الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوعي وأمكانية التغيير

سمير علي الكندي

2021 / 12 / 6
مواضيع وابحاث سياسية



يحدث عندما نبتعد عن الأوساط العلمية والثقافية ونتغلغل بين الجمهور , وبالأخص الجمهور الذي لم تسنح له الفرصة في التعليم والذي أبتعد عن مواكبة العلوم والثقافات , نجد أن هذا الجمهور قد وقع فريسة سهلة في أحضان المعتقدات الدينية في مراحلها البدائية . فعلى الرغم من أن المعتقدات الدينية لدى الكثيرين من المتعلمين قد تطورت بفعل العلوم والفلسفات التي ظهرت بعد الأديان وبأثر منها كما حدث في بروز الفلسفات بعد ظهور الأسلام فكانت لدينا فلسفة أهل الكلام والمشائية والمعتزلة والتي أوجدت الفيضية والتي تمثل مرحلة متقدمة من المعتقدات الدينية حيث خرجت من عباءة الجهل الديني المتمثل في الفهم السطحي لما حولنا من طبيعة المادة والعالم الذي يحيطنا من كائنات حية ومواد , وعالم ما بعد الكرة الأرضية . حيث أبتعدت الفيضية عن التفسيرات الدينية لطبيعة وجود الأشياء والكائنات الحية التي تطرح في كتب التوراة والأنجيل والقرآن والتي تعتقد أن الكائنات الحية والأنسان تحديداً جاءت عبر عملية فخار الطين , أو عبر عملية سريعة سحرية فوقية وفق مبدأ كن فيكون . كما تبتعد الفيضية عن الفهم السطحي للأديان لطبيعة تكوَن الموجودات حولنا , حيث تطرح الكتب الدينية الأولية كيف نشأ الكون من فصل للبحر عبر جلد سميك تم رفعه ليكون السماء ثم تم زرع النجوم فيه لتكون مصابيح , وأحداث ثقوب في هذا الجلد ليسمح بهطول الأمطار ,, ألخ من هذه السيناريوهات التي كانت تطرح للفترة منذ الأساطير البابلية التي أوجدت هذه المفاهيم والتي تعكز عليها اليهود أيام السبي البابلي لليهود والتي كتبت بعد ذلك على أنها نواميس جاءت من السماء فكان لدينا فصيل كامل من الأنبياء أمثال أبراهيم ويعقوب وموسى وعيسى وأنتهاءاً بمحمد , وكانت لدينا كتب التوراة والأنجيل والقرآن التي تتطابق فيها السيناريوهات عن كيفية نشوء الكون وأن كل ما حولنا من كون مترامي وكل الموجودات على الأرض والكائنات الحية تم صنعها في ستة أيام , وأن الكون الذي حولنا ثابت وقد تم صناعته في زمن ليس ببعيد ولا يتجاوز وفق هذه الكتب الثلاثة ال7000 عام الماضية أو ال10 ألاف وفق أبعد التقديرات وفق التسلسل للبشرية الذي يطرح في هذه الكتب .
ولأن الفلاسفة في مرحلة بعد ظهور الأسلام وبأثر من الترجمات للفلسفة اليونانية والعلوم التي كانت رائجة في أوربا القديمة , أبتعد الفلاسفة العرب عن المعتقدات الدينية الساذجة وتعكزوا على الفلسفة اليونانية وأضافوا أليها , فأرسطو كان يطرح أن كل الأشياء تنحدر من أجزاء صغيرة تشكل بمجموعها المواد التي حولنا , وهذه الأجزاء الصغيرة غير قابلة للقسمة وسماها الذرات , كما أن الجسيمات الحية تأتي من مواد غير حية . وكانت العلوم الفلكية تزدهر في ذلك العهد من عمر البشرية ولم تأخذ تلك العلوم بما كان يطرح بالكتب الدينية حيث لم يتحدث أي عالم فلك رغم ضعف الأمكانيات والأعتماد على المشاهدة بالعين المجردة , فقد أستطاعوا أن يدركوا أن الشمس والقمر والكواكب , الزهرة وعطارد والمريخ تدور حول الأرض وليس مثل ما تطرح المؤسسة الدينية من أرض مسطحة وسماء جلد وثقوب . هذه العلوم والفلسفات أستفاد منها الفلاسفة العرب الذين طرحوا القرآن وباقي الكتب جانباً وتعكزوا على الميراث اليوناني والعلوم في أوربا القديمة ليوجدوا الفيضية والتي تتحدث عن أن الكون في نشوء مستمر , وأن مهمة الخالق هنا تنحصر في أعطاء المواد أو الجسيمات الصغيرة التي تتألف منها كل المواد , أعطائها القوة أو الأمكانية لتبزغ للوجود , وهذا الفهم لطبيعة النشوء تعكز عليه هيكل في فلسفته المثالية , حيث دحض وجود الخالق الذي تتحدث عنه الأديان بالمفهوم الفوقي الخرافي كقوة هائلة تصنع كل شيء بشكل سحري , وأنطلق من الفيضية وطوَرها , وبدل أن يكون الخالق قوة هائلة فوقية تمنح الأشياء القوة لكي تبزغ في الوجود , أوجد هيكل مفهوم أن الخالق هو القوة التي تكون سابقة للمواد والتي تسمح لهذه المواد بالنشوء , وهذه القوة هي أشبه بالبذور التي تعج بها الطبيعة والتي تمكن المواد بالنشوء المستمر والأزلي .
وهذه المفاهيم لدى الفيضية كالغزالي والمثالية لدى هيكل والتي تنقض ما جاء في الكتب الدينية تمثل مراحل تطور للمعتقدات الدينية , حيث هنا كل الفلاسفة العرب وكذلك الفلاسفة في عهد التنوير من ديكارت وكانت وهيكل , هؤلاء جميعاً لم يغادروا فكرة الخالق الباعث للوجود رغم دحضهم لكل ما جاء في الكتب الدينية , وتمثل أفكارهم موائمة للعلوم التي كانت تتطور عبر التاريخ من خلال المشاهدة والبحث , حيث أن العلوم تطورت منذ العلوم اليونانية حيث تطور الوعي البشري بعد أن أدرك أن الأشياء تنمو تقريباً من لا شيْ , فمن حيمن مجهري وبويضة ينشأ أنسان , ومن خلايا مجهرية تنشأ الكائنات الحية والنباتات , والطبيعة حولنا رغم الفناء الواسع فيها فهي تتجدد بأستمرار , وبسبب طبيعة العلوم التي كانت سائدة في تلك العهود من التأريخ لم يتمكنوا من مغادرة فكرة القوى الأولى التي مكنت المواد الأولى من البزوغ للوجود .

أرسطو وبدايات الفلسفة

ولكن هذا الفهم يمثل مرحلة متطورة من المعتقدات الدينية , وتقريباً نجد أن هذه المفاهيم تتردد في الأوساط المتعلمة التي مازالت تتمسك بفكرة الخالق التي جاءت في الكتب الدينية , لتأخذ هذه الأوساط المتعلمة الدينية فكرة الخالق فقط من الكتب الدينية دون النظر الى ما تطرحه هذه الكتب الدينية , ويبتعدون عن الميثولوجيا المطروحة في الأديان وذهبوا الى التعكز على العلوم التي تتحدث عن القوى التي ساهمت في الوجود ليحيلوا هذه القوى الى الخالق . وهذه المرحلة للدينيين المتعلمين للفهم العام لطبيعة الأشياء تمثل مرحلة متقدمة سميت بالربوبية والسبيبية وهي المفاهيم التي تتقبل كل ما يأتي من العلوم في تفسير الكون وطبيعة الأشياء ويحيلوا البداية والقوى الأولى للخالق الذي كان السبب في الشرارة الأولى التي مكنت أن ينتج لدينا كل ما حولنا .
وهم يقتربون هنا من فكرة المفردة والأنفجار الكبير والكون الذي جاء من فقاعة في اللاشيء أو العدم وهو ما يخبرنا به العلم الحديث . حيث أن الكوسمولوجي ( علم الكون ) والأنثروبولجي ( علم الأنسان ) والبايوكيمياء تؤكد لنا أن جميع المواد الحية والغير حية تتألف من أجزاء صغيرة , وتتجمع هذه الجسيمات الصغيرة بفعل قوى تم تحديدها بشكل واضح وهي قوى الجاذبية والقوى النووية الشديدة والضعيفة والكهرومغناطيسية , وقوى الفراغ التي تمثل الوسط والبذور ليكون لدينا جسيمات أولية , وأن هذه الجسيمات التي تبزغ للوجود بفعل تمدد نسيج الفراغ وما ينتج عن هذا التمدد من أهتزازات . وهذه الجسيمات الضئيلة الناشئة وخاصية لها تنشأ القوى أعلاه أبتداءاً من الجاذبية , حيث وجود جسيم في وسط يعني هناك ثقل مسلط من الجسيم على الوسط الذي يتواجد فيه وهكذا تنشأ الجاذبية , وبتجمع هذه الجسيمات الضئيلة بفعل الجاذبية تنشأ القوى النووية الشديدة التي تشكل النواة لكل الجسيمات . وبسبب طبيعة التشكل والقواعد الهندسية التي ستتجمع بموجبها هذه الجسيمات الضئيلة تنشأ لدينا نواة موجبة والكترونات سالبة لتنشأ لدينا القوى الكهرومغناطيسية .
لنجد أن هذا الكون ليس فيه قوى سادسة , وليس هناك ما يدلل عليها , وكل القوى المكتشفة والمؤثرة في هذا الكون هي هذه القوى الخمسة المثبتة علمياً . كما أن هذا الكون وكل الموجودات فيه لا تحتاج سوى لهذه القوى الخمسة ليكون موجود .
وعلى هذا الأساس فأن قراءة متأنية للتأريخ وبسبب الأستجابات الهائلة لشريحة المتعلمين الدينيين وبأثر من العلوم نجد أن المعتقدات الدينية الأولية التي جاءت في الكتب الدينية الثلاثة تتداعى وهي في طريقها للأنقراض . حيث ليس هناك حالياً متعلم ديني يقول أن الشمس تدور حول الأرض أو تغيب في حمئ من طين , ولا أحد يتحدث عن كون جاء فجأةً أو في ستة أيام , بل يقولوا ما يقول به العلم ويتركوا البدايات والنهايات للقوى الغيبية القاهرة . ولأنهم يمضون مع العلم ويتأخروا عنه بخطوات فأن جدلية التأريخ تخبرنا أنهم سيصلون الى ما وصلنا أليه في مراحل لاحقة , عندما تكون العلوم قد تجاوزت جدلية الطاقة والمادة المظلمة , وعندما نتمكن أن نحدد طبيعة حافات الكون , وعندما يكون لدينا سيناريو رياضي غير قابل للدحض لطبيعة المفردة التي أنفجرت فأوجدت هذا الكون . وهل كانت مفردة أو فقاعة أنهارت في اللاشيء أو العدم .
ولكن الخلل الأكبر ليس في المتعلمين الدينيين , وأنما بالجمهور الواسع الذي أبتعد عن التعليم والأوساط العلمية والمعرفة والذي يشكل شرائح واسعة في منطقة الشرق الأوسط والمغرب الأمازيقي وتركيا وبصورة أقل في باقي العالم . حيث نجد لدى هذا الجمهور مفاهيم ما قبل الحضارة وحتى ما قبل التأريخ . مفاهيم تمثل معتقدات عصر بداية الزراعة قبل 10 الأف سنة قبل الميلاد . وهذا ما نلمسه عندما نلتقي بهذا الجمهور الذي لا يعرف عن العلم أو الفلسفة أو الأدب أو الثقافة والمعرفة عموماً . فهم لحد الآن يعتقدون أن الشمس تشرق وتدور , ولا يعرف مفردة تلسكوب ولا يفرقها عن الأسكالوب ( طبق الدجاج الشهي ) , ويلتحقون برجل الدين الذي ينتج الخرافات بأستمرار . ليربط بين المرض والرزق والأنجاب بالقوى الغيبية التي ليس لها أي وجود أو دلائل . وتظل نقاشاتهم بيزنطية وعقيمة ولا تخرج من مفهوم البعرة والبعير , حيث تختصر لديهم العلوم والفلسفات في هذه المفردة البسيطة . ومازال هناك جمهور واسع يذهب الى قبور رجال التاريخ ليطلبوا منهم الرزق والصحة والأنجاب وتجنب الأخطار , ويعتقدون أن هذه القبور مازالت تنبض بالحياة وتمتلك القوى الغيبية , ومازال هناك الملايين الذين يكتظوا حول الأحجار ليطوفوا ويرموا الجدران بالحجارة .
ولأن هذا الجمهور يمثل شريحة واسعة من مجتمعاتنا ويفتقد الى أبسط مقومات المعرفة ويبتعد عنها بأجيال متعددة ولأنه يمثل القاعدة لأي حراك من أجل التغيير , فأننا بحاجة الى ثورة علمية معرفية بمستوياتها الأدنى لكي ننتزع هذا الجمهور من سلطة المؤسسة الدينية التي تأخذه بعيداً ليظل موهوم وغير مدرك لحاجاته وأسباب الدمار الحاصل في بيئتنا ومجتمعاتنا .
أن المؤسسة الدينية لما تمثله من سلطة برجوازية فوقية وهي تعتاش على الجهل والخرافة والتي تتحالف دائماً مع السلطات البيروقراطية الطفيلية القمعية وتكون جزء منها وداعمة لسلطتها في توجيه الجمهور المغيب , لكي لا يدرك هذا الجمهور أسباب الأنهيارات الأقتصادية وما هي الوسائل ليكون لدينا أقتصاد متعافي ومجتمع متآلف يعيش فيه الجميع وقد توفرت لهم المستلزمات الأساسية للعيش .
أن المساواة والعدالة الأجتماعية والتشاركية , وأنعتاق المرأة من القوالب التي وضعت فيها وأدت الى تعطيل نصف الأيدي العاملة في المجتمع , مفاهيم لا يمكن أدراكها والنظال من أجلها دون الوعي بها . ولا يمكن أن يتسلل الوعي الى الجمهور بدون تحرر هذا الجمهور الواسع من الجهل وأمتلاك المستلزمات البسيطة للمعرفة ومواكبة العلوم ليكون لدينا مجتمع متحضر غير خاضع للمؤسسة الدينية , وبالتالي سيدرك ويمتلك الوعي بالتغيير بعد أن يحدد الأسباب الحقيقية لذلك .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رفح: هل تنجح مفاوضات الهدنة تحت القصف؟ • فرانس 24 / FRANCE 2


.. مراسل شبكتنا يفصّل ما نعرفه للآن عن موافقة حماس على اقتراح م




.. واشنطن تدرس رد حماس.. وتؤكد أن وقف إطلاق النار يمكن تحقيقه


.. كيربي: واشنطن لا تدعم أي عملية عسكرية في رفح|#عاجل




.. دون تدخل بشري.. الذكاء الاصطناعي يقود بنجاح مقاتلة F-16 | #م