الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف تنمو الموهبة؟

فاطمة ناعوت

2021 / 12 / 12
سيرة ذاتية


Facebook: @NaootOfficial

موهبةُ الموسيقى لا تكفي دون صقلها بالإنصات الجيد لوقع الكون وإيقاعه؛ للتعلّم من زقزقة العصافير ووشوشة الأغصان لحفيف أوراق الشجر، والإنصاتُ المتأمل لنقيق الضفدع وهزيم الرياح وصرخات البراكين وفحيح الحيّات وهدير الماء وهديل الحمام. وموهبة الرسم كذلك لا تكفي دون تدريب العين على التقاط إيقاع اللون وفكّ شفرات ألغازه وفض تعويذة الفرشاة والزيت والتوال والفحم. أيضًا موهبة العمارة لا تكتمل دون أن يتأمل المعماريُّ إعجاز النحل في بناء خلاياه، وعبقرية النمل في حفر سراديبه داخل بطن الأرض، وفنون العصفورة وهي تغزل عشّ صغارها من جدائل القش، ولا يكون المعماريُّ معماريًّا عظيمًا وهو لا يتودّدُ للموسيقى ليفهم معنى الهارموني والمونوتوني والتوافق والتنافر وجدلية النغمة والسكون الذي ستغدو بين يديه جدلية الكتلة والفراغ.. كذلك للكتابة الأدبية أسرارُها. لا يكون كاتبًا مَن لا يعرفُ أسرار الحروف وألغاز التراكيب، والإنصات الحميم إلى وقع الحرف على الحرف وموسيقى الكلمة إلى جوار الكلمة وفك شفرات علامات الترقيم والحركات والسكنات والصمت والكلام. الفنونُ في الأساس موهبةٌ سماوية اغذيها الصنعة الإنسانية.
على مدار الشهر الماضي كنتُ أقرأ بعض أعمال الأديب الفرنسي الشهير "باتريك موديانو" Patrick Modiano، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 2014 وصاحب الأربعين كتابًا والبالغ من العمر هذا العام سبعةً وسبعين عامًا. وقالت لجنة نوبل الأكاديمية لحظة تسليمه الجائزة إن الروائي الفرنسي استحق الجائزة "بسبب تمكنه من القبض على فن الذاكرة الذي أنتج أعمالا تعالج المصائر البشرية العصيّة على الفهم، وكشف العوالم الخفية للحياة". وبالأمس قرأت له هذه العبارة الطريقة: "اعتاد الطبيبُ أن يخبرني بأن كلَّ شخصٍ على وشك الموت، يصبح صندوق موسيقى يلعبُ القطعةَ الموسيقية الأقرب إلى وصف حياته، شخصيته، وآماله. تلك المعزوفات قد تكون مقطوعة ڤالس عذبة، وقد تكون طبول مارش عسكري.” وتذكرتُ ماذا قال هذا الأديب، عن فلسفة الكتابة وكيف لخّص فكرته عن تركيبة الأديب النفسية في نقاط، سوف أطرحها عليكم الآن، مع التأكيد على أن كونها محض رأي شخصي يخصُّ ذاك الكاتب، قد تزيد أو تنقص في معتقد كاتب آخر.
يقول موديانو:
الروائيُّ الجيد يميلُ أكثر إلى الصمت ويتقن الكتابة أكثر مما يجيد الكلام. فالكاتب يتردد في الكلام؛ لأنه معتاد على مراجعة ما يكتبه على الورق حتى يتأكد من وضوحه وصوابه، لكنه حين يتكلم لا يجد سبيلاً لمحو آثار هذا الكلام.
الكتابة تجبر من يقرأ لك على الاستماع لك دون مقاطعتك على عكس ما كان يحدث حين كنا أطفالًا، كانوا يقاطعوننا ولو تكلمنا لابد أن يمنحونا الإذن بالكلام أولًا.
القارىء يعرف عن الكتاب الذي يقرأه أكثر مما يعرفه كاتبُه.
الكتابة نشاطٌ عجيب يمارسه الفردُ وهو في عزلة. وقد يصيبك الإحباطُ للحظات وأنت تكتب، خاصة مع الصفحات الأولى من رواية جديدة. وكل يوم يمر تشعر بأنك على المسار الخطأ، وهذا يملأك بالرغبة في الرجوع لتسير في طريق آخر. لكن من المهم ألا تلتفت لهذا الهاجس وأن تستمر في مسيرتك.
حين تكتب آخر كلمة في كتابك؛ يتحرر الكتابُ منك؛ ويذهب إلى آخرين هم القراء الذين يبدأون في كشفه أمام نفسه. حينها تشعر أنت بالفراغ وبالهجر وتبدأ من جديد في علاقة أخرى مع كتاب جديد يجعلك تشعر بالتوازن المفقود لكن دون جدوى.
الكاتب لابد أن يظل على هامش الحياة؛ حتى ينجح في وصفها. لأن من يغوص في الحياة تتشوش رؤيته.
دور الكاتب أو الشاعر هو كشف الخفايا التي تحيط بكل شخص في حياته اليومية.
الكتابة تساعد في حل ألغاز الحياة وأسرارها. وعبر الخيال نغوص في الواقع دون أن نشوهه لنكشف الحقيقة أمام أنفسنا.
أجد متعتي في المرحلة التي تسبق الكتابة وهي مرحلة الخيال، متى كانت النقطة التي غيّرت مسار حياتي، وتلك التي أصبحتْ بعدها ليالي الصيف مختلفة عما أعتدتُ عليه.
أدركتُ مبكرًا مدى صعوبة البدء في كتابة رواية جديدة. يكون لديك حلمٌ حول ما تريد أن تبدع، لكن الأمر يشبه السير حول حمام سباحة وأنت متردد للقفز داخله لأن الماء باردٌ جدا.
***
انتهت كلماتُ الكاتب الفرنسي. أما الكاتبُ المصري القديم فقال عن الكتابة والكاتب أعمق القول وأجمله: "كن كاتبًا تمش في الطرقاتِ حُرًّا. كُن كاتبًا، فإن كتابًا واحدًا تقدمه للبشرية، هو أكثرُ نفعًا من بيت مؤسس شرق النهر، ومن قبر محفور في غربه.”
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصين تحذّر واشنطن من تزايد وتراكم العوامل السلبية في العلاق


.. شيعة البحرين.. أغلبية في العدد وأقلية في الحقوق؟




.. طلبنا الحوار فأرسلوا لنا الشرطة.. طالب جامعي داعم للقضية الف


.. غزة: تحركات الجامعات الأميركية تحدٍ انتخابي لبايدن وتذكير بح




.. مفاوضات التهدئة.. وفد مصري في تل أبيب وحديث عن مرونة إسرائيل