الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفضاء الروائي في رواية (فضاء ضيق ) للروائي علي لفته سعيد

طالب عمران المعموري

2021 / 12 / 13
الادب والفن


روائي يرصد بعين صادقة يكتب للناس والحقيقة ، يخلق عوالمه بطريقة التخييل ، يلاقحها من الواقع التي هي بذرته الاولى من خلال عنونة تحمل ثنائية ضدية
(فضاء ضيق) التي تجمع سعة الفضاء ورحباته والضيق او كما يقال ضاقت الارض بما رحبت تعبير عن الشدة وتأزم الحال، عنوان لرواية للأديب الروائي علي لفته سعيد الصادرة عن دار الفؤاد ط1 ،مصر العربية ،2019 .
جاءت عنونة الرواية بنية اسمية كطعم استدراجي للقارئ يحوي قدرة نفسية مكثفة ، تكشف عن قصدية الكاتب ولم يكن اعتباطيا في اختياره يعلن ظهوره، يلخص افكار الذات وفلسفتها الواقعية وهو تعريض وليس تصريح يحمل دلالة كلية ينطوي على ابعاد عميقة ، كون العنوان لا يبوح بسره وانما يتحلى بالغموض الذي يشد انتباه القارئ يتربع على لوحة غلاف سريالية شخص بلا رأس يتوسط كرسيين فارغين يضع ساق على ساق متكتف اليدين بوضع المترقب الراصد يخرج من موضع الرأس دخان كثيف مما يوسع مساحة تأويله في ذهن المتلقي ورغبته الشديدة في الولوج الى عالم الرواية ..
اما الآلية التي اعتمدها الكاتب في بناء الحدث وتوزيع الوحدات السردية ،تشكل مجمل احداثها موزعة في شكل مقاطع سردية عمد الروائي الى ترقيمها دون عنونة
وزع الكاتب وحداته السردية ابتدأ بمطلع وصفي للزمان وتأثيره على المكان لأجواء مدينته في نهار صيفي وارتفاع شديد بدرجات الحرارة وان الاجساد تنز عرقاً كلما صعدت الشمس عن افق المدينة، يصف حركة السيارات وهي تطلق اصوات منبهاتها وتنفث الدخان الذي يزيد من اختناق كل ما هو كائن حي في المدينة ، مع ضجيج المولدات الكهربائية التي توزعت في الاحياء حتى في القرى وحركة العمال وهي تعلق صور بأحجام مختلفة للمرشحين للانتخابات ، التي تشعره بالفوضى والضحك على الذقون :

"لم يكن ذلك الصباح من شهر مايس مشابها للصباحات الأخرى . كانت الشمس تسقط على رطوبة خلفها مساء مرتبك على الأشجار والناس والإسفلت وحتى جدران العمارات والأبنية المختلفة.. فيها كانت الأجساد تنر عرقا يشبه صمغًا ذائباً كلّما صعدت الشمس عن أفق المدينة الشرقي.. كنت قد سمعت وناقشت وجادلت إن صيف هذا العام سيكون شديا. الحرارة ومزعجا حتى سياسيا، وهذه بوادر سخونته التي جعلت من الأيادي تسارع لمسح العرق من الوجوه وتحت الأباط، والمنبجس من مسامات أخرى جعلت البعض يفتح ساقيه ليزيل حكة بدأت في المناطق الحساسة.
كنت تمشي وحدك.. يصاحبك تفكير عميق زاد من سخونة جسدك ورأسك وأفكارك.. فيفاجئك الكثير من الصمت مثلها يداخلك الكثير من الصخب الذي وجدته عاليا هذا النهار الذي امتدت ساعاته لتصل الى ظهيرة أكثر حرارة.. تمد يدك لتمسح العرق المتصبب من أعلى رقبتك حتى منتصف صدرك بمنديل رخيص أخضر اللون.. لا يشبه لون الأشجار الكالحة التي امتلأت بها الجزرات الوسطية وحافات الأرصفة وحتى مداخل البيوت والعمارات والمولات التجارية والفنادق التي أخذت ترتفع بطوابقها بشيء غير هندسي، زادت من خرائب النظر، ليضاف الى خرائب العمر والبلاد.. هكذا كنت تقول لنفسك، تلوح لك بشيء غامض أو غاضب من وجودها المعاكس لحركة السيارات التي تطلق أصوات منبهاتها، مثلا تنفث دخانا يزيد من اختناق كل ما هو كائن في المدينة المختنقة أصلا بعوادم مولدات الكهرباء التي توزعت في كل الأحياء وحتى القرى" ص7
فكأن هذا المقطع فيه ربط دلالي بين العنوان (فضاء ضيق) وهذا المطلع
الوسائل الفنية التي اعتمدها (الروائي) في توليد الدلالة الكلية للرواية من خلال تطور البناء الفني للمكان في رواية (فضاء ضيق)
جاءت العنونة معبرة عن المكان والتي ترد مرة بلفظ الفضاء ومرة يرد بلفظ الحيز الا ان فضاء الرواية أشمل وأوسع من معنى المكان فهو يخص أمكنة متعددة ، فالمقهى، المنزل ، الشارع ، الساحة، الزقاق ، الحي، المدرسة، الرصيف، المدينة ،المطاعم، المحال تجارية كل واحدة منها يعد مكانا محدد:
" يقف في بداية الشارع فيما يركن علاء دراجته الهوائية في الزقاق الفرعي وينادي عليه لشرب الشاي قبل الذهاب الى مديرية التربية لأمر يخصّ مدرسته فهو مدرس تربية فنية باعتباره خريج أكاديمية الفنون الجميلة.. وقفنا على الرصيف المقابل للتربية يراقبان حركة الناس " ص12
فهو يدرك تماما ما يكتبه ويجيد لغة الرواية وصناعتها وهو يقدم للمتلقي الكثير من الوقائع التي تلخص ما وصل اليه المجتمع .
المكان:
(فضاء ضيق)هذا الفضاء يتسع ويضيق حسب ما تشعر به الشخصية في الرواية قد يتقلص هذا المكان (عالم مغلق ) .
"اغمض عينيه وكان بحاجة الى الملاك أو الى صوتٍ يأتيه من نافذة عالية .. لكنه وجد أمامه المعارف كلّهم.. هذه المرة في غرفة الهول حيث يجلسان هو وحمدية وفي عيونهم أسئلة تتقافز عن سر هذا الاجتماع بين رجل وامرأة، فلا بد وجود شيطان.. حمدية لا تأبه لما حولها. أشاروا له بسباباتهم أن يجلس ويمضي بما كان عليه قبل قبل دخولهم.. كان الجدار المقابل قد تحول إلى حلقة جلوس على الأرض.. شعر بوجود سحابة خلف النافذة وثمة ضوء يأتيه لينير منطقته على شكل جناحين أبيضين.. وبهدوء ويطئ، خرجت ابتسامة من قلبه.. ومذ ذراعيه لعلّه يحضن الضوء أو يحتضنه الجناحان أو تغلّفه السحابة أو يستعين بقوة الصوت الذي كلّما سمعه تناثرت حوله الحروف مثل أغنية جنوبية عتيقة.. لحظات عصيبة بين الفرح والانكسار، يرى الجميع أمامه وتمنى حضور سلوى ايضا.." ص188
يدفع هذا الضيق (المكان) الشخصية الى الاماكن المفتوحة والانتقال من مكان يورث الضيق الى آخر ينشد فيه الحرية. حيث نجد الشارع الذي يضم السوق الذي يحتوي المتاجر ومقاهي وغيرها من الاماكن التي يحتاجها الناس امكنة عامة تمنح الناس حرية الفعل وامكانية التنقل وسعة الاطلاع هي امكنة انفتاح على العالم الخارجي.
يعكس المكان ما تشعر به الشخصية من حزن وضيق او فرح وسعة حسب طبيعة العلاقة بين الشخصية والمكان التي يرسمها الروائي ضيقة احياناً تعطي الشعور بان الشخصية تعيش في نوع من السجن او ان تكون مفتوحة تعطي شعور الانطلاق والحرية والحركة :
"ألقى التحية بصوتٍ منخفض كما هي عادته ، راسما على وجهه ابتسامة العابدين الراضين عل كلّ شيء.. ويرد على الاشياء بأحسن منها ، معبرّاً عن كل ضيق بالرضا" ص13
يسبغ المكان على الشخصيات طابعه ، فيؤثر في لهجتها ولباسها وعاداتها وطريقة حياتها :
"كنتم تجلسون على ناصية الزقاق الضيّق الذي اتخذ مقهى خلف مقهى ريش أو مقهى نجيب محفوظ المقابل لتمثال طلعت حرب حيث الكلام الذي وجدته جميلاً مثلما رآه علاء أكثر جمالاً لتمتع الحياة حيث تجلس النساء والفتيات تحديداً مع الشباب دون أن يقول لهنّ أحد ما أحمُّ أو دستور على قول المصريين .." ص79
اتخذ الروائي أرضية روايته (المكان ) المستمد من الواقع الذي يعد صلة الوصل بين الواقع والرواية ،الروائي يلتقط لنا الصورة الذهنية للمكان والتي تعطينا ابعاد يختلط فيها الجانب النفسي بالمادي .
يرسم الروائي مكاناً تتحرك فيه شخصيات روايته ويحمله دلالات معينة
فالمكان هو الارض التي تحتضن الشخصيات وهو عنصر اساسي من عناصر بناء الرواية لأنه يحوي جميع عناصر الرواية من شخصيات واحداث وزمان حيث تتخذ الشخصيات من المكان مسرحاً لا حداثها.
ربما كان المكان" هوية العمل الادبي الذي اذا افتقد المكانية يفتقد خصوصيته وتاليا ً اصالته اهم المظاهر الجمالية الظاهراتية في الرواية العربية المعاصرة"1
المكان في رواية (فضاء ضيق) ليس معزولا عن الشخصية بل هو مكان امتزجت فيه المشاعر وليس مجرد شارع وبنايات وانما سيل من المشاعر :
"لم يكن آخر الأمكنة التي تطأها قدما محسن.. فكمية الأسرار صارت مفضوحة والآراء تناسلت ولم يعد استعراض الذكريات مجديًا لكي يكون في طريق محكم بلا ذنوب أو بإمكانه تأنيب الروح، وخفقات القلب كلا داهمها الكلام المفاجئ أخذت تخفق بسرعة غير مرتبة دون إدراك السبب.. وقد أخفق في ملاحقة التحليلات أو حتى يطيقها وعدها فارغة من محتواها أمام هول ما يلاقيه من تعصب في الحياة وسرعة في انفلات الأعصاب وعدم الترتيب في مواجهة المصائب.. قال مع نفسه، الأمور تزداد سوءا كلما تقدم الزمن في هذه البلاد التي ظلت تتعكز على التاريخ دون اتمام خطوة الى الأمام. والواقع الجديد يفرض عليه البقاء في حالة متناقضة، لا هو في منطقة اليمين ولا هو في اليسار في الموضوعة السياسية.. ولا هو في جهة الإيران ويكون مع ما تردده الأحزاب أو المؤسسات الدينية، ولا هو في نقيضها لكي يكون في خانة محسوبة على الاتجاه." ص129
المكان يساهم بشكل كبير في تحديد هوية الانسان ، ثم" ان التلاعب بصورة المكان في الرواية يمكن استغلاله الى اقصى الحدود، فإسقاط الحالة الفكرية أو النفسية للأبطال على المحيط الذي يوجد فيه ، يجعل للمكان دلالة تفوق دوره المألوف كديكور أو كوسيط يؤطر الاحداث ، انما يتحول المكان في الحالة الى محاور حقيقي ويقتحم عليه السرد محررا نفسه هكذا من أغلال الوصف" 3
"جلس على حافة الرصيف.. وضع مرفقيه على ركبتيه تاركاً رأسه بين ذراعيه كمن ينظر الى الأرض بلمحة فوتوغرافية لعله يجد صورة تعينه.. لم يجلس مجتبى ولم يطلب منه الجلوس.. رأى صاحبه يخرج علبة سكائره فسارع بدون مقدمات الى أخذ واحدة وانتظر اشتعالها.. فرآه وقد انهار، وأن يديه ترتخيان، ورأسه يسقط على كفه الأيمن، وتحمر عيناه فيها تصاعد لهاثه يبحث في سراب عن شيء بعيد." ص68
المكان له دور يفوق كونه مجرد مسرح تجري فيه الاحداث حيث يساهم بشكل او بآخر في اعطاء نظرة شاملة في الرواية
وبهذه النظرة الشاملة للفضاء الروائي وهي احدى العلامات المميزة للكتابة الروائية الجديدة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا