الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرية الأدب والزمن

محمد علي سليمان
قاص وباحث من سوريا

2021 / 12 / 11
الادب والفن


ربط شليغل الرومانسية بما هو تقدمي، واعتبرها النقاد ثورة أدبية، وعرف فيكتور هيجو الرومانسية " بأنها الثورة الفرنسية وقد تحققت في الأدب "، بل أن هيجو كتب عام 1864 أن " الرومانسية والاشتراكية أمر واحد ". ذلك أن الرومانسية كانت التعبير الأدبي عن المجتمع الذي أوجدته الثورة الفرنسية. الرومانسيون أبناء الثورة الفرنسية، فقد انتصروا للحرية، حرية الفرد وحرية المجتمع، كما اهتموا بالتقدم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية، ذلك أن الرومانسية أزاحت العمل على التحرر الأدبي من القواعد الكلاسيكية إلى التحرر الاجتماعي من الاستعمار والاستبداد وتمجيد الطابع القومي. لكنهم بعد انحراف " الثورة " عن طريقها الإنساني أصبح الرومانسيون ضعيفي الأمل بالثورة، وعادوا بعد فشلها إلى داخل ذواتهم، وحل القلب العاطفي محل القلب الاجتماعي. ولقد اتصفت الرومانسية، حسب النقاد، بالخيال بالنسبة إلى الأدب، والطبيعة بالنسبة إلى العالم، والرمز والأسطورة بالنسبة إلى الأسلوب الأدبي. وحاول الرومانسيون التوفيق بين الإنسان والطبيعة، والذات والموضوع. ولقد كان الرومانسيون الكبار نشطاء سياسياً لأنهم أدركوا، كما يقول أنغلتون " أن ثمة تواصلاً لا صراعاً بين التزاماتهم الأدبية والاجتماعية "، وضمت في صفوفها اليسار والوسط واليمين، كما ضمت المعتدل والمتطرف سياسياً.
لم تكن عودة الرومانسيين إلى الطبيعة إلا هروباً من الظلم في المجتمع، ولأنهم ارتبطوا بالثورة الفرنسية فقد تبنوا أيضاً الحرية والأخوة والمساواة، وقد حاولوا إلغاء سيطرة طبقة النبلاء ودعموا البورجوازية عندما كانت تتكلم باسم المجتمع، وارتبطوا مع الذين كان يمارس عليهم الاضطهاد والضرب والسحق حسب فيكتور هيجو، وظهرت الرومانسية كحركة واعية لذاتها، وشكلت الجوانب الرومانسية عظمة الفن والأدب في مرحلة الثورة، وفي تلك المرحلة ظهرت الرغبة في معانقة المستحيل (النهم للحياة، فاوست ودون جوان وأبطال بلزاك وستندال ونيرون). ولكنهم بعد أن خانت البورجوازية المبادئ التي قامت عليها، وانحرفت الثورة عن مسارها الإنساني انكمش الرومانسيون في داخل ذواتهم، وظهر التشاؤم في أدبهم بعد انهيار الأحلام، وأخذوا يعبرون عن الفرد المضطهد من قبل المجتمع. وقد قال ألفرد دي فيني على لسان شخصية من شخصياته " إن الفرد قلما يخطئ، ولكن النظام الاجتماعي هو المخطئ دائماً " ولذلك راح الرومانسيون يبكون على الفرد الضائع في المجتمع الظالم. إن الرومانسية هي التي أنتجت الفنان المغترب.
لقد تكلمت، كمثال، عن " الرومانسية التي قالت بالقلب والعاطفة " التي حلت محل " الكلاسيكية التي قالت بالفكر والعقل "، فقد أحلت الرومانسية القلب محل العقل. ويمكن الإشارة إلى قول غوته، وهو الذي كتب " آلام فرتر " يوماً، حين تراجع عن الرومانسية مع صديقه شيلر " أدعو الكلاسيكي سليماً والرومانسي مريضاً "، ويبدو أن الزمن لم يترك من " الرومانسية " غير المرض. لقد قالت الرومانسية بالقلب الاجتماعي ولم تهمل القلب العاطفي عندما كانت تعبر عن الثورة، وقالت بالقلب العاطفي دون إهمال القلب الاجتماعي بعد انهيار الثورة، لكن الزمن أبعد القلب الاجتماعي وترك القلب العاطفي وحده للدلالة على ثورة أدبية اجتماعية. ومما ساعد على إهمال الرومانسية سيطرة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي ودول العالم الاشتراكي وفرضت نظرية " الواقعية الاشتراكية " التي لم تتجاهل النظريات الأدبية السابقة ولكنها عدتها أيضاً مرضاً _ نظريات بورجوازية يجب إهمالها أدبياً، أو في أحسن الأحوال تم الاهتمام بالنظرية الرومانسية كملحق بعيد للواقعية الاشتراكية.
عبر الزمن سيطرت نظريتان أدبيتان: نظرية مطابقة الطبيعة، الأسلوب الواقعي، والنظرية الهندسية، الأسلوب الشكلي. وهاتان النظريتان كانتا تعودان دائماً، عبر الزمن، بثوب جديد حسب العصر _القوى الاجتماعية التي تحتاج إلى نظرية تخدم مصالحها الاجتماعية، الذي يكسوهما بمدى تقدمه اجتماعياً وفكرياً. إن نظرية " الواقعية الاشتراكية " بالشكل الذي ظهرت عليه في العالم الشيوعي انهارت مع انهيار ذلك العالم، كما انهارت " الرومانسية " مع انهيار العالم الذي عبرت عنه، ومثلهما " الكلاسيكية "، ولقد أخذ المفكرون يبحثون تاريخياً عن الواقعية الحقيقية التي تنطلق من الصدق مع الواقع، ويبحثون أيضاً عن الرومانسية الحقيقية بعد أن وجدوا فيها جذور الأدب والنقد الحديث. وهذا يؤكد، مرة أخرى، أن النظريات الأدبية ترتبط بالزمن عبر ارتباطها بالقوى الاجتماعية المهيمنة أو المسيطرة حسب حاجة هذه القوى الاجتماعية إلى ما يخدم أهدافها السياسية والأيديولوجية، وقد تعود نظرية أدبية أنتجت في زمن مرحلة اجتماعية قديمة بثوب فكري جديد في مرحلة اجتماعية أخرى مختلفة اجتماعياً بما يخدم أهداف تلك القوى الاجتماعية الجديدة، لكن وكما يقول أرنولد هاوزر " لا ينبغي أبداً، في تاريخ الفن، أن تؤدي نفس الأسباب إلى إحداث نفس النتائج ".
ومن الكتاب والمفكرين من يعرف متى تنتهي نظرية أدبية وتبدأ نظرية أدبية أخرى، يعرف ذلك من مراقبة المجتمع، وعند مرحلة معينة، كما يقول ماركس: " يصل الناس في النهاية إلى ضرورة الالتفات بعيون صاحية إلى وضعهم الحياتي وإلى علاقاتهم المتبادلة ". وبما أن الفن هو تعبير عن المجتمع، وعندما تظهر الرومانتيكية عاجزة عن دعم وجهة نظر الكاتب فإنه يبحث عن الأسباب في الأوضاع الاجتماعية وليس في الذات الشخصية، في الدوافع الاجتماعية وليس في الأفكار. فقد عرف بلزاك أنه مع صعود الطبقة البورجوازية فإن هناك أدباً آخر يجب أن يظهر، صحيح أنه كان هناك وقت يقول فيه شليغل " الشعر الرومانتيكي وحده، كالملحمة، يمكن أن يكون مرآة كل العالم المحيط وانعكاساً للعصر "، ولكن كان على بلزاك أن يختار طريقاً آخر: فقد رأى أنه في زماننا كل شيء يناقش وينتقد، وأن رجل الدين لم يعد يصدق، مثله مثل الشاعر، وأنه لم يبق شيء يستحق الاهتمام إلا هذا المرض الاجتماعي الخطير الذي يمكن أن يصور من خلال تصوير المجتمع. ذلك أن المجتمع يكون الأفراد طبقاً للأوضاع الاجتماعية التي يعملون فيها، وطبقاً لأنماط المجتمع. وهذا ما توصل إليه أيضاً بوشكين: لقد حاول بوشكين أن يرسم شخصية " بوريس غودينوف "، ولذلك لجأ إلى شخصيته، أن يعبر من خلالها عن شخصيته الذاتية، ولكن النتيجة لم تعجبه أن الشخصية قريبة من رومانتيكية بيرون، وهذه الطريقة الرومانتيكية لم تعد تتناسب مع العصر، فالأدب عليه أن يتجاوز الذات الشخصية إلى الذات الاجتماعية، ولأنه كان معجباً بشكسبير، ولذلك أعاد كتابة الشخصية على ضوء شكسبير الذي كان يركب شخصياته على الذات الاجتماعية، وكان في غاية الرضى عن عمله الأدبي. كما أدرك سرفانتس أن عصر الرومانتيكية انتهى، وكان أن أجهز عليها بالسخرية عبر رواية " دون كيشوت " وبطله الرومانسي الحالم بعصر الفروسية. إن هؤلاء الكتاب يبتعدون عن التقليد لأنهم عرفوا واقع وطنهم وعرفوا ملامح عصرهم.
كثير من الفلاسفة والمفكرين يظهرون التاريخ كدورات تتمرحل بطريقة أو بأخرى، وأهمها ربطها بمراحل الحياة الإنسانية، بل أن بعضهم يقول إن الحضارات الجديدة تنسخ الحضارات القديمة، وأنه يمكن معرفة ما سوف يحدث في الحضارات الحديثة مما حدث في الحضارة القديمة: بحيث أن الأحداث من كل طور في الحضارة القديمة بما يقابله من الطور الموازي له من الحضارة الحديثة، وعلى كل حال فإن النظريات الأدبية تستعاد من الزمن الضائع، وتدخل في الزمن الحديث عبر أشكال مختلفة، وتسميات مختلفة، مع تطويرها لتناسب إنجازات العصر الحديث اللغوية والأدبية والفكرية وحتى الأيديولوجية: المدارس الحديثة إذن تقدم خمرة قديمة في قوارير جديدة.
ولا بد من القول، بشكل عام، إن اهتمامنا بالمذاهب الأدبية في العالم العربي كان استهلاكياً، فهذه المذاهب لم تؤخذ لحاجة أدبية _ اجتماعية عميقة بل لحاجات سطحية استهلاكية على مستوى الأدب، حتى أننا لم نأخذ من الرومانسية ثورتها، ربما يجب أن نستثني كتاباً مثل جبران خليل جبران، بل أخذنا الحزن والدموع، لم نأخذ العقل الاجتماعي، بل حتى لم نأخذ القلب الاجتماعي بل أخذنا القلب العاطفي، ولذلك أصحت الرومانسية المعادل الموضوعي للدموع والبكاء، وخير من يعبر عن هذا الاتجاه الرومانسي هو أدب مصطفى لطفي المنفلوطي.
ويمكن القول إن العالم العربي كان في تعامله مع النظريات الأدبية كان عالة على الثقافة الأدبية العالمية، فهو حصر نفسه، بسبب تخلف المجتمع العربي الثقافي وعدم تطوير تراثه الثقافي والفكري بحيث ينتج نظريات أدبية أو فكرية، وكل نظرية أدبية لا بد أن تدعمها نظرية فكرية، تنسجم مع العصر، ولكونه يريد أن يتواصل مع العصر ثقافياً كما تعامل معه تكنولوجياً بدأ يهتم بترجمة النظريات الأدبية الحديثة. ولكن الإشكالية أن تلك الترجمة بدت وكأنها استيراد مثل استراد أي شيء آخر، فهي لم تتجذر في الساحة الثقافية العربية، خاصة وأن تخلف المجتمع العربي في كافة مجالات البنية الاجتماعية جعل المثقف العربي لا يملك من الرأسمال الثقافي إلا ما يمكن استيراده من الغرب الحديث، وهكذا بدأت تظهر النظريات الأدبية الحديثة متلاحقة، وكأنها تصارع الزمن، وهكذا وجد المثقف العربي نفسه ما أن يستورد نظرية أدبية، رغم أنه يستوردها بعد نهايتها في مصدرها الثقافي الغربي، فإنه يضطر بعد زمن قصير ليركنها جانباً لأن هناك نظرية أدبية أخرى عليه أن يترجمها، وهكذا توالت النظريات الأدبية: الرمزية، التعبيرية، الدادائية، السريالية، البنيوية، والتفكيكية، دون أن يتمكن من تحويل إحدى النظريات الأدبية وتجذيرها في الساحة الثقافية كنظرية نقدية عربية. وهكذا فإن النظريات الأدبية في العالم الغربي التي نضجت على نار الزمن الهادئة، بحيث تجذرت في بنيتها الثقافية، والزمن هو الذي أنهى تلك النظريات الأدبية مع التقدم الفكري والعلمي، هو الزمن الذي أحرق النظريات الأدبية المستوردة عربياً بحيث أدخل المجتمع العربي في فوضى ثقافية وفكرية، تحولت إلى فوضى اجتماعية. وبذلك لم يتحول التواصل الثقافي مع الغرب إلى علاقة جدلية تنتج ثقافة عربية أصيلة تنطلق من واقع العرب الاجتماعي والحضاري، بل أنتج تبعية ثقافية ظلت خارج الزمن العربي. إن المثقف العربي الذي استورد الحداثة الغربية، ثم استورد ما بعد الحداثة دون أن يتمكن من تحقيق حداثته العربية التي بدأت مع الطهطاوي كثقافة يمكن أن تتطور إلى ثقافة عربية أصيلة، لكن الأوضاع الاجتماعية المتخلفة بسبب الاستعمار والسلطات الحاكمة المستبدة التي لم تشجع الثقافة بأي شكل من الأشكال، ربما ما عدا ثقافة الدعاية وتجميل الواقع السياسي الذي ينتج القهر والهدر، وحولت النظريات الأدبية إلى نظريات لا جذور اجتماعية لها، حتى بين النخبة المثقفة، في الساحة الثقافة العربية.
وأخيراً يقول هاري ليفن " عندما تصبح المدارس القديمة موضعاً للشك وتقوم حركات جديدة فإنها تنخرط بشكل حتمي في جدل حول الكلمات _ المصطلحات _ فتلغى صيغ وتهاجم صيغ وتنتشر التعابير الجديدة من خلال الحيوية الفعالة للغة نفسها.. ولقد كانت مفرداتنا النقدية عرضة لتغيرات مماثلة طيلة القرن الذي يفصل بيننا وبين عصر الرومانتيكية ". وأعتقد أن هذه التغيرات ترتبط بالتغيرات الاجتماعية، فقد كانت الكلاسيكية تتوجه إلى الطبقة الأرستقراطية، في حين توجهت الرومانسية إلى الطبقة البورجوازية، واعتنقت الطبقة العاملة الواقعية الاشتراكية. إن كل طبقة تسعى لخلق، أو لإعادة خلق، نظرية أدبية تخدم مصالحها الفكرية التي تصب، في النهاية، في بحر مصالحها الاقتصادية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد فهمي يروج لفيلم -عصـ ابة المكس- بفيديو كوميدي مع أوس أو


.. كل يوم - حوار خاص مع الفنانة -دينا فؤاد- مع خالد أبو بكر بعد




.. بسبب طوله اترفض?? موقف كوميدي من أحمد عبد الوهاب????


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم