الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسئلة الزمن وصياغتها الجمالية في شعر مليكة العاصمي

ادريس الواغيش

2021 / 12 / 11
الادب والفن


لم يكن للشاعرة مليكة العاصمي سلف شعري ولا أم شعرية، هي سلف نفسها بنفسها، ولذلك نجدها تنتمي إلى زمن شعري مُغاير، هي "أنتيجون زمانها" كما قيل عنها أو "إلـزا المراكشية" كما يطيب للبعض أن يسميها. استطاعت أن تقول شعرا مختلفا، وخاطرت في زمن سبعيني مختلف كان صعبا على الأنثى اقتحامه شعريا على الأقل في زمن ذكوري خالص. وقد كانت مغامرة منها بكل المعاني في زمن الأحلام والطموحات الكبيرة وانتظار آفاق مغايرة، ويرجع ذلك إلى مراهنتها على زمن القصيدة أكثر من مراهنتها على المستقبل. جمعت الشاعرة مليكة العاصمي بين السياسي والإبداعي في مسيرتها، وأصبحت أقدم امرأة منتخبة في المغرب، وواحدة من اللواتي كتبن الشعر مبكـرا. عايشت تجارب كبيرة في الشعر والفكر المغربي، جنبا إلى جنب مع شعراء ونقاد ومفكرين أفذاذ من قبيل: الشاعر محمد السرغيني والمفكر الفيلسوف محمد عزيز الحبابي والمسرحي حسن المنيعي وآخرون كثيرون.
الرمز في شعر مليكة العاصمي:
لم ينجح المنطلق في الوصول إلى الحقيقة، وظل وعي الشاعر العربي في القديم كما في عصرنا الحديث مـوسوما بالتّناقض والقلق، ومن أجل مواجهته، استندت شاعرتنا على الميثولوجيا والموروث الشعبي والأسطوري كما استمد أغلب الشعراء مادتهم وأفكارهم للتعبير عن القضايا الاجتماعية والفكرية والسياسية، كل واحد وظفها وفق رؤية جمالية خاصة، يتداخل فيها السردي بالشعري أحيانا. تعتبر الشاعرة مليكة العاصمي بدورها واحدة ممن وظفـن الميثولوجيا والحكاية في أشعارها، مثل: «حكاية الصومعة والحاكم» ثم «بَطْـنُ الحُـوت» وكذلك «كَـنْـزُ سُليْمان» وفي «الأرضُ المَحمولة على قرْنَـيْ الثَّـوْر الأعْـظم». تستحضر شاعرتنا التراث كمادة زمنية، ولكنها تعيد تشكيلها في مَعرفة إبداعية جديدة، تستحضر رؤية مغايرة في أشعارها، ولذلك تختص كثير من قصائدها في كونها مبنية على معتقدات شعبية مغربية في بعدها الاجتماعي والإنساني، حكايات كنا نسمعها من أمهاتنا في ليالي الشتاء الباردة والطويلة، موغِـلة في الميثولوجيا أو في قصص وردت في القرآن الكريم، خصوصا في قصيدة: «زلزلة على قرن الثور»، حيث تقول فيها:
«بَطْـنِ الحُـوتِ
يَتفَـتَّـقُ رَحِـمُ الأرْضِ عَـن الأزْهَـارِ
عَـن الألـوَانِ
وعَـن كَـنْـزِ سُـليْمَانَ المَكْـنُـونِ
يَجُـودُ بهِ الثَّـوْرُ الأعْـظمُ في دَوْرَتِـهِ
وَهْـوَ يُبَـدِّلُ وَضْعَ الأرْضِ
وتضيف قائلة:
إلىَ قَـرْنٍ آخَـرْ
يَجُـودُ بِـه الثَّـوْرُ الأعْـظَـمُ
فِـي دَوْرَتِـهِ
وَهُـوَ يُـبَـدِّلُ
وَضْعَ الأرْضِ
إلى قرن آخر »
الشعراء يسابقون عادة زماناهم، هناك دائما صراع يتداخل بين الزمان والواقع في أشعارهم، زمان ماضي كما في: «بطن الحوت- كنز سليمان»، وزمن آخر في المستقبل كما:« يَتفَـتَّـقُ رَحِـمُ الأرْضِ عَـن الأزْهَـارِ»، هكذا يتولد الإدراك الحقيقي للأشياء من مَعرفة العالم ، من خلال استحضار أزمنة مختلفة لملامسة زمن الشاعر وواقعه في الحاضر بشكل مختلف، ومعالجة قضاياه المتعددة عند محاولة التأويل والتفسير من خلال تكوين هوية الذات المستذكرة، وإن كانت المدة الفاصلة بين زمن الحاضر وزمن التأويل طويلة. نحن غالبا ما نتصور الزمن بطريقة غير ثابتة تخص واقعنا وثقافتنا، ونتوهم بأننا قبضنا عليه عن طريق المشاهدة أو في معيشنا اليومي بالإضافة إلى عناصر أخرى مساهمة في إدراكه، وهل كلها عوالم تعلمنا كيف نصل إلى إدراك هذا الزمن، ولكن مساءلة الزمن هذه تضعنا أمام سؤال مغاير، من قبيل:
- ما هو دور التصورات وجغرافية الذهن في ذلك؟
قد نذكر عدة عناصر متداخلة، مثل: الأنثروبولوجيا والميثولوجيا أو ما عشناه من أحداث في زماننا وقرأنا عنها في كتب التاريخ...إلخ. ولكن الميثولوجيا تقول هنا أن الأرض محمولة على قرن ثور، والثور الأعظم يبـدل وضع الأرض من قرن لآخر، كلما تعب أحد قرنيه، وهو ما يسبب الزلازل في مناطق متفرقة من الأرض، ولكن بالرجوع إلى الزمن «السياسي» العربي وربط زمن الماضي بالحاضر، نجد أن هذه الزلازل التي عاشتها ولازالت تعيشها الأمة العربية والإسلامية من «سقوط الأندلس» إلى ما سمي إعلاميا ومرحليا بـثورات «الربيع العربي»، ثم في مراحل لاحقة بما سمي «الحراك العربي»، وأنه مهما طالت هذه الزلازل والانتقال من وضع سياسي واجتماعي مأزوم إلى وضع سياسي أكثر تأزيما، وما يتبعه ذلك من تغيرات سوسيوثقافية واقتصادية، ما هي إلا مرحلة انتقالية في حياة الشعوب، تطول أو تقصر، لأن الزمن كما نعرف هو تخارج تجديلي، لا يقوم على التقدم نحو الأمام بل على تفاعل بين التقـدم والتقهقر .
الزمَـن في شعر مليكة العاصمي فكرة مُجَـرَّدة
الزمان فكرة مجرَدة تقع خارج زمن التفاعل، قد يدركه الإنسان مما ترك من سبقوه من آثار وأشعار وآداب ورسومات في الطبيعة، إن هي سلمت من تخريب الإنسان أو من عوامل التعرية، ومن خلال التجربة استطاع الإنسان التفريق بين الأزمنة وتقسيمها إلى زمن ماضي أو زمن حاضر ومستقبل، وزمن الحاضر هو زمن لزق ينفلت من بين أيدينا بسرعة، وتبقى السطوة الكبرى في الأخير للزمنين الماضي والمستقبل، وقليل من الشعراء يستحضرون الزمن في أشعرهم وهم يكتبون، ولكننا نجد في هذا المقطع للشاعر مليكة العاصمي عدة أحداث تاريخية وردت في القرآن الكريم مثل:
أ - بطن الحوت: قصة تذكرنا بسيّدنا يونس عليه السلام.
ب - كنز سليمان: يتعلق الأمر بكنز سيدنا سليان التي ضرب الله بها مثلا، وهذا الكنز ساهم في جمعه الإنس والجـن والطير، وحينما نذكر سيدنا سليمان، نستحضر بالضرورة العدل ومملكة سبأ وملكتها بلقيس والقصة التي نعرفها، والحديث عن هذا «الكنز- الثورة» يدفعنا للحديث عن سر اختفاء هذه الثورة، عكس باقي الثروات «الفراعنة، الفرس، الرّوم،...إلخ»، ممّا أدّى بالبعض إلى التشكيك في صدقيّـتها، وكيف أنها لم تكن سوى أسطورة مثل باقي الأساطير تحتاج إلى تفسير مختلف، وعدم قبولها كمعطى تاريخي ثابت. ويبقى سِـرّ ذكرها في القرآن الكريم له غايات لا نعرفها نحن البشر مهما اختلفت التفاسير. وقد تـمَّ استشراف المستقبل عن طريق الأسطورة التي تطرح عدة أسئلة، لأنها تتوجه إلى تخوم المستقبل، ولا شك أنه من الصعوبة الإقرار أن مثل هذا السؤال يشكل نبوءة، وإنما هو محض سؤال، ولكن الواقع في الحياة إن في الحاضر أو المستقبل يجيب باستمرار على هذه الأسئلة وضمن هذا التوجه ، وحين نربط زمن الماضي بالحاضر تحضرُنا أشياء كثيرة، حضرت ضمنيًّا بالتلميح لا بالتصريح. وأستطيع أن أتذكر أحداثا وقعت في الماضي، سواء حقيقة أو خيالا، ولكنني لا أستطيع أن أتذكر أحداثا في المستقبل ، والتقـدم إلى الأمام في الزّمن يخضع لقوانين الحركة نفسها، التي يخضع لها التراجع إلى الوراء في الزمن، ولكن يبدو أنه ليس هناك اتجاه مفصـل للزمن .
تقول الشاعرة:
«يقلقنا الوقت المقيت ساعة.
نقتله للحظة»
والزمن أو الوقت يقتلنا كما يحيينا في كل حين، ولكن هذا القتل إن حدث يكون رمزيًّا في الغالب، إلى أن يصل أجلنا المحتوم، فيقتلنا للمرة الأخيرة، ونودع الحياة بمن فيها وما عليها. هناك دائما هذا الصراع الخفي بين الذات والزمن، وهو صراع نفسي في الغالب، نقتله لحظة ويبادلنا القتل بالمِثل إلى أن نصل إلى موتتنا الكبرى والأخيرة في الحياة الدنيا وننتقل بعدها لدنيانا المنتظرة في الآخرة، هناك لا مكان للذكريات في أذهاننا أو في الماضي الذي هو مرآة حياتنا، وإنما هنالك استعداد دائم لكفاح مستمِـر والبحث عن واقع جديد في زمن وآفاق مختلفة، ويظهر ذلك من خلال قولها: «نقتله للحظة». وهناك تمرد آخر مستمر على الزمن الماضي، والتطلع إلى زمن آخر في الغد، وإلا حكم عليه بالموت وأصبح شاهدا فوق ضريح، لأن الزمنين بماضيه وحاضره سمته الشاعرة بـ: «الوقت المقيت» هو الذي أعاق تطورُّنا، وبَـدَّدَ طاقاتنا وجُهودنا نحو الرقيّ في المستقبل القريب والبعيد.
ثم تقول الشاعرة مليكة في موقف آخر:
«وإذن
لم يفت
أي شيء
أبدا
لم يفتني
شيء»
تنقلنا من صفتها الاجتماعية المتداولة «لم يَفُـتْ أيُّ شَيء»، إلى لغة أخرى مرتكزة إلى العلاقة بين الأشياء المرئية واللامرئية والحسية واللاحسية ، وكأني بها تدعونا إلى تحدى الزمن، لأنه من يعيش على الأمل لن يعرف المستحيل، ومن يتحدى الزمن لا بد أن تبتسم له الحياة يوما، هناك إصرار واضح وعزيمة قوية على التفاؤل، وعَـدم الاستسلام للزمن وانتظار ما سيجود به علينا وعدم فقدان الأمل فيما هو آت في الأيام القادمة، لأن الأمل هو نافذتنا الصغيرة على الحياة، ولذلك يلزم ألا ننظر إلى الباب الذي غلق في وجهنا ولا إلى الأيام التي مرت من حولنا، ولكن ننظر إلى ما هو آت، ونتشبّث دائما بالأمل وبالحلم مهما كانت فرصة تحقيقه ضئيلة، لأن الزمن كفيل بتخطّي كل الخيبات في حياتنا وتحقيق المعجزات. وهذه واحدة من صرخات الشاعرة العاصمي في وجه المُتشائمين لكي يظلوا أقوياء، ولذلك جاءت صرختها واضحة وقوية في قولها:
« لم يفُـت/ أيُّ شيء/ أبَـدًا»،
فِـي غَـسَقِ الأقْـمَارِ
وُلِـدْتُ
وَكَـانَ الفَجْـرُ
يُطِـلُّ عَـلى الأكْـوَانِ
وَصدرُ اللّـيْـل
يَشُـقُّ قَمِـيصَهُ نَـكَـدًا
يبدو أن الذاكرة مكتظة بالقلق وبزمن حادٍّ مُتحَـوِّل وغيرُ ثابت، ينبئُ عن صراع دينامي بين دلالة النصّ والزّمن بأشكاله المُتنوّعة كما في: غسقُ الأقمار، الفجر، صدر الليل...إلخ، في غياب واضح للشمس والنهار، هناك زمن نفسي وزمن آخر مادي وذاتي ولكنه غير مرئي، له ما يكفي من دلالات في زمن يكمُن في الصّورة المُجسَّدة. الصورة الشعرية تتحرَّكُ بين الفعل والحدث والتشظي الحارق، ويظهر ذلك بجلاء في قولها: «يشقُّ قميصَهُ نكَـدًا».
تنبني سطوة الزمن الماضي على الذاكرة من خلال زمن الحضور وزمن الغياب والنّزف التعبيري، كل مولود يصيرُ عَـدَمًا مُتلاشِـيًا، لأن المولود يموت مَهْمَا طال به الزّمن، لا لأنه يصيرُ عَـدَمًا وإنما يموتُ لكي يصير مُتلاشِـيًا مَطْـوِيًّا في لا تناهي الوُجود ، ومن هنا تصبح عملية إدراك الزمن مرتبطة بفضاءات وأشخاص وأحداث أو بفضاءات تصوُّرية تعتمدُ على الاستنتاج الإدراكي بين المادة والتمثُّـل ، ووجود مفردات من قبيل: «الأقمار-الأكوان-الليل-الفجر» جاء للتمييز بين إدراك الزمن وتعاقبه وأيضا للوَعي به.
الإنسان يدرك الزمن في ماضيه وحاضره من خلال: المسافة (الليل) الأحجام(غَسَقُ الأقمار) والحجم(صدر الليل)، وما تبقي من كلمات في الفقرة الشعرية جاء لتسليط المزيد من الضوء على حالة نفسية أو وجودية تعيشها الشاعرة مليكة العاصمي كمواطنة مغربية وعربية، يهُمُّها ما يقع في مُحيطها الوطني والإقليمي والكوني والإنساني، تتأثر به الشاعرة في السلب والإيجاب، لأن إدراك الإنسان للزمن لا يكون من صفحة بيضاء، والوعي به لا يمكن أن يؤسس إلا عن تجربة في الزمن الماضي، وعندما نعيش التجربة نصل إلى بناء معرفتنا الزّمنية على ما عشناه في الماضي أو قرأنا عنه. الطريق طويل ومعقد، لأنه دائما ما ننطلق في رؤيتنا من التجربة التي عشناها في الزمن الماضي حتى نصل إلى المعرفة في الزمن الحاضر، وبين هذه المرحلة الزمنية أو تلك، هناك عدة عوالم متداخلة من الإدراك والتمثيلات والتصوُّرات، وهذه المعطيات هي التي يتناولها العلم المَعرفي بالدّرس والتحليل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة