الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المناطق الفاصلة بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل استنادا إلى مواقع الكاتب وقرينه.

عبد الله أبويه
طالب باحث من المغرب

(Abdellah Oubouyh)

2021 / 12 / 9
الادب والفن


انطلق الكاتب في حديثه عن انتقال الكتابة عن الذات من التمثيل إلى الاصطناع من المحاكاة والتخييل عند أرسطو، فالمحاكاة عنده لا تقف عند النقل المرآوي للأحداث بل باختراع قصة وتنظيم وقائعها، والتخييل الشعري ننقل فيه الأحداث التي كان عليها أن تقع والتي لم تقع. وبالتالي فالشعر بالنسبة لأرسطو أعمق من التاريخ كون هذا الأخير يقف عند الجزئي، بينما يتغلغل الثاني إلى الكلي.[8] واعتبر الكاتب هاته الثنائية ( التخييل السردي " النثر" والدرامي "الشعر" الدعامات الأولى للأدبية ومعهما انتقلت اللغة من مستوى المألوف التداولي ( التواصل، الحجاج، ومشاغل الحقيقة) إلى المستوى الفني (الخلق والاختراع والممكن).[9] وهذا ما استمرت عليه الشعرية الأدبية بدءا بملارميه مرورا بالشكلانية الروسية وصولا إلى رواد الشعرية المعاصرة، وبالتالي ترسخ الشعرية التخييلانية التي تربط التخييل بالوظيفة الجمالية؛ قدرة اللغة على إعادة تمثيل الواقع بطريقة فنية وجمالية، ومعهما استمرار ثنائية الواقعي والمتخيل واللغتين المتداولة والشعرية.[10]

انطلاقا من هذه الثنائية عمل جون بودريار على محاولة التفريق بين المتخيل والواقعي هذا الأخير الذي أضحي غامضا، على التمييز بين فعلي التمثيل والتصنع، باعتبار الأول ادعاء مكشوف، والثاني ادعاء ملتبس – مرض الشخص بين التمثيل والتصنع – والتمثيل يبحث عن ايجاد علاقة تكافؤ بين اللغة والواقع وان كان طوبويا وضربا من الخيال في حين ينطلق التصنع من قدرة اللغة على إزاحة الواقع وخلق بديل أو نموذج مصطنع يقوم مقامه دون تجاوزه لأنه ليس من تعلته؛ "كان الخيال تعلة الواقع في عالم يهيمن عليه مبدأ الواقعية، أما اليوم فأصبح الواقع هو تعلة النموذج في عالم يحكمه مبدأ التصنع. وبالمفارقة أضحى الواقع طوبانا الحقيقة، ولكنها طوبى ليست من نظام الممكن، وإنما ما يجعلنا نحلم بها بصفتها موضوعا ضائعا."[11] لقد أضحى اليوم من الصعب التمييز بين الواقعي والتخييلي، والحقيقي والمصطنع والمتظاهر والمتصنع، لقد أضحى الواقع مرتبطا بخلقه وتصنعه وإضفاء صورة المعيشي عليه؛ ومثل له ب " ديزني لاند" والذي يدفع بالناس إلى تخييل الواقع وتدوير الأحلام والدفع بالناس إلى الإقدام على التجربة، تجربة استعادة الحياة الطفولية. "إننا نعيش في مجتمع التصنع الذي لا يمت إلى منطق الوقائع ونظام الأسباب بأية صلة، يتميز التصنع بأسبقية النموذج بل جميع النماذج عن أدنى واقعة."[12]

ألاعيب التحقق؛

النظرية التواصلية الكلاسيكية كانت قائمة على ميثاق التحقق ولم يعر طرفا العملية فيها أي اكتراث لألاعيب التحقق ( الكذب/ المغالطة ... ) لكن ومع التطور الذي شهدته العمليات التواصلية ومع غياب القرينة وسند الحقيقة بين الرسالة وعالم الواقع عمل السيميائيون على البحث عن الحقيقة الداخلية للنص، ومعها "إحلال قضيتي الصدق والتحقق محل الحقيقة المطابقة للواقع، وذلك بجعل الحقيقة أثرا للمعنى."[13]

ولأن دور السيميائي هو الانطلاق من الظاهر لكشف الكينونة الفعلية، فكل ظاهر يعرض أمام الملاحظ في العالم الطبيعي يستدعي تقويما تحققيا للتأكد من كينونته، فقد عمل السيميائي جاك فونتاني على وضع مفهوم التخصيص لتجسيد اثني عشر حكما تحققيا[14] ومن خلالها اعتبر الكاتب محمد الداهي أن مختلف العلاقات تبين مدى صعوبة تحديد مفهوم الحقيقة، للمواقع التي تشغلها فهي حمالة معان، ومتقلبة أوجه، ومضطلعة بوظائف متعددة:(الكشف / الخداع/ التصديق/ التزوير...)

صورة الكاتب؛

يشيد القارئ صورة عن الكاتب قبل القراءة وأثناءها وبعدها سعيا إلى تكوين نمط معرفي عن الكاتب الاختباري الذي لا نعرفه. واعتبرت "دوريت كوهن" مفهوم الانفصال مكونا أساسيا للرواية، وهو تصور غير إجرائي على حد قول الكاتب محمد الداهي لأن أحذية الروائيين تلوح من تحت الستا وإن تواروا خلفه،[15] وأن لعبة التخفي تشمل الجنسين الرواية والسيرة الذاتية، فكتاب السيرة الذاتية يستعملون مساحة التخييل لتعتيم وقائع معينة، والروائي يعتمد التخفي من وراء ألسنة السارد والشخصيات للتعبير عن مواقفه.

وفي هذا الصدد اعتبر واين بوت أن ثمة "كاتب مشارك" وهو خلاف الكاتب الأصلي فهو يتبنى الأنا الثانية، ولا يقول كلامه مباشرة ولا يملك صوتا في النص، وهو الذي يتجسد من خلال الأجناس السردية وفي السيرة الذاتية يتجسد من خلال المطابقة الاسمية والسردية والمحكي الذاتي.[16]

اعتبر الكاتب محمد الداهي أن المميز لصورة كاتب السيرة الذاتية عن صورة الروائي؛ "الأول يتعهد بقول الحقيقة وباستعمال ملفوظات جدية، ويخلق مسبقا انطباعا في ذهن القارئ أن ما يتلقاه مطابق للواقع، في حين يعمد الثاني إلى وضع ميثاق تخييلي حتى لا بأخذ كلامه على محمل الجد".[17] ويضيف قائلا أن هذا التمييز يبقى نسبيا للأقنعة التي تتلبس بها الحقيقة ومظاهر التصنع المهيمنة في الوقت الراهن، وبالتالي" فالكاتب حدث خطابي معقد."[18] وأشار الكاتب أيضا إلى انطلق دبروفسكي من هذه ثنائية (اختلاط التخييلي والواقعي) إلى إرساء دعائم كتابة جديدة تواكب ما بعد الحداثة مكتشفا بذلك صورة جديدة للمؤلف، ونمطا خطابيا للسيرة الذاتية [19]مع دفاع فريق آخر عن الهجنة في الكتابة المتأرجحة بين الواقعي والتخييلي، ويرى كاصباريني أن الأعمال التي تتأرجح بين الواقع والخيال تتحرك في فضاء جنسي يجمع بين التخييل والمرجعي وتوجد الرواية في الحد الأقصى للتخييل وفي الحد الاخر المعاكس توجد السيرة الذاتيية وتتخلل الحدين أنواع من المحكيات الذاتية المتأرجحة إلى طرف دون ذاك. وقد أورد كاصباريني بعض ألاعيب التي تربط بين الكاتب والمحكي الذاتي، بين الانفصال والمطابقة، من خلال الهوية الاسمية والهوية التعاقدية أو التخييلية (حتمالية الوقوع) وعمليات أخرى لتحديد الهوية.32
اعتبار الكاتب محمد الداهي أن هاته المنطقة الموسعة الرابطة بين الطرفين التخييلي والمرجعي تجمع أجزاء عدة منها؛ السيرة الذاتية، الحكي الذاتي، التخييل الذاتي، الواقع التخييلي، السيرة الذاتية التخييلية، الرواية السير ذاتية، الرواية الشخصية.[20] وأن السيرة الذاتية تستثمر التخييل بنسب متفاوتة مما تتولد معه أجناس ووصيغ سردية متفاوتة، وأورد أن المنطقة الهجينة الوسطى الجامعة بين التخييلي والمرجعي أطلق عليها أرنو شميث؛ "تخييل الواقع" وهي التي تجمع بين المسعيين السير ذاتي والروائي وأطلق عليها كاسبريني الرواية السير ذاتية.

وخلص إلى كون النقاد قد انتقلوا من الكشف في السير الذاتية عن التطابق والصدق وقابلية التحقق، إلى البحث عن طريقة تمثيل الحقيقة وتشخيصها، وبالتالي الانتقال من خطاب الحقيقة إلى خطاب الجمال الذي كانت الرواية تحتكره.[21]

شساعة القارة المجهولة؛

شساعة الذكريات وكثرتها ومرارتها وزمن حدوثها، تدفع بالإنسان إلى الاستعانة بالآخرين وأحيانا بفعل تداخل ذكرياته وذكريات الاخرين إلى إقحام عناصر جديدة في ذكرياته وهو ما أطلق عليه هوسرل "الاستيهام" مما يولد صعوبة في التمييز بين الواقعي والخيالي والحقيقي والمزيف والجوهري والعرضي والذاتي والجماعي.

السعي نحو مواكبة عصر الشك "ما بعد الحداثة" دفع بالكتابة عن الذات للانتقال من التستر عن البوح والكتابة بأسماء مستعارة إلى مشاركة الحياة الحميمية مع الجميع وأصبحت بالتالي إرثا مشتركا بين الجميع من خلال المزايا التي وفرتها التكنولوجيا وخاصة منها الصورة والتي حلت محل الواقع ودفعت بالدراسات النقدية لإعادة النظر في المطابقة بين الكتابة والوجود. هذه المواكبة دفعت بالسيرة الذاتية لتغيير جلدها، ومعها الإفضاء إلى جنس هجين اصطلح عليه "سيرج ديبروفسكي"؛ التخييل الذاتي، وهي كتابة برزخية يتجادب ويتنازع فيها السير ذاتي والروائي. " عندما تنتابني الرغبة في التذكر، أخلق من جديد" [22] إن مهمة الناقد أصبحت تتمثل في كشف كيفية تشييد الحقيقة السردية، والتي لا تكمن فقط في علاقات التطابق أو اللاتطابق بين القصة والواقع، وإنما تقتضي مراعاة موقف المتلفظ، ورد فعل المتلقي، وطبيعة العلاقة التي تجمعهما.[23]

وانطلاقا من هذا المستجد أشار الكاتب محمد الداهي لكون أن ثمة مواقع عدة تحتاج إلى مزيد من الإضاءة، وهي المواقع التي تتقارب فيها مع السيرة الذاتية في بعض الشروط وينحسر فيها التخييل لارتباطها بمعطيات مرجعية وإحالية، مقترحا أجناس أخرى عمل على وضع تعريفات لها وهي؛ السرد التاريخي والاعترافات واليوميات والسيرة الذاتية والمذكرات ومحكي الحياة.

بالإضافة للقارة المجهولة المتمثلة في صياغة الأحداث وعلاقتها بالتخييل والواقع، فثمة قارة أخرى لا تقل أهمية – حسب قول الكاتب - ويتعلق الأمر بقارة الذات (قارة اللاشعور)، فالمؤلف يتغلغل في هاته الذات – ذاته- ساعيا لاستيعاب امتداداتها الداخلية، إنها على حد قول جيروم كرسان "مسرح حميمي تؤدي فيه الذات دورا على الخشبة مفضية أسرارها الحقيقية والمفترضة، ومستعرضة هندامها على الطريقة الاستعرائية ( شكل من أشكال الجرأة والبوح الشير ذاتيين ) وتعززها الذات أحيانا بما يحيط بالكاتب: صوره حصيلة منجزاته جوائزه المحصل عليها ... فهو يعرض بذلك نفسه داخل فنه وخارجه".[24] وكل ذلك – يعلق الكاتب محمد الداهي - لا يمثل حياته الشخصية إنما مجرد تمثيل لحياتها الحميمية من بين تمثيلات أخرى يمكن أن تقوم بها.[25]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-