الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جسر اللَّوْز 25

علي دريوسي

2021 / 12 / 8
الادب والفن


في إحدى الأمسيات التي أمضيتها مع إيمان في إحدى خمّارات مدينة بون سألتها بنوع من المناكفة والمداعبة عن الشخص الذي ورّثها الذكاء الحاد والقدرة على الإبداع. كنت أنتظر منها إجابة لاذعة وساخرة إلا أني تفاجأت بدموعها التي انسالت بشكل غير منتظر وهي تجيبني: ورثت صفاتي الإيجابية من خالي كمال. وحين تأكدت بأنها لا تمازحني رجوتها أن تحكي لي قليلاً عنه. وكان كمال سيد سهرتنا ذلك المساء وأخذت تحكي لي عن خالها:
كان بيت جدي أبو كمال من أكثر بيوت قرية جسر اللوز فقراً. كان جدي يعمل في حفر الآبار وتكسير الحجارة. خالي الأصغر من كمال كان عاطلاً عن العمل وخالتي كانت تعمل في الريجي براتب ضعيف جداً. كان البيت عبارة عن غرفة واحدة متواضعة، وسطها موقد الحطب، جدرانها مبنية من الحجارة والطين الممزوج بالتبن وروث الأبقار، مما يجعلها تتشقق موسمياً. في كل عام يقوم جدي وجدتي بطلاء الحيطان الداخلية للبيت بالحوّار الأبيض وتطيّين ما تقشر من الجدران الخارجية.
للغرفة باب عريض من الخشب المقوّى بصفائح التنك لتغطية بعض الثقوب والشروخ المتواجدة فيه. على عدة رفوف خشبية حاجيات الطبخ من طناجر وصحون وملاعق ومقلاة كبيرة وعلى رفوف أخرى مجاورة صفت الملابس الداخلية والخارجية. كانت أرض الغرفة مجهزة لتكون واقية من الحر والقر. أما السقف فكان مصنوعاً من المدود المستندة على عمود رئيسي يسمونه الطنب أو الخنزيرة، والذي بدوره يرتكز على عمود خشبي يتوسط الغرفة يسمونه الساموك، فوق هذه المدود طبقة من القصب الجاف والطيون والبلّان وفوق هذه ثمة طبقة ترابية ممزوجة مع التبن والروث ومرصوصة بحجر إسطواني الشكل يسمونه المعرجلينة حتى تتماسك جيداً منعاً لتسرب الماء. وبعد كل هطول للمطر كان جدي يصعد إلى السطح ليعرجله فتنغلق التشققات. على الساموك عُلقت مرآة صغيرة مكسورة في إحدى زواياها وفوقها مشط من البلاستيك الأسود وتحتها كرسي وحيد من القش.
كان كمال ـ حسب حكايات وشهادات الكثير من أهل القرية ـ نقياً ومتميزاً جداً بتفوقه الدراسي ونباهته وذكائه. حصل على منحة دراسية في أهم ثانوية في المدينة. كان يكتب على السبورة باليدين معاً. وفي أوقات فراغه راح يعطي دروساً مجانية بمادتي الرياضيات والفيزياء للعديد من طلاب القرية. لم يبخل بعلمه ومعرفته على أحد قط. بالإضافة إلى ذلك كان كمال من أهم الشيوعيين في قريتنا. بعد نيله الشهادة الثانوية بتفوقٍ حصل على منحة للدراسة في موسكو. حدث هذا قبل قيام الوحدة السورية المصرية. غادر إلى بلاد السوفييت... هناك في موسكو تم اغتياله. حدث هذا مع نهاية الوحدة السورية المصرية.
الرواية الرسمية المخابراتية ادَّعت أنه فشل بالدراسة ومات انتحاراً بعد أن رمى بنفسه من غرفة في الطابق الثامن عشر من إحدى البنايات الطلابية. أما الرواية الحقيقية فتقول بأن الأجهزة المخابراتية الناصرية كلّفت عدداً من الطلاب بتصفية الشاب كمال عن طريق رميه من طابق عالٍ في المدينة الجامعية بموسكو!
وعاد خالي كمال إلى الوطن بتابوت من الزان والزجاج ملفوفاً بالعلم. عندما وصل كان في استقباله المئات من أهالي قريته والقرى المجاورة. لم يسمح لأصدقائه ولا لعائلته بفتح النعش، لكنهم تعرفوا على وجهه من خلال قطعة الزجاج التي تغطيه.
قبل عودته الأخيرة في التابوت كان قد زار قريته في إجازة صيفية. وعلى الرغم من الخوف المستشري بين الناس بخصوص الشيوعيين وأفكارهم، فإن بيته لم يخلو من الناس والأصدقاء. ولأن كمال كان يتوقع ذلك فقد جلب معه عشرات الهدايا الرمزية التي تفرح القلوب.
ثم أنهت إيمان حديثها بأن قالت: للأسف لم يبق شيء من أثره سوى ذكريات مشوشة غائمة، لا كتب ولا مؤلفات ولا صور ولا ثياب ولا رسائل ولا أولاد ... حتى البيت الطيني الفقير الذي احتضنه انمحى من الوجود!
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أون سيت - هل يوجد جزء ثالث لـ مسلسل وبينا ميعاد؟..الفنان صبر


.. حكاية بكاء أحمد السبكي بعد نجاح ابنه كريم السبكي في فيلم #شق




.. خناقة الدخان.. مشهد حصري من فيلم #شقو ??


.. وفاة والدة الفنانة يسرا اللوزي وتشييع جثمانها من مسجد عمر مك




.. يا ترى فيلم #شقو هيتعمل منه جزء تاني؟ ??