الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في رواية أحمد طيباوي -اختفاء السيد لا أحد-: داخل كل أحدٍ في طاحون المسخ

المثنى الشيخ عطية
شاعر وروائي

(Almothanna Alchekh Atiah)

2021 / 12 / 13
الادب والفن


كثيراً ما يستعيد القارئ، وبما لا يعني التماثل والاقتداء، رواياتٍ عظيمةً تركت أثرها في تاريخ الأدب، من خلال قراءته رواياتٍ كتبها محترفون يعرفون أن أعمالهم لا تقع في التقليد، بقدر ما تكون تذكيراً وتحية لتلك الروايات العظيمة التي يتقاربون مع موضوعاتها وأساليبها. وقد تُدرِك لجان الجوائز التي تضم نقاداً مرهفين باكتشاف تداخل الأساليب ذلك، فلا تَعْتَبِرُ مقاربة الروائيّ الجريئة الخطرة عائقاً، بل محفزاً أكثر، لمنح هذه الروايات الجائزة التي أوكلوا بتقدير استحقاق منحها، على ما تتميز به من عناصر فنية ومعانٍ أهّلتها لذلك؛ مثلما حدث على الأغلب، بمنح جائزة نجيب محفوظ للأدب عن العام 2020، للروائي الجزائري أحمد طيباوي على روايته "اختفاء السيّد لا أحد"، التي يستحضر القارئ ربّما من خلالها رواية وليم فوكنر الحائزة على جائزة نوبل: "الصخب والعنف"، بسبب التدفّق المتراكب السلس، وتداخل حديث الشخصيات الذي يوحي لأول وهلة بوجود خطأ قبل إدراك قصدية الروائي في ذلك، ربّما لإدارة رأس القارئ إلى لعبته في تبادل الأقنعة وتداخل الأدوار.
في "اختفاء السيّد لا أحد"، يُراكبُ أحمد طيباوي اختفاءين رئيسيين لشخصيتين، تزوّدان روايته بإثارة التساؤلات، هما: شخصية المختفي المهمّش الذي لا يُعرَف اسمه، ويعيش داخل الرواية باسم "السيد لا أحد"، وشخصية ضابط الشرطة النظيف رفيق ناصري الذي يحقّق في اختفائه، ويعيش مثله، قصّة تهميش قسريّ لمحاربته الفساد، ويختفي تماهياً بالمهمَّش الذي يبحث عنه، بعد خيبات كفاحه ضد الفساد، وخيبات حبّه، وأبوّته المعطّلة، وتوْصِله إلى استحالة وعدم جدوى إيجاد حلّ على صعيد جميع المستعصِيات. وفي هذا التراكب الذي يفصح عن غموضٍ يدفع لتساؤلٍ أكبر فيما إذا كان المختفيان هما مختفٍ واحد، يدفع طيباوي روايته في التشويق الذي يبدو بوليسياً، لكنه أعمق من ذلك، ويدفع قارئه في ختام الرواية التي تصل بعد تدفق لاهث إلى جُرفٍ يوقفه، للتفكّر بجميع مفاصل الرواية، ومحاولة إعادة تركيبها، للحصول على أجوبةٍ لن تشفي غليله أيضاً، فتدفعه لخلق أجوبته، كما لو كان هو كاتب الرواية.
ويساهم في محاولة إعادة التركيب هذه من القارئ، اكتشافُه أنّ المختفي "لا أحد"، وبأسلوب طيباوي الفنّي الذي يتضمّن منظومة السرد واللغة والجرأة على التعرية، في إقامة مرايا الذات، أن اللا أحد هو الموزَّع داخل الجميع، وأنه المختفي فيهم، ومَن لا يجرؤون الإفصاحَ عنه، في ظلّ واقعٍ مريعٍ يعرف بشر دول الاستبداد بخاصة، في جميع بلدان العالم العربي، أنهم المهمّشون المقهورون المطحونون بخلّاطات الاستبداد، والنّاهشون بَعضهم تحت غائلة الخوف والقهر والتجويع: "طلب الإذن بالانصراف وخرج بعد أن ألقى التحية، وطلب قبل ذلك إعفاءه من مهمة التحرّي عن هذا الرجل بالذات. يكره المحقّقون الوصول إلى الطرق المسدودة، وظيفته أن يحلّ الألغاز، لكنه فشل. أصرّ على طلبه حتى بعد أن حذّره المحافظ من إحراق مسيرته الذهبية في استعلامات الشرطة. نزل الدرج، وعند الباب وقف ينظر إلى كل من يمرّ أمامه، ويمعن فيه، كان يجد في كل إنسان يراه شيئاً من الـ (لا أحد) الذي وصفوه له وأعجزه العثور عليه، كل واحد منهم فيه شيء منه، والـ (لا أحد) قد يكون بعضاً من كل هؤلاء الذين مرّوا وأشْخَصَ فيهم بصره، كأنه ذاب في الجموع.".
في "اختفاء السيد لا أحد"، ولمنح قارئه مفاتيح حل إيجاده ولا إيجاده، يضع طيباوي روايته في بنيةٍ بسيطةٍ تتضمن جزأين متساويين: هما: "الرجل الذي سرق وجهه ورحل"، ويتكون من أربعة فصول: (مراوغة، تكالب، شفافية، ابتذال)، و"الجحيم يطلّ من النافذة"، ويتكون من خمسة فصول: (مقدمات ساذجة، أحدهم يخفي سراً، بوصلة القلب، مجرّد أقدار، رصيف ضيّق). وتكشف هذه العناوين بتناغم مع محتوياتها اللغةَ الشاعريّة، من دون فقدان طابعها الروائي، على جميع أصعدة الأحداث وحالات الشخصيات، في نزَقِها، صراعاتها، تآمرها، إحراجها، إحباطاتها، قرفها من ارتكاباتها، وحبّها وآمالها، مع نفاذية هذه اللغة، وطابعها السّاخر، وبساطتها السلسة العميقة الموحية كذلك، وتخليلها بالحكم والأمثال التي توْرَد ضمن طابع السخرية من العادات، التقاليد، والسلوكيات، واستغلال الدين في التستّر على المفاسد:
"عند باب العمارة التقينا، دخلتْ امرأتان، فيما بقيتْ عجوزٌ في سيارة الأجرة التي أحضرتْهنّ تنتظر، ثم لم تلبث أن غادرت لتعود فتأخذهما لاحقاً. رجعتُ أحسب الدقائق، ومن الساحة سمعتُ صوت الشيخ يتعالى، ألمُ البروستات لا يُحتمل... صعدتُ إليه، استعان بالصبر مرةً أخرى، وساد صمتٌ حذر، فجأة انطلق صوت آخر من شقّتي. تردّدتُ قليلاً، بل كثيراً، المال الذي في جيبي أخرسني، لكنّ شيئاً كان يعضّني من الداخل، أشفقتُ على المريضة، تعينها مرافقتُها على الموقف العسير، وتعين الإمام على الجنّ الذي يسكنه. ليس من السهولة بمكانٍ طرد جنٍّ توطّن في جسد شابة ممتلئة بعض الامتلاء، وقد أنبأني حجابهما الأسود عن فائض غوايةٍ يكون قد استثار عاطفة كتيبةٍ من العفاريت... مرّت دقائق أخرى، صارت الأصوات التي تنطلق من الشقة مريبةً، واستعار الجنّ لهاثَهم بالداخل، همهماتٌ وكلام خافت، والشيء يعضّني من الداخل أكثر فأكثر، هل للضمير أنياب؟ لم أكن غبياً لأنسى تعطيل قفل الباب من الداخل، في الفسحة الضيقة بين بابي الشقتين وقفتُ للحظات، ثم دفعتُ باب شقتي بكامل بدني، فسقطت المرأة التي كانت تتكئ عليه، وتؤدي دور الحاجز المتين، أرضاً. خطوتُ إلى غرفتي بسرعة، أذهلَني وضعُ الإمام الخمسينيّ الوقور وهو متمدّد على سريري عارياً، ومن كانت بحجابها الأسود قد أصبح يضيقُ بجسدها المشحونِ قميصُ نومٍ أزرق، كانت ابتسامتها عريضة هذه المرة، وتظاهرها بأثر المفاجأة لم يكن صادقاً جداً.".
وفي هذه البنية، يحرّك طيباوي أحداثه وشخصياته، بمنظومة سردٍ متناغمة تتضمّن نوعاً مختلفاً للسّرد في كل جزء، يتناسب مع محتواه، فيلجأ إلى أسلوب سرد الذات في الجزء الأول، الذي يستخدمه الروائيون غالباً عند التعمّق في كشف الدواخل، حيث تسرد شخصية المختفي "لا أحد" نفسها الداخلية، نوازعَها، رغباتِها، مخاوفَها، إحساساتِها بالذنب، طيبتها، وإغواءات الشر فيها؛ بتمديد حركة الداخل، وتقصير حركة الأحداث والشخصيات الأخرى، مع استخدام فعل الحاضر في السّرد لتقوية المشاهد صوَرياً. على حساب تطوير وتمديد الأحداث والشخصيات التي يقوم بها في الجزء الثاني، ويستخدم فيها للتوافق والتناغم مع هذا التطوير، أسلوبَ سرد الراوي العارف، الذي يسرد الشخصيات الأخرى التي كانت تحيط بشخصية المختفي "لا أحد"، وتسرد عنه، في مواجهة تحقيق اختفائه، بما يزيد غموضَ شخصيته وشغفَ القارئ لمعرفة المزيد عنه وعن أسباب قيام هذه الشخصيات بتغميض صورته، لإخفاء تعاملاتها غير القانونية معه، وبما يزيد اكتشاف وتعرية ما آلت إليه شخصيات المجتمع الجزائري من مَسخٍ تحت سطوة التهميش والجوع والخوف. ويُدخل طيباوي في هذا السّرد الذي يساعد على ذلك، قصصَ الحبّ والزواج وخيانات الزوجات والمبادئ تحت عنوان الجزء الثاني الموحي: "الجحيم يطل من النافذة"، وباللغة الشاعرية التي تزداد فيها السخرية السوداء، والعبث كذلك.
في "اختفاء السّيد لا أحد"، يثير طيباوي الإعجابَ بقدرة خلق توافقِ داخلِ الشخصيات النفسيّ الذي يشكله الواقع، خارج الإنشاء الاصطناعي، مع ما يوحي به تركيبُ الشخصيات من مجازات ورموز؛ فشخصية المجاهد المتقاعد ابن السابعة والثمانين عاماً، المصابُ بالزهايمر سليمان بن نوي، (ويرسمه الكاتب شخصاً تخلّص منه ولده العاق وتركه عبئاً ثقيلاً لكنه مفيد، برعاية مهمّش يطحنُه استغلال الجميع له، ولراتب الشيخ الذي يعيشان عليه)، يدفعُ مع واقعيته المقْنِعة بقوة، القارئَ للتفكير برمزية وضع الجزائر نفسها بالنسبة لتاريخ مقاومتها للاستعمار، وما آل إليه هذا التاريخ، ويبدو السيد (لا أحد) كذلك بشخصيته الواقعية المقْنِعة، وارتكاساته النفسية التي تولّدت لديه من تاريخ خطفِه في طفولته وتعرّضه للموت والنجاة، خلال مرحلة سنوات النار والمجازر، رمزاً ومجازاً كذلك في معاناة التهميش، محاطاً بضباع المجتمع، بعد أن تركته أسود السلطة المستبدّة الفاسدة جيفةً بأهوالها التي ارتكبتها، سواء بصراعات المذابح التي أدخلت الجزائر فيها خلال نهايات القرن الماضي، أو بالفساد وإفساد المجتمع، وطحن من يقاوم الفساد والإفساد. وتأتي شخصية الضابط المحقّق النظيف الذي يتعرض للتهديد هو وعائلته بالقتل من الفاسدين، والشخصيات المساندة الأخرى، المفسَدة بتجويع وإرهاب السلطة: اليساري عثمان "لاقوش"، واليميني الإسلامي قادة البياع، والمتحولة إلى شخصيات مهرب خانع ومخبرٍ متباهٍ، لتكمل إشعاع الشخصيات الواقعية بالمجازات والرموز عن وضع ما آلت إليه قوى المجتمع الجزائري، بفعل إفساد السلطة للناس وبطشها بهم، من عجزٍ وسلبيّة تؤول إلى تدمير الذات، بواقعية الانتحار والغياب والتغييب، وبإيحائية المجازات والرموز. مع خلق التناغم بين الأجزاء والفصول بعناوينها الموحية، ولغتها، ونوع سردها؛ والقيام بمغامرة خلط حديث شخصيتين واقعيتين للإيحاء رمزياً بالتماثل بينهما، هما شخصيتا اليساري والإسلاموي عثمان وقادة. لخلق رواية متناغمة مشعة بألق الإبداع من جميع وجوهها.
وفي "اختفاء السيّد لا أحد"، يخالف طيباوي ما اعتيد استخدامُه في الروايات التي تنغلق لتنفتح إلى بداياتها، بتحويل هذا الانغلاق إلى القطش، وكأن حبل القراءة انتهى قبل أن يصل القارئ إلى الأرض، وعليه التفكير بقفزة أجنحة تحليله وخياله.


أحمد طيباوي: "اختفاء السيد لا أحد"
منشورات ضفاف: بيروت، منشورات الاختلاف: الجزائر، 2019
120 صفحة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش


.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان




.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي


.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح




.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص