الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خمسون سنة حوار ولا ساعة حرب

عبد الحسين شعبان

2021 / 12 / 10
الارهاب, الحرب والسلام


يبدو أن مقولة 50 عام حوار أفضل من ساعة حرب، تنطبق إلى حدود كبيرة على الصراع اللوثري - الكاثوليكي، فمنذ ما يزيد عن خمسة قرون إنطلق الراهب الألماني مارتن لوثر في مهاجمة صكوك الغفران التي كان البابا ليو العاشر يصدرها لمغفرة الخطايا لتكون شفيعاً للمسيحيين الذين يحصلون عليها لدخول الجنّة. وحينها كتب لوثر 95 بنداً مضادّاً لتلك الصكوك، وحاول تعليقها على أبواب كنيسة فيتنبرغ بألمانيا فردّ البابا عليه بإلقاء الحُرم الكنسي، وكان من جرّاء ذلك ولصراعات كاثوليكية - بروتستانتية أخرى أن نشبت حروباً دينيّة وطائفية دامية استمرت عقوداً طويلة من الزمن، إرتُكبت فيها أبشع المجازر، وذهب ضحيّتها ملايين البشر.
وبعد 5 قرون على ذلك الخلاف التاريخي بين الكاثوليكيين واللوثريين تمّ التوصّل إلى اتفاق ينهي الخلاف ويضع حدّاً للنزاع، وذلك في 31 تشرين الأول / أكتوبر 2016 ، حيث نظِّمت صلاة للبابا فرنسيس المتنوّر والمطران المقدسي الشجاع منيب يونان رئيس الإتحاد اللوثري العالمي، إضافة إلى أمينه العام مارتن يونغة، تلاها الإعلان التاريخي الذي وقّعه البابا والمطران. ولعلّ تلك الصلاة المشتركة كانت حدّاً فاصلاً للصراع العبثي الذي استمرّ لقرون من الزمن، وشكّل الإتفاق منعطفاً كبيراً في حياة الكنيستين الكاثوليكية واللوثرية وسجّل تاريخاً جديداً إيجابياً للعلاقة بينهما، حيث تمّ بموجبه إنهاء الصراع المعتّق الإلغائي والإقصائي والتحريمي والتشكيكي.
وهكذا اجتمعت الكنيستان بعد "الإعلان " في ترجمة عملية للإيمان بالمحبّة ومعموديّة القلوب، علماً بأن الحوار بين الكنيستين استغرق 5 عقود من الزمن (نصف قرن)، فقد ابتدأ مع انعقاد مجمّع الفاتيكان 1962 - 1965 وتُوّج بالاتفاق في العام 2016 .
وكنتُ قد سألت الصديق المطران منيب يونان الذي إلتقيته آخر مرّة في مؤتمر "القدس في الوجدان العربي" الذي التأم في عمّان في "مهرجان الأردن للإعلام العربي"، كيف توصّلتم إلى هذا القرار الجريء ووضعتم كل الماضي الدموي التكفيري خلفكم؟ ومن أين استمديتم القوّة لوضع مقاصد المسيحية وروحها أمام جمهرة من الكاثوليكيين واللوثريين المتعصبين؟ فأجاب: لقد وضعنا الخلافات والإختلافات والتي تعود إلى القرون الوسطى وراء ظهورنا، وتركنا أمرها للدراسات الفقهيّة المستفيضة للّاهوتيين من الفريقين ومن يريد أن يدلو بدلوه فيها ، واتّفقنا على أنه بالنعمة وحدها والثقة بالمستقبل يمكن تحقيق ذلك، خصوصاً الإيمان بما يعجّل الخلاص المسيحي، وهو أمر لا يعود لنا فحسب، فقد قبلنا الله وأعطانا الروح القدس الذي يجدّد قلوبنا ويدعونا للأعمال الصالحة... فحياتنا الجديدة مدينة للرحمة والغفران والتجديد، وهي عطيّة نتلقاها بالإيمان، ولا يمكن أن نستحقّها بأي وسيلة أخرى.
وبالعودة إلى إعلان المصالحة الكاثوليكية - اللوثرية، فقد ركّز على ما هو جامع وليس مفرّق، فعظّم تلك الجوامع وقلّص تلك الفوارق، بحثاً عن المشترك الإيماني الديني والإنساني، ومثل هذه النظرة لا تخصّ المسيحيين وحدهم، بل أنها يمكن أن تنسحب على جميع المؤمنين باختلاف أديانهم، فما يجمع المؤمنون، مسيحيون أو مسلمون أو من أتباع ديانات أخرى سماويّة أو غير سماويّة هو واحد يتجسّد في المُثل والقيم الإنسانية التي تمثّل رسالة الأديان وروحانيّاتها. فقد شاءت الإرادة أن يحصل ما حصل، حين التقت الكنيستان الكاثوليكيّة واللوثريّة واتفقتا على رفع جميع الإدانات والتحريمات السابقة التي خطّها تاريخ الإنقسام و التناحر.
وإذا كانت الإنقسامات الدينية والطائفية والإثنية عنيفة وقاسية في الماضي، فإنها لا تقّل عنفاً وقساوةً في التاريخ المعاصر ، فبين بلدين عربيّين يحكمها حزب واحد، ظلّت العلاقات مقطوعة لنحو ربع قرن ، بل إن مجرد إختلافات حدودية أو سياسية كانت تؤدي إلى حروب وقطيعة وكراهية ، واختلفت بكين مع موسكو لدرجة التناحر، بالرغم من منطلقاتهما النظرية الواحدة وادعاء كلّ منهما وصلاً بالماركسية، لكنه لم يتورّع من اللقاء مع "معسكر العدو" وتفضيله اللقاء ﺒ "الصديق المختلف"، وهكذا ينقسم الشيعة والسنّة، لاسيّما من يدّعي تمثيلهم لما يعود إلى أكثر من 1400 عام بسبب الإختلاف على أحقيّة الخلافة وما تبعها من إشكاليات وسرديات ، لا يربطها أحياناً أية روابط مع القيم الدينية والحضارية، ناهيك عن بعض الإنحيازات والتفسيرات والتأويلات التاريخية . وبلا أدنى شك، فثمة عوامل إقليمية ودولية تؤجّجّ نار الصراع وتدفع العديد من البلدان العربية والإسلامية إلى إحترابات ونزاعات أهلية ومحلية، بل وفتن ظاهرة ومستترة أحياناً.
إن دروس التجربة الكاثوليكية - اللوثرية والطمأنينة الإيمانية التي حققتها بنزع فتيل الحرب المستعرة ﻠ 500 عام وما تركته من آثار نفسية على أتباع الطائفتين، ينبغي أن تكون ماثلةً أمام جميع المؤمنين والذين يهمّهم نشر قيم السلام والتسامح والمشترك الإنساني بين البشر، فذلك سؤال الضرورة، فلمّا حانت لحظة الحقيقة وهي لحظة تَسامٍ وتطهّرٍ وروحانيّةٍ، توجّه المطران الشجاع منيب يونان مدفوعاً بضميره وبالمحبة وبرسالة التآخي التي يؤمن بها ليلتقي قداسة البابا بنيدكتوس السادس عشر ليطلعه على وصول الحوار إلى نتائج مثمرة وطيّبة، حيث نضجت ظروف إنجاز إعلان تاريخي من النوع الذي ستحفظه الأجيال، خصوصاً وقد توخّى الوصول إلى المصالحة التي طال انتظارها، وتأكيد وحدة الصف المسيحي في مفصل من مفاصله الصراعية المضنية.
وهكذا ارتقت العلاقة بين الطرفين من "النزاع إلى الشراكة" تعزيزاً لقيم العدالة والسلام وحقوق الإنسان، إضافة إلى الإستفادة من العبر التاريخية بعدم الوقوف عند أخطاء الماضي وتشبّث كل كنيسة بأفضلياتها وزعمها إمتلاك الحقيقة، وتطلّب ذلك الاعتراف بالأخطاء وتجاوزها واستشراف أفق المستقبل وتلمّس ملامحه.
وفي ذلك كما بيّنت خدمة الصلاة المشتركة التي قامت على 3 أركان: أولها - خدمة شكر على أمانة الكنيستين لإنجيل المسيح على حدّ تعبير المطران يونان؛ وثانيها - خدمة توبة وغفران وهي دليل وشاهد على أن الوحدة لا تحجب أخطاء الماضي وتعقيداته وخطيئته، إنما تعترف بها وتتوب عنها، وذلك بمقاربة فكرة العدالة الإنتقالية التي تهدف إلى المصالحة دون نسيان الماضي، خصوصاً بعد كشف الحقيقة وتحديد المسؤولية وجبر الضرر المادي والمعنوي وإصلاح الأنظمة السائدة؛ وثالثها - خدمة التزام، أي تخطي المراحل التاريخية التي شكّلت عبئاً كبيراً في الواقع والذاكرة، وذلك بتأكيد الإلتزام بنمو الشراكة المتجذّرة في المعمودية المقدّسة وتذليل العقبات المتبقية التي تعرقل الطريق نحو الوحدة الكاملة، كما جاء في نص الإعلان المشترك، وهو ما ورد في كتاب الدكتور وليد أنطون الشوملي الموسوم "المطران منيب يونان - رجل الحقيقة والتآخي والإنتماء"، دار الكتب العلمية، بيروت 2021 . جدير بالذكر أن عدد الكاثوليك في العالم يزيد عن مليار و200 مليون، أما عدد اللوثريين فيبلغ نحو 80 مليون إنسان في العالم.
وفي قراءةٍ متأنيةٍ للإعلان نراه ينبذ جميع أشكال الحقد والعنف ويؤكد على أهمية تضميد الجراح وتحقيق الوحدة المسيحية عبر العمل المشترك في إطار القيم الإنسانية المدافعة عن المضّطهدين والمهجّرين ومن أجل السلام والعدالة، كما حثّ مؤمني الكنيستين على البقاء على محبة المسيح غير المتناهية حيال البشرية جمعاء. وبتقديري أن الإعلان جسّد روح التآخي والمحبة والوحدة والإصلاح. وهنا تكمن أهمية الحوار السلمي العقلاني الذي يأخذ المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة ويبحث عن نقاط اللقاء تمسّكاً بأهداب الوحدة والمشتركات الإنسانية.
وهو ما عكسته وثيقة "الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك"، التي وقّعها في أبو ظبي شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيّب وقداسة البابا فرنسيس في 4 شباط/ فبراير 2019 ، والتي اعتُبرت نداءً لكل ضمير حي ينبذ العنف البغيض والتطرف الأعمى، وهي "دعوةً للمصالحة والتآخي بين جميع المؤمنين بالأديان، بل بين المؤمنين وغير المؤمنين، وكل الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة"، كما جاء فيها، بما يعزز مبادئ التسامح والإخاء ويوحّد القلوب ويسمو بالإنسان.
ووجدت جواباً على ما أفكّر فيه حول إمكانية تجاوز ما هو تاريخي وما هو شخصي من حساسيات وعقد وتابوهات لدى المطران يونان، حين أكّد: " أن القدس هي التي علّمتني الحوار ليس بين المسيحيين وحسب، بل مع جميع أتباع الأديان السماوية". وإذا كانت ثمة كلمة تقال بحقه ، فأنه إحدى العلامات الحضارية البارزة في القدس ويشكّل مع سماحة مفتي القدس محمد الحسين ثنائياً نضاليّاً مسيحياً - إسلامياً متآخياً للدفاع عن حقوق المقدسيين وعن حقوق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير، ويعكس تعاونهما وصمودهما مع شخصيّات وازنة أخرى دينية ومدنية من أبرزها المطران عطا الله حنّا رئيس أساقفة سبسطيّة الروم الأرثودوكس عقبة كأداء أمام المخططات المشبوهة لتهويد القدس أو "أسرلتها"، وهو ما كان قد تشبّث به لآخر لحظة في حياته الراحل فيصل الحسيني.
لعلّ حديث الوحدة المسيحية يدفعني إلى التوقف عند الفتنة الطائفية الشيعيّة - السنيّة التي يُراد إيقاظها أو إستفزازها بحيث تتحوّل إلى حالة إحتراب وصراع إقصائي - إلغائي لا حدود له، أفلا يستلهم المعنيون توقيع المصالحة التاريخية بين اللوثريين والكاثوليكيين؟ فقد سبق أن سالت دماء المسيحيين بفرقهم المختلفة ، ففي مجزرة واحدة راح ضحيّتها 35 ألف بروتستانتي فرنسي على يد الكاثوليك المتعصبين في العام 1572 ، ويكفي أن نقول أن حرب المئة عام وبعدها حرب الثلاثين عام انتهت بصلح وستفاليا في العام 1648 بين البروتستانت والكاثوليك، وربما نحتاج إلى وستفاليا إسلامية أو عربية، وتلك فريضة ينبغي أن تضاف إلى الفرائض الدينية، وأقصد بها مصلحة الأمة.
10 كانون الأول / ديسمبر 2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة التونسية تلقي القبض على المعارض لطفي المرايحي بتهمة ت


.. كأس أمم أوروبا: -نهائي مبكر- بين ألمانيا وإسبانيا وموقعة بنك




.. بسبب اللغات.. الإصلاح التعليمي الجديد يثير الجدل في موريتاني


.. قشر البيض : قطاع واعد للاستثمار و منجم لكولاجين البشرة • فرا




.. قمة أستانا: بوتين وجينبينغ ينددان بالأحادية الأمريكية ويدعوا