الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقامة الكيروسن بين المخيلة والواقع

صلاح زنكنه

2021 / 11 / 29
الادب والفن


توطئة
"طه حامد الشبيب" روائي عراقي ثابر منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، وما زال يثابر بدأب ليبصم خارطة الرواية العراقية ببصمة مميزة ومغايرة عبر متوالية من الروايات اثارت زوبعة من الجدل والتساؤلات والآراء المتناقضة حول مشـروعية هذا الطارئ الجديد الذي دشن مشروعه الروائي غير المعلن وغير المعرف وغير المعترف به حتى, بل غير المستساغ في العرف الثقافي العراقـي بـنشر رواية " إنه الجراد “ مسلسـلا على صفحات جريدة الجمهورية, التي ما كان باستطاعة أي كاتب محـترف أو مقـرب من النظام أن يهيمن على مساحة واسعة من جريدة الدولة, وعلى مدى أيام وأسابـيع, فما بالك إذا كان الكاتب هذه المرة جديدا ولم يسمع به أصلاً.

وراحت الأقاويل والشائعات تفعل فعلها كالنار في الهشيم, ولم يهدأ الضجيج إلا بانتهاء الحلقات الأخيرة من الرواية التي توافرت على قسط وافر من العناصر الفنية, وبـعد ما يناهز العامين أصدر الشبيب روايته الثانية "الأبـجدية الأولى" عن دار الشؤون الثقافية، والتي تناولتها أقـلام الكتاب والنقاد والصحفيين عبر عشرات المقالات, واكتسب من خلالها لقب "روائي" بـجدارة وبـات اسـمه رائجاً ومشاعا ومألوفا في الوسط الثقافي خصوصا بعد أن راح يصدر كل عام رواية جديدة (مأتم 1998, الضفيرة 1999, خاصرة الرغيف 2000, الحكاية السادسة 2001, مواء 2002، طين حري 2004، حبال الغسيل 2005) وبما أن مغنية الحي لا تطرب فأن الشبيب ظل مغبونا ومهمشـا وغير مرغوب فيهِ من لدن المؤسسة الثقافية ولم تحظ تجربته الروائية بالاهتمام الكافي من قبل الدارسين والنقاد.
و"مقامة الكيروسين" هي الرواية العاشرة 2007 ضمن سلسلة رواياته, وهي حسب قناعتي الشخصية رواية عراقية خالصة تضاف الى المكتبة الروائية بجدارة, كونها شهادة حية على واقع مأساوي كابوسي مازالت تفاصيله توشم الذاكرة العراقيين بالألم والحسرة والمرارة وتقلق وجدانهم وتؤرق لياليهم, فالرواية تسلط الضوء على حلكة الظلام في زمن المحنة, حيث الرعب والقسوة والبشاعة والوحشية والكراهية, رواية مفرداتها الظلم والعذاب والأمل واليأس والصبر والجلد والتحدي, صاغها الروائي بحنكة روائية وحبكة ملحمية ومخيلة جامحة متوثبة.

الزمان
تتناول الرواية حقبة من تاريخ العراق المعاصر عبر الحـدثين, الأول محـاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس العراقـي السـابـق في منطقـة الدجيل مطلع الثمانينيات وافرازاتها, الحـدث الثاني هو مرحلة التغيير وسقوط النظام, وما قبلها بعام وما بعدها بأشهر, والحـدثان متداخلان متلازمان في بنية الرواية، علماً أن الروائي بل قل الراوي لا يشير إلى الحدثين بالاسم وإنما يوحي بـهما والقارئ اللبيب يكتشفهما ويستدل عليهما وفق مقاربة الراوي.

المكان
تدور الاحـداث في مكانين اثنين, الأول منطقـة الدجيل, والثاني معتقلات المخابرات وسجن نقـرة السلمان في الصحراء الغربية, وهنا أيضاً يومي الراوي بالمكانين و لا يسميهما بالاسم الا لماما.

المعمار الروائي
عرف عن "الشبيب" استخدامه للتقنيات الحديثة في كتابـة الرواية وميله للتجريب، وقد اعتمد في مقامة الكيروسين على آلية اشـتغال جديدة أطلق عليها "الافتراض والتأكيد" وبـهذا ضَمَن بين دفتي الرواية ذات 209 صفحـات, تسـعة افتراضات وتسعة تأكيدات, فضلاً عن تأكيدين لازما الافتراضين الرابع والتاسع, متخلياً عن اجرائية "الفصول" المتعارف عليهـا فـي الروايـات التقليدية، والروائي لم يعتمد هذه المعمارية اعتبـاطا إنما بقـصدية واضحـة, أراد من خلالها خلخلة النمطية الأصولية للراوي وفسـح المجال واسـعا للمخيلة أن ترسـم المشـاهد وتبـتدع الصور وتهتك الحجاب وتشـهد على الواقـع.
عمـل الروائي في باب "الافتراضات" على احـتمالية الأحـداث والأمكنة والشخوص, فيما أكد على واقعية ما يحدث وما يجري في باب "التأكيدات" كل ذلك وفق ما تتصـوره مخيلـة الراوي وهو ليس الـراوي العليـم العارف بدقائق الأمور والأحـداث إنما راوي محـايد متفرج لكنه متعاطف.
ولنبـدأ مع الروائي وهو يقحم بـالراوي في معمعة الحـدث الذي لا يعرف عنه شيئا منذ السطر الأول في الافتراض الأول بـهاء المدخل (أفترض أن اللحظة الأولى بدأت هكذا, تعلو جلبة في الرواق ثم يصر الباب الحـديدي منفرجاً عن بطن كائن بشري تندلق عبر فتحة الباب تتسع بحـذر, فطوق من أذرع متشابكة تمنع تدفق الحشـد برغم صيحات أمرة كانت تسوقـه أصوات نسائية ترجو وتستحـلف وأخرى رجالية تنهر, والوجوه لم تنكشف لمخيلتي بـعد) ص 5 ويضيف بعد أسـطر (سـأفترض إني قابـع داخل القاعة معتقل لسبب ما) وهكذا في الصفحـة التالية (تخيلت نفسي معلقا بالسقف فليس ثمة وسـيلة لأحـيط بالمشهد كاملا) وكأنه يخبـرنـا بـالمعادلة التالية - أنا أفترض إذن أنا اتخيل, أنا اتخيل إذن أنا أروي, أنا أروي إذن أنا أشـهد, أنا اشهد إذن أنا مسـؤول - والمسؤولية هنا مسؤولية أخلاقية تمليها شـروط الكتابـة كونها التزاما بقضايا الإنسان وكرامته وحـريته وموقـفا من العالم والوجود والمحيط.

فالمخيلة هنا تقـود الراوي الى دهاليز زنازين النظام الشمولي الدموي وما يتعرض له الضحـايا من استلاب وانتهاك وقهر وتعذيب وتشويه, وتكتشـف أن صاحبة البطن امرأة حبلى في حالة مخاض وسط حشد من النساء والأطفال والرجال, مكومين بعضهم فوق بعض في نهار تموزي قائظ يستنشقون ما يزفرون, والمرأة اسمها هناء (اسمها هناء ناداها أحد الأربعة وهو يطمئنها أي استغفال هذا ؟ كيف تطمئن) ص 6 وشـيئا فشـيئا يتعرف الراوي على الشخوص وأسـمائها وسـلوكياتها "أم على" المرأة الحميمة التي تقوم بدور القابلة غير المأذونة والتي تتبرع بخاتم زواجها للسجان الأحـول مقابـل مصباحـه اليدوي لتساعد في الإنجاب (تموت بعد الوضع) "أم غائب" التي تتعرض للاغتصاب والتعذيب فتحاول الانتحار مرات عديدة لتسعفها أم علي دائما وتحجم عن الكلام طوال عشرين عاما جراء واقعة الاغتصاب, (أم احمد) المرضعة وابنها الرضيع أحمد والتي ترضع (حـمامة) طفلة هناء وليدة السـجن وتموت هي الأخرى (المخيلة تجود علي بشتى الصور تراءى لي أن أم احمد قـد تكفلت بـرضاعة حمامة) ص 35

وإذا استثنينا الطفل أحمد و (اسخيط) الذي يموت اثر التعذيب في المعتقل، سـنجد أن الرواية معنية بالشخوص النسائية كون المرأة (الكائن الوحـيد المعني بالوجود، المرأة تنتج الوجود، تبقى حانية عليه، مسؤولة عنه حتى يفنى) ص 19

نجح الشبيب في اشتغاله السردي حين داخل ما بين حدثين, حدث الاعتقال وحدث الحياة الاعتيادية, وما بين زمنين زمن الاعتقال (حـمامة عمرها يوم واحـد) وزمن فيما بـعد (حمامة عمرها إحدى وعشرون عاما) وباستطاعتنا الآن أن نعزل الافتراضات في قسـم, والتأكيدات في قسـم آخر، وبهذا نحصل على رواية بقسـمين, القسـم الأول يتناول الشخوص في المعتقل, وقسم ثان يتابع الشخوص ذاتها في البيت بعد عشـرين عاما، لكن الروائي أراد غير ذلك وفق هذه الآلية ليحقق نوعا من التغريب, ففي التأكيد الثاني يبدأ بهذا الاستهلال (ليست بي حاجة الى الافتراض، فكل شيء مؤكد هنا، صحيح أن أم علي لا تعلم عن ولد أم أحمد، لكن حمامة تعلم بانتمائه (أحمد السياسي ) ص 55
ويعود بـعد زهاء عشر صفحات في مستهل الافتراض الخامس الى مبنى المخابرات, وحمامة عمرها سبعة أيـام (اليوم السابـع) لوجودهم في مبـنى المخابرات العامة (يوم أتصوره حافلا بالأحداث ففي ضحـاه استحـمـت حـمامة استحماما حقيقيا لأول مرة في حياتها إذ بلغ عمرها سبعة أيام) ص 64 وفي التأكيد الثالث حـيـن يدور بـيـن أحـمـد وحمامة حوار حول عمله السياسي يستدرك الراوي (إذن وهذا أمر مؤكد طبــعا لم تعلق أم غائب على ما كان يدور أمامها في حوش الدار، أنها لم تتفوه بكلمة قط منذ عشرين عاما فلماذا تتفوه الآن؟) ص 74
وفي الافتراض السادس تعود المخيلة القهقـري (مخيلتي ترى الآن وتسـمـع، ترى النساء ومعهن الصغار ما برحـوا مـحـتجزين في مبـنى المخابرات العامة على ذمة التحقيق مع أن لا تحقيق قـد أجري مع أي من النسوة برغم مرور شهر) ص 93 تستنتج من آلية الاشـتغال هذه أن كل افتراض هو واقـع متخيل من قبل الراوي ازاء الشخوص في المعتقـل لمدة خمسة شهور حصراً, وكل تأكيد هو واقـع مؤكد من قبـل الراوي ازاء الشخوص ذاتها بعد عشرين عاما في حياتهم العامة حصراً.

الوصف
اعتمد الروائي على الوصف الحكائي لجزء من المنظومة السردية وهو يقر بذلك في المتن الروائي عبر هذا المقطع (هنا لابد لي أن أستدرك, فأنتبه الى لغة القص بدأت تبـعد عن لغة الحـكاية وتقـترب من لغة التحليل الاجتماعي والنفسي لنعد إذن الى الحـكـاية باللغة التي عهدتموها ) ص 169 بيد أن الوصف الحكائي استمر بالديناميكية عبر استخدام الجمل الفعلية المتوالية وخصوصا الأفعال المضارعة التي تشي بالحركة والفعل والجريان, واليكم هذا المقطع وهو يصف السجان الأحول حين يأخذ المعتقـلين الى التحقــيق (وفي كل مرة كان الرجل ذو العينين الحولاوين يحط على القوم مثلما تحط الحدأة, وبيده مصباح يدوي وباليد الأخرى ورقة, يقرب المصبـاح من الورقـة ويقرأ، وإذ يقرأ ينادي بصوته الراعد على اسـم بـعينه، يتقدم صاحب الاسم نحو الباب وساقاه تتعثران بالأجسـاد المتكورة على الأرض ولحظة يبلغ الباب تنتشله الحـدأة وتطير، تختفي الحدأة بصيدها دقائق ربما خمس عشرة أو عشرين دقيقة, ثم تعود به فتلقيه بين أصحابه جلداً محشوا بكوم عظام) ص 12

الحوار
بالرغم من إني لا أميل الى الحوار العامي بين الشـخوص في القصص والروايات، لكن الشبيب فاجأني وأدهشـني بحـيوية وحـميمية الحـوار بــاللهجة العراقية الدارجة (العامية) المترعة بالحزن والنشـيج الذي وظفه بنجاح باهر في هذه المقـامة الفجائعية، والشـيء الآخر الذي يحسـب لـحـنـكة الروائي في هذا المجال، هو عدم فصل الحوار عن الوصف بل جعله جزءا منه، ملاصقا له، ممزوجا به كاللحمة والسدى, ولنأخذ هذا الأنموذج حـين تستنجد أم علي بالسجان لإنقاذ هناء (وثبت تشق طريقها نحو أحول العينين، خلي رحمة بقلبك، وارأف بحال البنية، البـنية تولد, وهذا بـكرها، فإما تأخذوها للمستشـفى، أو تساعدوني حتى أولدها، وقبل أن تسمع منه كلمة، راحـت تعدد احتياجاتها) ص 13 ويأتيها الجواب من السجان (وجه العملاق مصباحه نحوها، ارجعي لمكانك، وخليك بحـالك، وانتظري دورك بالتحقيق، تولد ما تولد مالك غرض، بـعد ما بقى غير القحاب يعلموني شـنـو الرحـمة، المصبـاح يضيء وجهها لا وجوه الآخرين) ص 13 وهكـذا يجـري الحوار متساوقاً مع الوصف طوال الرواية.

الواقعي و الخيالي
بالرغم من أن الروائي حاول اضفاء لمسـة فنطازية تارة, وملمحا أسـطوريا تارة أخرى على اجواء الرواية, لخلق عالم غرائبي خصوصا في الافتراض الثاني والرابـع، إلا إنها أخذت منحى واقعياً شديد الواقـعية، ولا اقـصد هنا الواقعية الفجة التي تحاكي الواقع كما هو، وإنما تلك التي تتناول تفاصيل الحياة اليومية بعين الفنـان التي ترصد الأعماق عبر مخياله الثر، وهذا ما فعله الشبيب حـين مازج بين الواقع والخيال بطريقة بـارعة كون (الواقـع والخيال وجهي لحادثة واحدة، يلتحمان ويتبادلان المواقـع من دون أن يلغي أحدهمـا الآخر) كما يقول القاص محمد خضير.

الخلاصة
يؤكد الروائي عبـر رواية (مقـامة الكيروسـين) على مجموعة من القيم، منها أن الظلم مهما استمر فهو لا يدوم, ولابد من مقاومته وعدم السـكوت عليه لأن (السـكوت يعني جبنا وعارا) ص 75، وأن (الرعب يقزم الـذوات والأبدان ) ص 10، وأن (الانتماء للموت يـحـط من قـيمة الحياة بكل مـوجوداتها) ص 96، ومـا علينا إلا أن ننتمي للحياة عبر الامساك بالحرية لأن (لذة الحرية أكثـر دواما من لذة الطعـام وأكثر دواما من لذة الوجود) ص 196
...
جريدة الصباح 25 / 11 / 2008








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال