الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفضاء المرن في مسرحية آه كارميلا

وسام عبد العظيم عباس

2021 / 12 / 6
الادب والفن


إن الانماطَ الفنيةَ لاسيما المسرحية منها التي تُوسم بالمرونة، تمتاز بتفاعل اكبر، بوصفها قادرةً على انتاج قدر اكبر من العلامات فضلاً عن قابليتها في التداخل مع المكونات المجاورة للعرض، لكن هذه (المرونة) مقرونةٌ بوعي القائمين على انتاج العمل الفني، اذ ان الاشتغالَ على هذا المُعطى يمتاز بقدر عال من الخطورة التي بامكانها ان تُطيحَ بمنظومة العرض المسرحي كون الحد الفاصل بين فعل المرونة وفعل الفوضى والتسطيح ضعيف جداً، اذ ان المرونة/ الليونة/ الميوعة لا تعني الفوضى حسب وصف (زيجمونت باومان) بقدر ما هي اعادة انتاج للهياكل الصلبة والثابتة ،لذا جاءت مسرحية آه كارميلا بين فعل المرونة عبر البحث عن علائق جديدة مع المتلقي و بين ترهل الايقاع.
مسرحية آه كارميلا للفرقة المصرية اخراج اشرف علي تمثيل محمد فريد و ماريا اسامة التي تمَّ عرضها ضمن فعاليات مهرجان بغداد الدولي للمسرح بدورته الثانية في مسرح الرافدين بتاريخ 25/11/2021
تتحدث المسرحية: عن الحرب الاهلية في اسبانية وما دار فيها من خلاف ، و يُعرف ابطال العرض انفسهم على انهما ممثلان شعبيان (هما باولو وزوجته كارميلا) يمتلكان عربة هي بيتهم ومسرحهم الجوال. تمتاز الشخصية الاولى( كارميلا) بوضوح مواقفها ودفاعها عن متبنياتها الفكرية، دون خوف او وجل، وفي النهاية تُقتل بسبب ثباتها على مبادئها. فيما جاءت الشخصية الثانية( الزوج/ باولو) على العكس تماماً، فهو سرعان ما يتبدل موقفه مع تبدل الاحداث .
تعمد مسرحية آه كارميلا في مجمل طروحاتها الفنية على تلاشي المسافة النقدية بخاصية قلب الاتجاه المألوف لارسال العلامة، وقد تمظهر ذلك في بداية العرض بتواجد الممثل الرئيس في الصالة مرحباً بالجمهور اثناء دخول القاعة، ليحطم النسق الارسالي المألوف بين الخشبة والجمهور، بهدف تحقيق شيء من المغايرة في عملية الارسال والتلقي، متحدثاً باللغة (الاسبانية) بطريقة غنائية، ثم يعرف الجمهور بعمله السابق بطريقة تقديمية مباشرة ، فهو اشبه بالراوي الذي يتلو احداث المسرحية ويُعرفهم بشكل مسبق بتفاصيل المشاهد التي سوف يتم تقديمها على خشبة المسرح، وهو بذلك يأخذ انساق المسرح الملحمي الذي لا يريد من المتفرجين ان ينصهروا / يتوحدوا مع الشخصيات المقدمة على خشبة المسرح بل يكونوا مراقبين وراصدين بوعي لما يجري من احداث على المسرح ، كما انماز العرض بأنهاء الاسلوبية و الاتجاه بفواعل تعدد الاساليب ودمج الاتجاهات والمزاوجة بينهما فهو لم يأخذ اسلوباً محدّداً انما عمل على تفعيل انماطاً عدة عبر توظيف الدمى، والتمثيل الايمائي الصامت، والمحاكاة الساخرة، وهذا ما يتسق مع فعل المرونة الذي امتاز به العرض.
اذ سعى الى المزج بين اسلوب المسرح داخل المسرح الذي تبلورت ملامحه بشكل واضح مع المسرحي الايطالي (لويجين بيراندلو) كما تعالق مع الاسلوب الملحمي لـ (برتولد برخت) بهدف خلقِ نمطٍ سياسي ساخنٍ يواكب الواقع المعاصر . وان ارتكاز تقنية المسرح داخل المسرح في العرض هو ما يمزج بين الوهم والحقيقة ، بين وهم الصورة المنقولة وحقيقة الصورة الاساس التي تم تجسيدها، حقيقة الممثل وزوجته كارميلا ، ووهم المَشاهد التي يجسدونها، وهذا ما يتسق مع طروحات الفرنسي (جان بودريار) في ضياع مبدأ الواقع عبر الصورة المنقولة للمشهد الذي تم تنفيذه في العربة بوصفها مسرحاً داخل خشبة المسرح، ورغم ما لهذه التقنية من قدرة في ان تُسعف الممثلين للخلاص من سطوة المحاسبة القانونية التي يمكن ان تلاحقهم نتيجة عرضهم جملة من القضايا السياسية التي تم مناقشتها، بوصفها لا تعبر عن ذواتهم كممثلين بقدر تعبيرها عن الشخصيات المجسدة، ولكن المخرج كان له رأي اخر اذ صرح عن الفشل في ايجاد مَخرَج من سلطة التَعرض للمعتقدات الفكرية، وقد تمظهر باعلانهِ عن موت كارميلا في المشهد الاخير نتيجة لدفاعها عن معتقداتها الفكرية، مؤكداً ان حياة الانسان مرهونة بما يتبناه من افكار .
على صعيد التنفيذ الفني للعرض فقد تمظهرت حمولات النمط المرن عبر توظيف الاغاني/ الفواصل/ الاضاءة الحادة/ فقرات التمثيل المقدمة من قبل الممثلين التي عملت على تكسير حدة الايهام بين الخشبة والصالة في اغلب مشاهد العرض، ما جعله يأخذ صيغة المباشرة التي تختلف من تجربة مسرحية الى اخرى ، ففي المسرح الواقعي تعتمد على ايهام المتفرج في حين نجدها في تجارب اخرى كالمسرح السياسي والملحمي تأخذ انماطاً مغايرة ولا تُعد مثلبة على العرض بقدر تحقيق فعل التواصل بين الممثلين والمتفرجين وهذا ما ارتكز عليه مخرج العرض ، لكن تكرار الفواصل/ الاغاني/ الانتقال من مشهد الى اخر زاد من ترهل الصورة البصرية وايقاعها ما دفع فعل المرونة بالانزياح نحو التسطيح
يتمظهر الشكل الخارجي للعرض عبر جملة من العلامات الارسالية التي تحيل الى عملية الحركة الدائمة للعرض ولفقراته التي تُقدم من خلال تأثيث فضاء العرض بعربة، تملؤها الاضاءة الفيضية المفتوحة التي تكشف كل التفاصيل على خشبة المسرح فهم لا يريدون اغواء الجمهور وايهامه بقدر ما يجعلوه مشاركاً وفاعلاً في منظومة العرض، وقد تجسد ذلك عبر مشهد الجندي الذي جسدته كارميلا وهي حاملة للسلاح، من خلال ما قام به الممثل الرئيس من سحب احد المتفرجين، ليشارك في المشهد مع الممثلة الرئيسة في كفةٍ واحده، ويدفع المتفرج الى مواجهة حقيقية يستلزم منه ان يتخذ موقفاً حازماً ازاء ما يحدث، وقد تبلور ذلك في المشهد من خلال التوجيهات التي اعطاها الممثل الرئيس لهم، مساوياً بين المتفرج/ والممثلة في العرض، بقوله "انتما الان في ساحة المعركة ويوجد في الارض بندقية وفيها طلقة واحدة" وهذا الفعل بطبيعته يُلزم المتفرج بالتفكير الآني واتخاذه موقفاً للمأزق الذي وقع فيه ما يدفعه نحو الارتجال لاستمرار الفعل المسرحي، وهو ما عمد اليه المتفرج عبر التقاطه للبندقية وتسديدها نحو الممثلة/ كارميلا، وبذلك حقق العرض هدف التحريض وتحويل (المتفرج/ الممثل) من متلقٍّ ساكن الى ممثل فاعل و مساهم في والاداء.
وحسب التصنيفات الثلاثة لطبقات المسرح التي صنفها (ستانلي فينسنت لونجمان) يمكن عد طريقة تقديم هذا العرض على غرار خشبة المسرح المرن/ النوع المرن بوصفه تفاعل وتشابك مع حدود خشبة المسرح ،اذ ان العالم الواقعي للمسرحية لم يأخذ صيغته الثابتة بل تغيَّير في العرض مرات عدة عبر توظيف فضاءات داعمة لفضاء العرض كتوظيف العربة بوصفها خشبة، بالإ---ضافة الى استخدام فضاء التلقي عبر تحطيم حدود الخشبة على صعيد المكان، وكذا الحال بالنسبة للزمن فهو مُتغيير متنقل حسب ما يتطلبه العرض، اذ ان خشبة المسرح المرن حسب توصيف(لونجمان) على العكس تماماً من خشبة المسرح الثابتة التي تستطيع ان تحافظ على حدودها بلا انتهاك او تدخل، وان منصات العرض في اه كارميلا متعددة بين العربة التي تحولت الى حافلة متنقلة، ومكان للنوم، وسجن ، ومكان للقراءة والمطالعة، فضلاً عن استخدام الجزء الخلفي لها كمكان لكواليسهم بالاضافة الى خشبة المسرح التي تحتوي العربة ، والصالة التي اندمجت مع الخشبة عبر افعال الممثلين فيها، ومشاركة الجمهور لافعالهم. وهذا ما جعل صفة المرونة السمة الابرز في العرض.
اما على صعيد الاخراج فقد فاق المعطى اللفظي الصورة البصرية للعرض عبر كثرة الحوارات بين الممثلين دون تأثيث بصري لفضاء ما جعل عدد من مشاهد العرض خالية من الايقاع الدرامي، وبالتالي افقدت العرض قوة الايقاع ورصانته، وقد تحقق ذلك عبر الازاحة التي حققها النص للصورة البصرية. وهذا ما يدفعنا الى التساؤل هل مزاج المتلقي قادر على مواصلة الاحداث المنطوقة غير المجسدة ازاء الكم الهائل من المعطيات الرقمية التي اصبحت اكثر تأثيراً من فعل النص الادبي المنطوق ؟
اما على صعيد الاداء فقد امتاز الممثلان (باولو و كارميلا) بقدرات ادائية عالية الدقة والانضباط طوال فترة العرض، اذ امتازت اجسادهم بالليونة والمرونة العالية التي حاولت اللحاق بقوة الحوار الملفوظ عبر تعدد الاغاني والرقصات التي تم توظيفها في عدد من مشاهد المسرحية، فيما امتازت قدراتهم الصوتية بالتنويع والتلوين عبر تغيير اصوات الشخصيات التي يجسدونها، ما اعطى انطباعاً عن التزامهم الواضح في تفاصيل العمل المسرحي.
كما جاءت الموسيقى على صعيد التنفيذ داعمة لافعال الممثلين الا في بعض مشاهد رمي الرصاص التي من المفترض ان يترتب عليها اداء الممثلين، اذ لم تكن واضحة بالشكل المطلوب ما قلل من الفعل الدرامي للأداء. فيما جاءت الاضاءة معززة وساندة لفكر المخرج والعرض في مد الحشبة داخل الصالة عبر توجه اجهزة الاضاءة بأتجاه الصالة ووضع اجهزة داخلها باتجاه الممثلين لتلاشي الحدود بين الخشبة والصالة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي