
في ذلك الوقت خرجت مريم مورّمة الوجه و العيون و هي تبكي و تصيح :
ـ خالة ام عدنان . . كل هالحجي كذب لاتصدقون، كان الصغير يساعدني على قتل القمل ، آني طلبته و توسّلت بيه هالمسكين !!
و بلا صوت خرجت الخالة راجحة بطولها و بعمّتها النسائية السوداء و هيبتها التي اخرست الجو، و صاحت بصوت عالي:
ـ ويلك ياقاضي النحس !! . . لك هذا كلّه خريط من حضرت جنابك، هيجي تحكم بين الناس ؟ لو هاي الحلوة الكرجيّة جننتك ؟؟ و الله و ثلاثة اسم الله لأفضحك بالمحاكم و يسحبون رخصتك اذا ماتسحب كلامك . . احجيلهم شنو اللي سويّت و تزوّجت هاي الوردة الكرجية الله يستر عليها، قندرتها تشرّف راس ابوك صريصر !!! لاتضطرني اكمّل . . خليّ مريم عدنا هسه بعهدتي و ادخل بيتك و سد بابك عليك و آني ارجّعها لك بعدين، و انت ابو عدنان صير عاقل و لاتتدخّل . . تعال ابني السبع . . و طبطبت على كتفي و سحبتني بلطف اليها، و الى غرفتها.
جلست الخالة راجحة بعمّتها المزكرشة السوداء و بفوطتها السوداء . . بوجهها الابيض الشاحب العريض، و قالت لي بابتسامة غيّرت معالم وجهها و اشرقته، الابتسامة التي رأيتها للمرة الاولى عليها، و هي المرأة التي تهابها كل العائلة و محلات الفضل و المهدية و قنبرعلي . . و قيل الكثير عن فضائلها :
ـ اجلس ابني هنا و اشرب ماي من المشربة اولاً . . اميّ و ابويه انت اريدك تحجيلي هاي شنو صار ؟؟ صدك حجاية القمل و اشلون تعرّت هاي الحلوة مريم و انت بالغرفة ؟؟
ـ نعم خالة، بس يعني مو عيب اتكلّم و وعدت مريم انه يبقى سرّاً بيني و بينها ؟؟
ـ نعم عيني كلامك حق . . بس آني أمك الكبيرة اللي تحفظ السرّ و تصونه و اسأل والدك و والدتك و امرأة عمك و عمّك عنيّ . آني احفظ سرّك بحق لا اله الاّ الله و حق محمد رسول الله !!
ـ . . . .
ـ اشو ساكت حبيبي ؟؟ انت تحب مريم ؟؟
ـ اي خالة احبها لأنها انسانة طيبة و مظلومة و تخدم الكلّ ، مو صحيح ؟
ـ اي خالة صحيح . . بس مو تتعرى امامك، لأن عيب و أمر محرّم و قد تصل عقوبته الى الموت عائلياً . . . هل صار امامك مثل هذا الشي من بناتنه و نسواننا قبل ؟؟ المرأة اللي تحترم نفسها ما تسويّ هالشي ابني . .
ـ بس خالة ، هي كانت مجبورة . . مضطرة، حتى تعرف اهلها منو و اين ؟؟
ـ اي عيني هي المسكينة ماتعرف اهلها منو و اين و تبكي ليل نهار لهذا السبب . . بس اللي ماتعرف يعني تتعرى امامك حتى تعرف ؟ لو شلون ؟؟ و انت منين تعرف ؟؟ لو قل انت حبيّتها اكثر و هي عارية صحيح لو مو صحيح ؟؟
ـ لا و الله خالة آني خُفت و ارتبكت بس كان لازم اساعدها حتى تعرف مكان الوشم و هي تبكي !!
و اطرقت الخالة راجحة و سكتت الى ان سألت :
ـ عدها وشم و ماتعرف اين ؟؟ المسكينة . . احكيلي خالة حتى افهم لأن انت بكلامك هذا خبصتها عليّ، انت رحت الى بيتهم و بعدين . . ؟؟
و امام كلماتها و تساؤلاتها الهادئة و تضامنها مع مريم شجّعتني ان اتحدّث لها ماحصل من رؤيتي للببغاء الى مجئ القاضي نعمان، و انا واثق من ان السر لن يخرج للعلن ابداً . . و بقيَتْ الخالة تسمع بصمت الى نهاية روايتي . . و قالت :
ـ عفيه عليك ابني . . شوف انت دا تصير رجّال، و الرجّال لا يتلصلص على بنات العالم و هنّ عرايا . . كان لازم من البداية تطرق الباب او تصيح (السلام عليكم) مثلاً حتى تنتبه المرأة، مو تتلصلص عليها من فتحة الباب مثل الحرامية و المجرمين . .
ـ خالة، آني ردت اساعدها و خفت انها تردني لأن ماتعرف اني قصدت اساعدها . .
ـ ابني ماكو مساعدة لشخص إمرأة او رجل دون علمه . . و الاّ يُعتبر تعديّ !! لو كان عدنان ابن عمّك اللي كان ممكن يصير طبيب وقتها، بمكانك، كان يستأذن اولاً . .
ارتبكتُ من تلك المقارنة و قلت :
ـ العفو خالة . . بس عدنان رجل و اكبر منيّ . .
ـ انت هم رجّال لا تصغّر نفسك . . لك انت اللي سويّته رجال مايجرؤون يسوّوه و حافظ على سرّ البنية مريم و سأعمل الليّ اقدر عليه لمساعدتها . . بس انت الم تسأل نفسك ليش عدنان و ربعه بالسجن ؟؟
ـ لأ خالة . . بس كلنا حزنانين عليهم . .
ـ ابني هذول عملوا و اشتغلوا في سبيل الناس و خاصة الفقراء و الضعفاء منهم و الفلاحين الفقراء و عوائلهم اللي تشكي نسائهم و بناتهم من مصير مريم على يد الاقطاع و جشعهم غير مبالين بما حرّم الله و رُسله، اسأل خالتك وجيهة ام مزهر المحكوم بنقرة السلمان كم شابة انقذت في الفرات من هالمصير . . . هذول المناضلين عملوا في سبيل الخبز و الحرية و المعرفة للجميع، لذلك حكومات السفلة و السرّاق و الظالمين تخاف منهم و تعتقلهم . . و حتى بالسجون تخاف منهم، ماشفت السلاسل اللي شاديّهم بيها وهم في السجن، ماشفت شكد ناس تزورهم من كل القوميات و الاديان . . لأنهم يعطونا القوة و الشجاعة للتحدي و الأمل بالحياة الكريمة . . هذوله هم " العراق المنصدك " و نعيش و نعمل حتى نصير مثلهم ابني السبع . . روح براحتك ابني الله يوفقك و زورني كلّما زرت بيت عمّك.
خرجت من غرفة الخالة راجحة الواقعة في طرف البيت . . الغرفة النظيفة و المرتّبة الحاوية على اصص ازهار و اعشاب عطرية، برفوفها المملوءة بانواع الكتب و الفايلات و المجلات . . و بانواع المعاملات الموضوعة على منضدة واطئة كانت عليها نظّاراتها . . خرجت و انا احسّ بالثقة و بأني عملت عملاً كبيراً، جعل الخالة رابحة تهتم بي شخصيّاً و تناقشني بدون تبويس و احتضانات، و احسست بحاجتي الى التفكير بما قالته لي، و الى اعادته مرّات و مرات لأفهمه افضل . . احسست بكوني صرت انساناً جديداً. (يتبع)

28 /11 / 2021 ، مهند البراك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل