الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسرحُ دراسة بالجمهور

عباس داخل حبيب
كاتب وناقد

(Abbas Habib)

2021 / 12 / 10
الادب والفن


لأنه فن من فنون القول يُستعمل كأداة إخبارية سمعية ومرئية غرض التواصل مع الآخرين عند الفنانين عبر مشاهد لغوية محصورة في صورة أدبية حيّة مبثوثة في الحوار تعتمد على فن التوصيل المرتبط بالتمثيل وأدوات أخرى مُكمّلة كالموسيقى والديكور والإضاءة والأزياء والماكياج وتكميلية كالإكسسوارات الخ مأخوذة من الواقع الذي يتجلى فيه النص المسرحي كحياة تعبر عن الناس.

لكن أقول سواء كان المرء كاتبا أو إنسانا عاديا لابد له أن يكون مُشاركا فعالا في الحياة أو الكتابة بما تملي عليه الضوابط الإنسانية العامة المعروفة والتي تميزّه كإنسان بشكل خاص حين يُعبّر عن الصورة الأدبية المُتحررة من العصر لمعرفة حدوده الفردية المُسَخـَّرة لخدمة الآخرين بما تحتم عليه هذه المسؤولية قبل غيرها لا لتراجيديةِ المَسْخَرة في طعونها بآخرين.

ورغم (أن الفن لا يُقنن - فن الشعر لأرسطو) بسبب أن الفن ميزة لِتفرُد يُنتَج بمهارة ومتعة وليدة الابتكار ، الخلق ، والإبداع فلا يجوزَ الوقوف على قسر المعنى المُجاز في قوانين صارمة تدّعي الثبات. و "لا شيء ثابت " هي الحقيقة الوحيدة الثابتة عند علماء الاجتماع. لكن هذا العنوان (المسرح دراسة في الجمهور) يعني في ما يعنيه أن شروطا ما معرفية تسعى لِتَعَلـُّمِ شيئا ما يخص المسرح ولابد أن يبدأ من معرفة الجمهور الذي سَيُقدَّم له كُلَّ ذلك. فلا مَعنى لخطبةٍ عصماء في صالة فارغة. غير أن الجمهور عنوان عريض للناس ومصطلح مسرحي واسع إذ كان ثالث اثنين لإتمام العملية التواصلية صعب المراس ، والحصر والتبويب فهو يتسلسل ويتضاعف عبر الزمن بأشكال عديدة ، متنوعة ، مُختلفة ، أحيانا مُختلطة بمُسميات نفسية ، اجتماعية ، دينية ، سياسية وأحيانا فقط فنيّة لكننا نستطيع أن نحدد مساره القصصي وفق هدف الصورة الثقافية المُتحركة التي يتربى عليها جمهور منتظم ومعيّن في عصره لتسهيل تقعيد الحال أو الوصف في النتيجة ضمن ترتيبات الصورة الأدبية المُعبّرة عنه زمنيا باعتباره الركن الثالث المُخاطَب المُستهْدِف للتعليم بعد ركني المُخاطَبة كالمُخاطَب والخِطاب خلال فن التواصل الحي المُباشر الذي نُسميّه المسرح المُشتمل على المُتعة والتعليم. وعودا على بدء ما هو المسرح؟

المسرح misrah في اللغة العربية:

برأيي من (مسرح البصر: مدّه extend – لسان العرب) ومسَرَحَ عمليا مصطلح أقرب للفعل - drama من غيره في المُصطلحات النظرية يشير لكينونة الفعل الدرامي ذهنيا: ويعني ثمة مكان ذهني نستطيع أن نَسْرَحَ فيه ويجعلنا نكتب صورة أدبية متحركة ثرّة مُعبّرة عن الحياة وفي الحياة ولها خلال مشهد لمُمتلكات الإنسان الإدراكية سواء كان مشهدا حسيّا أم عقليّا ساعيا لضرورة معرفة تحديد مساراته واشتغاله وأهدافه ومعطياته بصريا المتمثل في فكرة لها موضوع إشكالي متناقض أثناء تأمل meditate الكاتب في محيط الناس. ولأنه واحد من الناس فأنه قادرٌ على معرفة إنتاج النص الأدبي المسرحي خلال مصادره الفكرية الظاهرة تقنيا: في النظر والسمع كأقوى حاستي لاستقبال المعارف من المُحيط تتكون فيها أشكال مادية مختلفة تسعى لتحقيق مرادفات فكرية في الأذهان عادة مُشتقة منها ربما يُثارُ حولها خلافات مثلما تُثير انحلالها المبادرات. ومن الأشكال ومرادفاتها الفكرية جاءت كُل الفنون السمعية والمرئية التي تطورت إلى مسرح وإذاعة وتلفزيون لتبادر بإخبارنا بمشاكل ربما مُستعصية متضمنة أثنائها حلول ومُعالجات. وفي القرآن الكريم إشارة كونية لهذه المُعطيات التكوينية كما في الآية الكريمة (وجعلَ لكُم السمعَ والأبصارَ والأفئدةَ قليلا ما تشكرون. آية 23 سورة المُلك) (قليلا قياسا بهذه النعم – تفسير الطبري)

المسرح theater في اللغة الإنكليزية:

يعني مكان لعرض المسرحية. والمسرحية play نص مكتوب يشتمل على لـَعِب أدائي مرئي (المسرح الصامت) أو مسموع (المسرح الناطق) تتناوب فيه الأدوار بين قيمِ الشخصياتِ الحاملةِ للأفكار التي يحكمها صراع وفق حبكة بعناصر تبدأ من مُشكلة تتطور لِعُقدة وأزمة فالذروة ومن ثُم المعالجة والانفراج معيارا للحل. ومجمل الأبحاث والدراسات النقدية قدمت المسرحية على أنها متكونة من صنفين أدبيين سعت إليهما النظرية الأدبية: المأساة tragedy والملهاة comedy وأضِيفَ لها لاحقا صنفا آخرا من مِزوجِهما يُسمى المأساة الملهاوية melodrama.
وقال النُقّاد أن المسرحيةَ عِلمْ لأنه يخضع لأساليب البحث العلمي حيث كان مثارا لأسئلة نقدية لاقت أجوبة علمية صائبة حول تكوين النص ومصادره المرتبطة بتاريخ الفن وعلم الجمال. وقالوا أدب لأنه يرتبط بالنص وكتابته سواء كان وفق طرائق تقنية مرتبطة بأهداف جمالية أو أخلاقية. وقالوا فن لارتباطه بمجمل فنون من شعر وموسيقى ورسم وإضاءة وديكور وماكياج وأزياء الخ. وقيل المسرح تزاوج الأدب بالفن. وأقول أن الكتابة للمسرح تعتمدُ على فهمِ الظاهرة المسرحية على أساس انفصال المعطيات الوظيفية بين مُعطى تأليف مُشترك ومأخوذ الإخراج واستقلالها على أساس التناوب وفق تحديد ماهية المنصة في الوجود على النص لتحقيق واقع عملي في النص قبل الصعود على الخشبة حيث أن لكلِّ نص توجد منصة داخلية محبوكة ونسيج الحوار يغفل عنها أغلب كتّاب الدراما الراغبون في التجديد اليوم ، وغدا إذا لم يتنبهوا لهذا الانفصال أثناء انبثاق كتابة النص تحت حركة واسعة مُستنهضة من العصف الفكري للكاتب وهو يستحضر جلسات الإخراج قبلا لتحقيق العملية الثقافية وفق منظار تطورها المُستقبلي ضمن الحوار والتي ستظهر على شكل توقعات أو تخمينات حسنة بعيدة عن فوازير (حزورات) مصائر الشخصيات.

ما الدراسة؟

الدراسة بالمعنى اللغوي هي (الحفظ مِنَ الفعل الثـُلاثي دَرَسَ: حَفظَ ، والدرس: المحو ومعناه الحفظ – لسان العرب) أي انتقال المعلومات إلى الذهن. وقال العرب: الرياح تدرس آثار البعير على الرمال. أي تحولـِها من الوجود المادي إلى الوجود الذهني في الذاكرة. والدراسات النقدية مجموعة من الأبحاث تُقَدَّمُ لتقرير أنساق حقيقية ما وفق سياقات أدبية أو علمية. والدراسة في سياق هذا المقال تحليل معرفي تام للحياة عن الناس الذين يرتادون المسرح يُشترط أن يكونوا ضمن عصر تقديم العرض المسرحي الحامل للصورة الأدبية المُتحركة نحوهم مُباشرة وبشكلٍ حي كما هو مشروط. لذا دائما وجوب إثارة أسئلة أثناء كتابة النص مثل: مَنْ هُم رواد هذه المسرحية؟ هل هم أطفال أم شيوخ؟ طلاب أم عمّال؟ سجناء ، قادة عسكريين؟ أم هم خليط غير متجانس من هذا كُله سواء كانوا رجالا أو نساء؟ ولا يعني تحقيق ذلك يُقدم فهما كاملا للمطلوب من مفردة "دراسة" من دون الذهاب إلى أبعد من ذلك خلال أسئلة جديدة تُثار حول المشاعر التي توحد ناس محتشدين لمشاهدة العرض مثلا: ما هي الأهداف الموحدة للمجيء للمسرح مع ناس لا نعرفهم ونتوحد في قاعة أو شارع ونتشارك في الرؤية والاستماع؟ هل هي للتباهي الثقافي أم رغبة حقيقية للشعور بأهمية التعلم عن طريق المطروحات المسرحية أم للفرجة والترويح عن النفس من مشاغل الحياة اليومية العملية المليئة بالتعب والروتين.

الجمهور سواء كان يتكونُ من نبلاءِ ، ملوكِ أو أناسٍ عاديين يمثلوننا في النص قبل كُل شيء لابد معرفة العصر الذي نحن سالكيه لأن العصر مؤثر مُباشر على مصائر الناس واقعيا قبل أن تُوَجَّه هذه المصائر ضمن نهايات سعيدة أو مُفجعة كمعلومات تُساعدنا في تطوير الحبكة لِعُقدة في النص. وعلاوة على ذلك أن معرفة العصر تعني معرفة المؤثرات الحقيقية على سمات الفترة التكوينية المُشكـِّلة لإيقاع أفعالنا ومناخه التي معرفته تُساعدنا على حل المعضلات المصيرية فنيا بسهولة أو تقديم معالجات تضعُ مَشاكل العصر أمام الحل أو توجيهها فنيا إليها على أقل تقدير. فالعصر ليس مُدة زمنية مُحددة بلحظة ، ساعة ، أو سنة بل هي تطول وتقصر حسب السمات النوعية المكونة لشروطه المحسوسة والمعقولة خلال تجارب الناس الفذّة والفريدة في الدفاع عن أنفسهم أمام التحديات والتهديدات التي لا نستشعر فيها إلا إذا صَنعت لنا أفعالها دراما الحياة. والدراما كينونة الفعل الذي يتشكل عبره نسيج من المُتناقضات المؤدية إلى مُشكلة تجعل الكاتب يبدأ مسؤوليته الإنسانية بوضع خرائط للحلول والمعالجات المفيدة سواء كانت مفيدة لتغذيات راجعة من الجمهور لتحقيق تفاعل نقدي منشود أو بتقديم اختبارات مُستقبلية لنماذج مطروحة كاستفتاءات مُسبقة مُثيرة للإعجاب والأذكى من ذلك هو بلوغ الكاتب حساسية خاصة إزاء الأحداث لتغيير مسار الحبكة حسب آراءه التي تتطلع في المُستقبل وتبصر سفينة النجاة والتي نفتقدها في النصوص العربية وقلما نجدها في النصوص بسبب التقيد في التقاليد.

ولأننا نبالغ في الحُرية المزمعة لكتابة الصورة الأدبية المُعبّرة عن الناس خارج القوانين نجد بجانبها شروطا رغم أنها غير تعسفية لتناسبها والبنيات التكوينية للمسرح لكنها تتصاعد كشروط مرتبطة ارتباطا وثيقا ونيّة الكتابة لجمهور حي. فالمسرحية لابدَّ أن يُراعى فيها شروط تقديم حياة مُعْتمِدة تقنيا على التمثيل لا السرد. ولأن المسارح التي تقدم المسرحية بطابعها السرمدي محمول الحوار متنوعة عبر العصور ومن أجل جمهور يتحرك في العصر كان لِكُلِّ مسرح منها مفاهيم عامة عصرية تختلف عن العصر الآخر تُؤثر على تكوينه في النص من حيث إعدادات العرض والذي ينبري عادة وفق فهم فكري خاص بالجمهور تقعُ مسؤوليةُ دراستهِ على الكاتب كمؤلفٍ أولِ للنص أو المخرج كمؤلف ثانٍ للعرض خلال التفاعلات الطبيعية والمحيط وانتقالاتها عبر خيال الفنان وانفعاله فتتجلى أفعاله على شكلِ صور من المتغيرات لشكلِ القاعة والديكور وحركات الممثلين وكذلك يترتب على ذلك تغيرات عديدة في مكملات العرض الأخرى كالإنارة والموسيقى والأزياء والماكياج.

ما الجمهور؟

هم مجموعة من الناس يحتشدون في قاعة أو ساحة ، شارع أو رصيف يتلقّون فيه خطابا مسرحيا مُعيّنا تنقله صورة أدبية مُتحركة عبر العرض. وللجمهور أنواع مشروطة نقديا تُدرج حسب ترتيب العصور وحسب الفهم الفكري للصورة الأدبية المُقدَّمة فنيا على المسرح والمطروحة كمواضيع ربما من وجهة نظر علم الاجتماع أو علم النفس أو الدين والسياسة الخ مثلا:

1. عند اليونان: كان العصرُ المسرحيُ (قدريا) حسب السِّمة التي تتحكم فيها الآلهة بالناس الذين يحضرون كجمهور غفير آنذاك لمسارح كبيرة عبارة عن ملاعب ضخمة لتقديم روايات يعرفونها على أنها حكايات أسطورية لكنهم يحتشدون لتلبيةِ مهرجانٍ سنوي كبير يليق بالآلهة يحضره الناس ليروا الأفعال الأدبية لها بصورة متحركة فنيا بطريقة المُشاهدة للعرض لا ليسمعون روي أو حكي سردي لقصص موجودة في ملاحم هوميروس فحسب. أنّ الجانب العملي أهم ما يميز النص الأدبي المكتوب حيث فيه الدراما مُشبعة بالحوارات القابلة للتقمص والأداء التمثيلي لا بالسرد كما أسلفت. كما في مسرحية "أوديب" ملكا (لسوفوكليس 496 ق.م 405 ق.م أثينا)
2. عند الرومان: كان العصرُ المسرحيُ (بطوليا) مُتأثرا بروح المُناصرة للفروسية والقوة نتيجة المعارك العديدة والانتصارات التي خاضها الرومان ضد اليونانيين ينسجمُ وسمات نَزعة رياضية تميل للعنف والحركات البهلوانية تنمُّ فيها الصورة الأدبية المُتحركة عن الميل للمُصارعين أكثر مما تميل لتقديم مُمثلين كما في مسرحية "هرقل" (لسينيكا 4 ق.م أسبانيا – 65م في روما)
3. في العصور الوسطى من القرن الخامس الميلادي إلى الخامس عشر منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية وبداية النهضة كانت تتمثل هذه الفترة الطويلة بِسِمة دينية واحدة أفرزت عصرا مسرحيا (مُتدينا) يلتفُّ حوله الجمهور ، عَبَّرتْ فيه الصورة الأدبية عن معتقدات توحيدية جديدة كنسية لم تكن في العصر اليوناني الوثني القديم. إنَّ الجمهور هُنا يأتي في هذه الحقبة من الزمن للمسارح داخل الكنيسة ليرى الروايات المأخوذة من أدبيات الإنجيل التي تصوّر آلام المسيح المأساوية أو السخرية من همزات الشياطين الكوميدية. كما في مسرحية الآلام لـ "سانت ريتولد 915 – 975 انكلترا" راهب وينشيستر كانت عن عيد الفصح ترجع للقرن الحادي عشر ثُم تطورت بعض العروض خارج الكنيسة لكثرة نظارة المُتلقين ثمّ استحدثت في إيطاليا بعد هذه الحقبة مُباشرة القاعات المعهودة لتضييق المساحة التعليمة للجمهور وتحجيم الأفكار وحصرها في مُتعة رومانسية تشوبها العواطف الساخنة ويسودها التلقين وسُميّت المسارح التقليدية ليومنا هذا (بالعُلبة الإيطالية) وأسهل وصف للعُلبة هو مربع ناقص ضلع (طبعا عندما يُرفع الستار) وانتشرت في كُل من فرنسا وانكلترا ثم سادت في العالم أجمع فيما بعد وبقيت ليومنا هذا.

4. في عصر النهضة كان العصر المسرحي يميل لنزعةٍ (فرديةٍ) للجمهور حسب الصورة الأدبية المُشبّعة بأفكار ناس يؤمنون بروح شخصية مثلما نادت فيها أفكار (مكيافلي 1469 - 1527 إيطاليا) فساد توظيف الخداع والمَكر والازدواجية في الأداء السياسي في عروض تُظهر الانتهاكات الشخصية تنمو وصراعات عديدة تعزز نزعة المرء التسلطية عبر سلسلة من الجرائم والاغتيالات كما عبّرت عنها أعمال (شكسبير 1564 - 1616 انكلترا) بأدق تصوير مثل مسرحية "هاملت".

5. في القرن الثامن عشر كان العصر يتغنى في التنوير ويضع مشاكله على الماضي المُظلم للشخصيات كما صوره (شللر 1759 – 1805 ألمانيا) في مسرحية اللصوص.


6. في العصر الحديث: في نهاية القرن التاسع عشر كان العصرُ المسرحي (اشتراكيا) حسب الصورة الأدبية المُتحركة التي تصف الصراع الرأسمالي - الاشتراكي الجديد الذي ساد نصوص (برخت 1898 – 1956 ألمانيا) مثل الإنسانة الطيبة من "ستزوان". كما تمردت أغلب المسارح على العلبة الإيطالية في هذا المضمار واختاروا العروض أن تكون في المرافئ وتحت ضوء الشمس بدلا من إيهام الإنارة في مسارح المحاكاة الطبيعية وأول مَنْ نحى خلاف التقليد النحوي القديم هو "برخت" ومن ثم ألـْهَم بعده الكثير.

7. المسارح المعاصرة: في بداية القرن العشرين كانت مُحتجّةً وغاضبةً وسمةُ العصرِ المسرحي فيها (التمردَ) نتيجةَ القيمِ البالية التي ولـدتّها الحربان العالميتان حسب الصورة الأدبية المُتحركة ثوريا باتجاه عدم الاهتمام بالقاعة والتي مثلتها بادئ ذي بدء موهبة "برخت" الفذّة في أول الأمر عندما ذهب وممثليه للمرافئ ثمّ المعامل لِمُخاطبة العمال إيمانا منه بأن الذهاب للجماهير يزيدُ من حدة التأثير الفكري الإيجابي في إحداث التغيير أكثر مما هم يأتون للمسارح كمتفرجين. ولجأ المخرج "كروتوفسكي 1933- 1999" في "بولندا" للتأثير على الجمهور بتقنيات عديدة للممثل أطلق عليها تقنيات المسرح الفقير. واهتم المُخرج "أروين بسكاتور 1893- 1966 المانيا" في الخطاب السياسي للاحتجاج واستعمال الشاشات التلفزيونية لتحريض الناس واستعمل "بيتر فايس 1916 – 1982 ألمانيا" الوثيقة والجرائد والصحف ووظفها في الأزياء لإعطاء أهمية مكانية للوثيقة على أجساد الممثلين لزيادة الوعي بالتحريض والغضب بدلا من الاهتمام بالقاعة. كذلك جرّبت مسارح العبث واللامعقول مخاطبة الناس خلال الشعور بالعبث أو اللاجدوى من الحياة كرد فعل سلبي اتجاه حياة تجلب الويلات بالحروب فقدموا عروضهم للسجناء ، الشريحة المحصورة خلف قضبان تزيدهم بسهولة الشعور بوطأة عناء قيود الحياة مثل مسرحية في انتظار "كودو" (لصموئيل بيكت 1906 – 1989 فرنسا). وكذلك ظهرت تجارب طقسية جديدة (لبيتر بروك 1925 – بريطانيا) وتجارب القسوة (لإنتونين آرتو 1896 – 1896 فرنسا) أضافت ظلالا شعوريا في فهم الإدهاش عبر الصدمة يتخللها بخور ودخان وستائر تحجب الممثلين عن الجمهور ليثبت بأنهم فقط سلبيين متلصصين.

8. وبعد هذه المسيرة الطويلة للمسرح ظهر وجها جديدا للفكر المسرحي في سبعينات القرن المنصرم فأعلن عن وجهٍ يُبشر بعصرٍ (تجاريٍ) غير مهادنٍ لمناصرة مصالح العمل حسب الصورة التي جاءت فيها نصوص (توم ستوبارد 1937 – جيكيا) مثل "مسرحية سلام منفرد" في انكلترا و (أوزبرون 1929 – 1094 انكلترا) لإعادة الأمل في الحياة للنضارة بعد كتابة مسرحية "اسمها انظر وراءك بغضب" وابدأ حياة تنشغل فيها بالعمل سواء في العلبة الإيطالية أو غيرها حيث أنعش العصر الحديث المسارح بالتكنولوجية المتطورة والعروض الجديدة المتحركة على سجاجيد متحركة وأضواء خلابة وفي مسارح الشارع انتعشت التعبيرية بتقنيات فريدة الأداء وحركات الممثلين في الأوبرا والمسارح الموسيقية التي هي غالبا تجارية تحول المسرح فيها لجولة تراثية لمكان يرتاده السياح.


9. ويبقى السؤال الجوهري في القرن الواحد والعشرين ونحن في البواكير ما هو العصر المسرحي الذي نحن سالكيه وما هي الصورة الأدبية التي نراها متحركة فينا وتعبّر عنّا ونستطيع أن نقدم دراسة خلالها لجمهور هذه الفترة الزمنية التي نعيش ونمثل فيها صور الحياة الأدبية المُتحركة التي نحتاج فيها إيجاد الحلول الإنسانية اليسيرة لمشاكلها وهي تمثلنا أشد تمثيل قتل وتعنيف وتهديد ، مرض وجوع وحرمان ، جهل وكسل عن التعلم والتعليم. وأثناء ذلك كُلّه إلى أين يصل المسرح الآن وهو يواجه مسيرة كبيرة مُعكّرة نتيجة التطوير والتحسينات لأجهزة الاتصالات الجماهيرية الحديثة المتعددة عبر الأدوات الإلكترونية للتواصل الاجتماعي المتنوعة والتي نجد فيها الجماهير أنفسهم يقودون العملية الأدبية والفنية تارة مؤلفين ومخرجين وممثلين ونقاد في آن كما في العصر المسرحي المتماشي مع أفاق ينشدها الـ (فيسبوك) والـ (يوتوب) من دون أن يقول لهم قائل أن هذا خارج الشروط المسرحية أو داخلها.

في أجهزة التواصل العديدة الحديثة الآن ثمة غياب للمسؤولية في التعبير عن الرأي ولقد سمحت هذه الأدوات للناس جميعا في التعبير عن مشاعرها وآرائها بالتساوي من دون ضابط أو استثناء كما هو معروف لكن ثمة أعمال استثنائية أخرى قد سجل فيها بعض الناس رصيدا حسنا أيضا في بعضه أثناء إنشاء مسارح تفاعلية جديدة همّها إنقاذ الناس عمليا من براثن مشوهات الأفعال بالأعمال.

وخلاصة القول أن الناس هم محتوى المنصة وخامة مسرحية لم يشتغل عليها الكتّاب بشكل عام على أساس أنه شكل دائم التغيير يؤثر على الأفكار داخل المنظومة الخطابية للنص التي تؤثر على شكل الكتابة الذي سيؤثر فيما بعد على شكل العرض لوصف حال توقعي للمستقبل ينبع من صميم إيقاع العرض غير مُقرر بعد يحتاج لمُساهمة فاعلة من الجمهور.
وفي الختام: أنصتوا لإيقاع العصر وإن كان نشازا مُشبع بالكسل لا تصمّوا آذانكم عنه فالضجيج عادة يحمل بين طياته فجوات يتركها لاستيعاب طمأنينة العمل بهدوء. والمسرحية عمل علينا عمله قبل كُل شيء لأنها تكتب من أجل أناس مُشاركين مكتوبة ونية التفكير بالعمل المرتبطة بتحويل الخطاب لممارسة تنقذ النص من براثن التنظير الذي يُذكرنا بالفنون الخشنة التي يقدمها الشطار والعيارين غير الفاعلة وغير المطورة حياتنا منذ تنابلة هارون الرشيد. (وقلِ اعملُوا فسيرى الله عملكم ورسوُلُه والمؤمنين. آية 105 سورة التوبة – قُرآن كريم)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة