الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تآزر التقنية والمعنى..في (من كينونة العطر)

آراس بلال

2021 / 12 / 11
الادب والفن


يعتمد النجاح الادائي للنص على وجود فرضية ذهنية ونفسية، مقصودة أو غير مقصودة، واعية أو غير واعية، يكتشفها القارئ بحسب قدراته التأويلية وأدوات القراءة التي يمتلكها، ولذلك تتعدد القراءة بتعدد الوعي القرائي، وكل وعي هو ذات متساوية ومساوية، أي إنه ليس وعيا أدنى ولا وعيا أعلى، انما وعي موجود في عالم الكثرة والتنوع والتعدد، وهكذا لايستهان به او يهمل، ولذلك فإن النجاح الادائي للنص لا يكتمل الا بقدرته على توليد قراءة أو قراءات ناجحة نتيجة غوايته للقارئ واستدراجه لمحاولة التفاعل والفهم، اما الاستغلاق النصي على الفهم فيعني بشكل ما فشل في الايصال ولا عذر في ذلك بعدم قدرة القارئ على الفهم كما يشاع في الثقافة العربية وتحديدا فيما يخص القراءة الشعرية.
الايصال والتفاعل الشعري قد يكون متيسرا بشكل أكبر عندما يعمد الشاعر/ة الى طرح فكرة واضحة يبقيها في حدود العمل الفني غير الساذج في مباشريته وقصدتيه الارسالية، بل يعتمد على مشاغبة القارئ وادهاشه عبر احباط فرضية القراءة الاولى لديه، وهي الفرضية الاكثر سذاجة وبساطة عادة، كما يحدث في قصيدة (من كينونة العطر) للشاعرة جوانا إحسان ابلحد، فمطلع القصيدة:
كنتُ ذرَّة بزُجاجةِ عِطرِكَ..
وشاءتْ البخَّاتُ مِنْ يدِكَ اللاهيَة أنْ ألتصقَ على ياقتِكَ..
يدفع القارئ الى انه يقدم على قراءة نص عاطفي تكون فيه المرأة الطرف الاضعف الخاضع لمشاعره الجياشة، لكن المقطع اللاحق يهاجم القارئ ويصدمه:
ها قَدْ وصلنا معاً إلى الحفلِ السَّاهر
أنا الذرَّة الفارَّة مِنْ سجنِ القنينةِ العطريَّة
أنتَ مجموعُ الذرَّاتِ الأكبر بسجنٍ أكبر
أنا الذرَّة اللامرئيَّة..
حاسَّةُ الشَّمِ عندَ الآخرين لو اِشتغلتْ عليَّ، هي الدليلُ الأقوى على وجودِي العابق،
وسيظلُّ النكرة بالعِطرِ عندكَ..
أنتَ الكيانُ المرئيُّ..
القارئ يجد نفسه أمام حالة صراع وهجوم تشنه المرأة على رجلها، عبر الكشف عن ضآلة وجودها مقارنة بتضخم وجوده، وهو كشف تأنيبي لائم وليس اقرارا بالوضع، فالتفاوت هو القاعدة التي تهاجمها المرأة عبر فضح وجودها كشاعرة عبر قولها (وسيظلُّ المُعرَّف بالشِّعر عندي.. )، لتبدأ سلسلة انتقادات لاذعة للرجل الشريك، التي تصل حد السخرية والاهانة:
أراكَ تسحلُ نفسَكَ بحبلِ التظارُفِ - لإضحاكِ النواهد -
والحبلُ اِلتفَّ فوقَ الرُكبةِ بشبريْن،
بالتناص مَعَ الظاهرِ مِنْ سيقانِهنَّ..
أراكَ تشنقُ نفسكَ بحبلِ المُجاملات الأغلظ
والحبلُ اِلتفَّ تحتَ العُنقِ بنظرتيْن،
بالتناص مَعَ الظاهرِ مِنْ صدورهِنَّ..
ولا ينحصر النقد والسخرية بالرجل بل يمتد الى النساء اللواتي يزيفن اجسادهن بالتجميل، لخوض حرب مباهاة وتنافس وجذب واغواء، وهو ما ترفضه المرأة الشاعرة، بالقول:
بالقصيدة فقط أقوى أنْ أكُونَكَ.. وعلى سريرِ الدلالاتِ الكائنة بالشِّعر..
هكذا كُنْتُ ذرَّة مِنْ عِطركَ الثمين ليسَ إلَّا..
وما كانَ مِنْي..
لَمْ أُصَدِّقْ حتَّى اللحظة، أنَّهُ ( فعلٌ ماضٍ ناقص ) لامَحَلَ لهُ مِنْ العِطر..
وإذا كان هذا هو المعنى، وهو معنى متيسر مباح سهل المنال، فإن جمالية النص الشعري تحيل هذا السهل الى حركة صعبة ومغوية في نفس الوقت، عبر الصور السردية هنا، فالقارئ يشاهد احداثا في القصيدة ولا يقرأها فقط، وهذا مستوى من مستويات التآزر بين التقنية والمعنى، إذ يأخذ النص القارئ كمتفرج يرافق المرأة والرجل في حفلتهما.
ويستخدم النص السخرية السوداء كتقنية بلاغية تستعين بالصور الشعرية واللغة المستفزة (أراكَ تسحلُ نفسَكَ بحبلِ التظارُفِ - لإضحاكِ النواهد -)، (بالتناص مَعَ الظاهرِ مِنْ سيقانِهنَّ..)، (بالتناص مَعَ الظاهرِ مِنْ صدورهِنَّ..)، (كُنْتَ تُحدِّدُ طبيعة العلاقة -مَعَ إحداهنَّ- بخطِّ الكونتور العريض !)، لينجز النص انواعا من الطباق الصوري والتضاد اللغوي بين ما هو ثقافي معقد (التناص) وما هو مادي حسي تافه (سيقان، صدور، الكونتور)، بعدما مهدت لذلك بكلمة (تسحل) التي تستخدم في العامية بمعنى (إهانة)، فالرجل (يسحل نفسه) أي يهينها بالرضوخ للجذب الحسي من النساء المحيطات به بينما المرأة/الشاعرة (تسحله) في نصها وتعذبه عبر تذكيره بانشغالاتها الثقافية عندما تستخدم مصطلحات لغتها العليا (الشعر).
وتعيد تعريف (رجلها) بإنه ( فعلٌ ماضٍ ناقص ) لامَحَلَ لهُ مِنْ العِطر، فتضع الحد الفاصل بين انشغالاته (السيقان، الصدور، النواهد..) وانشغالاتها، لتميز بين عالمين، حسي – شعري.
الشاعرة جوانا إحسان ابلحد تنجز نصا نسويا بالمعنى النفسي والابداعي، وهي خلافا للتعريف السهل للنسوية ككشف واعلاء لجنس النساء، تقدم التدني النسوي ايضا، هي تعيد المرأة الى مستوى تعرف الذات والفرادة والتنوع، فالنساء مثل الرجال لسن على صعيد واحد ولا بهوية موحدة، النص يرفض الصورة الجمعية ويعيد للمرأة صورتها الفردية كواحدة من جنس تتباين شخصيات افراده ووعيهن، وهي ليست جزءا من (قطيع) النساء، بل في حالة تجاذب وحوار واختلاف مع افراد من هذا الجنس الذي تكون شخصيات عناصره اقرب لرجال فرادى فيه أيضا، وتبدو اللغة والانشغالات والاهتمامات هي ما توحد او تفرق بين الجنسين وبين افراد كل جنس أيضا.
ان التقنيات السردية واللغة الشعرية المتوافقة مع فرضية النص هي ما تساعد القارئ في اكتشاف جماليات المقروء وطبقات معناه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟