الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل الأول من رواية كوبنهاون

منير المجيد
(Monir Almajid)

2021 / 12 / 12
الادب والفن


تلاشى قلقي، صباح يوم الثالث من تموز عام ١٩٨٣، حين رأيت زرقة البحر المتوسط من النافذة الصغيرة لطائرة البوينغ النمساوية، وتصوّرت أسماك التونا الزرقاء البدينة وهي تسبح في أعماقه، بينما تركت خلفي أدخنة قنابل العراقيين والإيرانيين وتلك الحرب الطاحنة.
وليس على مسافة بعيدة من طائرتي كانت آثار دماء قتلى صبرا وشاتيلا لم تزل تلّون الأزقّة الضيّقة. تلك أيضاً كنت أبتعد عنها.
بعد شهرين من تلك اللحظات المُبهمة وجدت نفسي مع عدة مئات أتابع فرقة «ناس الغيوان» القادمة من حيّ المحمدي في الدار البيضاء المغربية لإحياء أمسية موسيقية في قلب كوبنهاغن. شهدتْ تلك الليلة حماساً طقوسياً من الجالية المغربية، حيث جُنّ جنونهم في رقصات هستيرية. وحينما بدأ «بوجميع» بطرح أحزانه عن أطفال صبرا وشاتيلا في موّال مغربي مُترف الشجن استمر لمدة ٢٤٢ ثانية، توّقف الحضور مُنتظرين البدء في النغم الإيقاعي، ليواصلوا رقصهم.
قلقي كان أنني دُعيت إلى خدمة الإحتياط في لبنان، لألتحق ببقية أفراد الجيش السوري هناك. كنت قد بعت بيت العائلة في القامشلي والأثاث وأواني المطبخ وعدة لوحات، ووضعنا ما تبقى في حقيبتين، حينما جائني خبر أنني على وشك إستلام برقية من شعبة التجنيد.
لقد فررت من بلدي وكنت أتألّم لأنني لم أستطع توديعه على نحو صحيح، وكنت مرتعباً من فكرة أن الشرطة العسكرية تنتظر لإلقاء القبض علي في صالة المسافرين في المطار.
في مطار فيينا إنتظرنا نحو ساعتين، وعلى البوابة المؤدّية إلى الطائرة التي ستقلّنا إلى مطار كاستروپ في كوبنهاغن وقفنا ننتظر دورنا، أنا أحمل الصبية، وزوجتي تحمل الصبي، حين تقدّم مني رجل خلته من الشرطة بسبب بزته وطاقيتة وطلب مني بإنكليزية ثقيلة أن أتبعه. صرخت في وجهه «ماذا تريد؟»، فأجاب مندهشاً «سأقلّكم في حافلة صغيرة إلى سلم الطائرة، أنتما تحملان أطفالاً».
شعرت بالخجل، واعتذرت منه بذريعة الإرهاق، فابتسم وقال لا عليك.
في مطار كاستروپ بحلق موظف الجوازات في أوراقنا عدة مرّات، ثم ذهب ليتحدث إلى آخر، قد يكون رئيسه، ثم أجرى الآخر مكالمة هاتفية، وكانا مستمرّين في تقليب جوازات سفرنا بغلافها الأسود الباعث على الهموم، المختومة من السفارة الدانماركية في دمشق، والتي كُتب عليها بوضوح تصريح إقامة عمل لمدة سنة.
لقد أقفلت الدانمارك تماماً باب الهجرة إليها منذ عام ١٩٧٣، وهانحنذا نقف هناك، بعد عشر سنوات، وفي يوم الأربعاء، الثالث من شهر اوغست الساعة الثالثة وإثنين وثلاثين دقيقة، وبموافقة بدّدت شكوك هؤلاء تماماً بعد نحو ربع ساعة.
كانت حياتنا على وشك أن تتغيّر رأساً على عقب حينما خطونا أولى خطواتنا خارج الترمينال الثاني في المطار.
كان يوماً علت فيه شمس باهتة مائلة نشرت حرارة راكدة في أرجاء كوبنهاغن، بخلاف شمس القامشلي بلون الألمنيوم الحاد، القائظة الحارقة الخالية من الرحمة.
في الأيام التالية لم تعد يدي اليمنى تعرف ماذا تعمل اليد اليسرى، وفي الليالي، وأنا أنظر في سقف السماء، سألت نفسي أين يذهب القمر في هذا البلد، وإن كنت على وشك أن أصير متبرجزاً.
كل هذه اللغات والتعابير التي يجب أن تتعلمها! سوف تضيّع نفسك أيها الأحمق! ستنسى اللغات التي تعلمتها من قبل، ولن تتكلم اللغة الدانماركية كما ينطقها طفل في الرابعة. ثم استنتجت بسذاجة أن اللغة ليست سوى مداعبة لكلمات ما، حينما جلست أمام جهاز التلفزة لمتابعة أخبار العالم. في زياراتي السابقة كسائح لهذا البلد، لم أفكر بتعلم هذه اللغة العجيبة، أمّا الآن فإنني يجب أن أواجهها وأن أتعامل معها.
كنت أريد أن يسجل التاريخ واقعة إنتقالنا إلى الدانمارك، تماماً كما تلك الأخبار المُتنقّلة عن حروب الشرق الأوسط، عن مجاعة كارثية وشيكة في القرن الأفريقي، عن إتفاقية لبنانية-أمريكية-إسرائيلية عن إنسحاب الأخيرة من الأولى، عن مولد الإنترنيت على نحو علني، قبل أن ينتشر فيما بعد على شكل «شبكة عنكبوتية» ستُغيّر مجرى التاريخ باتجاهين متناقضين. عن تسجيل أخفض درجة حرارة في منطقة مأهولة في قاعدة ڤوستوك بلغت ٨٩,٢ مئوية تحت الصفر في القطب الجنوبي. عن أوّل إستخدام لماسحة ثلاثية الأبعاد في المستشفيات. عن قيام الرئيس الأمريكي رونالد ريغن بإطلاق عبارة «إمبراطورية الشرّ» على الإتحاد السوڤياتي. عن ثورة ألبوم «ثريلا» لمايكل جاكسون، قبل أن ينقع نفسه في الكلور كي يتخلّص من بشرته السمراء، حيث كان في الراديو والتلفزيون ويتسرّب من البارات والسيارات التي تنتظر على شارات المرور. نعم، الموسيقى كانت تنتعش بعيداً عن إرث حقبة السبعينات، حينما طغى الديسكو على الأندرغراوند، وبوادر موسيقى الراب كانت تظهر هنا وهناك على نحو خجول.
لم تكن موجة النازحين الفلسطينيين من لبنان قد اجتاحت شمال القارة العجوز بعد، ولا شابات وشبان إيران الهاربين من تشدّد الدولة الدينية، مُتذرّعين بالحرب مع العراق.
لم أستسغ قصّات شعر الفتيات ولا الموضة الغريبة في المبالغة في حشو أكتاف الستر. رغم هذا، ذهبت لشراء سترة كانت أكتافها محشيّة جعلتني أبدو عريضاً بشكل مُضحك، خاصة أنها لم تفلح بتغطية جسمي النحيل مثل جوعى القرن الأفريقي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى