الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغرب لم يسرق أخلاقك

أكرم شلغين

2021 / 12 / 9
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


كثر بيننا من يتفوهون بعبارة أو ما معناها أن "الغرب قد سرق منا أخلاقنا وقيمنا ومبادئنا" ويتابعون "هم تقدموا وتطوروا ونحن تخلفنا....". أقل ما يمكن أن يقال بعبارة مثل هذه أن مطلقها لم يفكر بها وبأبعادها اللغوية قبل الاجتماعية وإلا لما رددها بارتياح ظانا أنها قراءة مثقف للواقع؛ فالأخلاق أو القيم وما في هذا الحكم ليست قطعة أثرية سرقها المستعمر الغربي منا ويضعها في متاحفه، هي ليست جسما ماديا كي يُسرق. وإن كانت لدينا سابقا هذه القيم والمبادئ التي تشكل الآن نظم ومعايير وأسس التعامل في الغرب والتي "تعلمها" منا كما يزعمون فلماذا تخلينا عنها كنهج حياة في منطقتنا؟ إن كان الغرب قد رأى بهذه المبادئ مرتكزا له في التعامل فأين أصبحت مرتكزاتنا؟ هل ما نبحث عن فقدانه موجود في الثقافة الفضيحة التي تُعلّم أن "الكذب ملح الرجال"؟ أهو ما يشكل قوام ثقافة الفصام التي تبرر وتشرعن لأن أسرق سرا بينما علنا أُدلّي المنشفة فوق كتفي وأحرص أن يراني الجميع وأنا أركض إلى الصلاة؟ هل ما نبحث عنه موجود في تعليم الكره للآخر؟ هل هو في شرعنة إيذاء الآخر؟ أهو في تعليم أن تسر وتبطن ما لاتعلن؟
للدقة، وكي ننصف، علينا أن نتذكر أن "المدينة الفاضلة" لم، ولن، تتواجد في أي مكان من الغرب إلا في الكتب وفي خيال المفكرين والفلاسفة. بل وأكثر إذ للغرب تاريخ مليء بالعنف بدءا من حرق النساء اللواتي وُصفن بأنهن ساحرات أو تقطيع أطراف من جرّموه بسرقة قطعة خبز ذات حين أو حرق العالِم الذي خالف ما قالته السلطات الكنسية عن كروية الأرض ومرورا بالصراعات الإقليمية والحروب الدينية وما خلفته من مجاعات حتى وصلت ـ وهذا ليس من زائد القول ـ في أماكن من قلب أوربا أن تتبادل الأسر الأطفال فيما بينها للأكل. الغرب الذي أنتج الماكيافيلية نبذها فيما بعد وبين قصورها فيما يخص الإنسان وحقوقه وطرق عيشه في المجتمع... حقا، لقد فكرت هذه الشعوب في النهج الخطأ ونبذته وقدّرت كم عانت على مر التاريخ فتعلمت من أخطائها دروسا، وأصبحت أمما شفافة وواقعية في تعاطيها مع الأمور عموما. وبنت منظمومتها القيَمية التي أصبحت ـ ومنذ زمن بعيد ـ مثار إعجاب مفكرينا حتى من حمل منهم برأسه مشروعا نهضويا (فكما هو معروف بعد عودته من مؤتمر باريس عام1881، نطق الإمام محمد عبده بمقولته الشهيرة: "ذهبت للغرب فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين ولما عدت للشرق وجدت مسلمين ولكنني لم أجد إسلاما!"
في الحقيقة، ليس صناع القرار ومن يقودون البشر في منطقتنا هم ممن يعترفون بالخطأ أو ممن يحاولون قراءة الواقع بدقة أو ممن يتحلون حتى بالبراغماتية لإدراك أن ضرورة العيش والاستمرارية في عالم اليوم تقتضي التغيير الجذري وعلى كل المستويات والصعد، بل، وعلى العكس، تراهم إعلاميا يشحنون ويحرضون ويعدون البشر لمعارك دون كيشوتية ضد "الأعداء". إنهم ينتجون الفرد المكسور والمهزوم والمتأزم نفسيا إذ لا هو بقادر على عيش مختلف ولا هو بقادر على فعل شيء من شأنه التغيير، وفي أحسن الأحوال هناك من يلوم الغرب على استراق قيمه وأخلاقه..! والبعض حتى إن حاول أن يخرج عن هذه الدائرة الضيقة فإنه يقع في حفرة التقوقع والتشدد حين يخاف على ذاته في مناخ هو فيه ليس بفاعل أو بقادر على إيجاد المكان المناسب له.
أكرر ما ذكرته للتو أن صناع القرار هم المسؤولون أولا وأخيرا عن حال الفرد المتباكي على ضياع القيم منه واكتشاف أن الغرب قد سرقها. هذا الفرد يستقي ثقافته وعلمه من المدرسة والجامعة والجامع، ففي المؤسسات التعليمية التي تديرها الحكومات يتعلم هكذا وفي الجامع يستمع لخطيب الجامع وهو (عموما) يصدح بخطبه بعد أن نالت موافقة السلطات الأمنية في بلده (إن لم تكن قد صاغتها تلك السلطات وأعطتها له ليتلوها كالببغاء). نعم، صناع القرار، ومن وراء الكواليس، هم من ينتجون ذلك الخطاب بإلقاء اللوم على الغرب في تخلفنا وتفتتنا القيمي والأخلاقي (وللمفارقة هؤلاء نفسهم هم من يسرقون شعوبهم ويستثمرون بسرقاتهم في أي بقعة تتاح لهم من أرض "الغرب" "السارق". هم نفسهم من جعل القانون مطاطا ومرنا على مقاساتهم ومقاسات زبانيتهم بالضبط؛ هم من جعل الأرض التي يحكمونها بازار سمسرة؛ هم نفسهم من ضرب القطاع التعليمي؛ هم نفسهم من جعل الفرد يفكر بكيفية تأمين لقمة العيش كي لا يكون له وقت لتفكير يقلقهم؛ هم أنفسهم من جعل أرض العرب مدفنا لنفايات الغرب السامة، هم أنفسهم من اشتروا من جوع ومرض شعوب المنطقة القصور في لندن وباريس وغيرها من عواصم هذا "الغرب"، هم نفسهم من شرّد مفكري وعلماء وكوادر البلدان التي يحكمونها لأن وجود من يفكر ومن يَعْلَم ومن يُعلّم يشكل تهديدا وخطرا على تحصيناتهم ضمن البقعة التي يحكمونها ويسرقونها. الحكومات نفسها هي من ترسي لقواعد السرقة بحيث يصنف السارق "رجل أعمال بارع" "عصامي"... وفي الحقيقة كانوا دوما يريدون أن تكون السرقة نهج حياة حيث يحكمون لأسباب عديدة (لا مجال لتعدادها هنا).
في أجواء تكرس وتبرر السرقة والنهب والكذب، يصبح الفرد محكوما بواقع عليه فيه تدبير أموره كي يعيش وبالتالي سواء شاء أم أبى فقد أصبح جزءا من المسار الغلط وذلك يطفو بأشكال متعددة منها لوم الآخر "الغرب".
كلا، الغرب لم يسلق منك الأخلاق بل هناك من جردك منها وأجبرك على العيش بوسط لا قيم ولا أخلاق فيه؛ بمكان يصبح النفاق فيه تشريعا والأذى عمل خير والسرقة هي ذكاء وشطارة ومهارة... وإن نسيت فإنه يذكرك بأشكال مختلفة أن تفعل كل هذا وتذيله بشتم الغرب الذي سرق أخلاقك وقيمك!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكثر من 50.000 لاجئ قاصر في عداد المفقودين في أوروبا | الأخب


.. مدينة أسترالية يعيش سكانها تحت الأرض!! • فرانس 24 / FRANCE 2




.. نتنياهو يهدد باجتياح رفح حتى لو جرى اتفاق بشأن الرهائن والهد


.. رفعوا لافتة باسم الشهيدة هند.. الطلاب المعتصمون يقتحمون القا




.. لماذا علقت بوركينا فاسو عمل عدة وسائل أجنبية في البلاد؟