الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جسر اللَّوْز 27

علي دريوسي

2021 / 12 / 13
الادب والفن


شيء ما دفعني اليوم لأقرأ مرة أخرى في مجموعة إيمان القصصية " وَالوردِ إِذَا تَنَفَّسَ". لعل السبب يعود إلى تأنيب الضمير أو لإحساسي بالضجر إذ غالباً ما أشعر أن لا جديد في حياتي. أموري تمشي والحمد لله وفقاً لمنحنى بياني خطيّ. سأقرأ كتاب إيمان إلى النهاية، احترام الوعد والوفاء به شيمة جميلة من شِيَمِ الكرام، فكيف إذا كان من وعدته بقراءة كتابه قد مات! كذلك لا أريد أن يتولّد لدى الآخرين ذلك الانطباع بأن موضوعها/كتابها لا يعنيني كما فتيل شمعة اِحْتَرَق وتَفَحَّمَ وصار عديم فائدة. ثم ألا ينبغي على المرء أن يسمع كل يوم أغنية صغيرة، أن يقرأ قصة جيدة، أن يشاهد لوحة رائعة وأن يتكلم بعض الكلمات العقلانية إذا أمكن!؟ كما يقول فون غوته.
فتحت الكتاب على القصة الرابعة بعنوان "كشك الأفاعي" ورحت أقرأ بتمعن:


كشك الأفاعي


الناس أسرار، الناس أجناس، وراء كل شخص حكاية، خلف كل قناع ثمة سر، قد يكون هذا السر مخجلاً وغريباً ومعيباً، وقد يموت مع صاحبه دون أن يسمع به حتى أقرب المقربين، هذا إذا لم ينفضح الأمر لسبب ما.
كانت قاعة المؤتمرات الكبيرة في مدينة ستراسبورغ تعج بالمحامين ورجال القانون والاقتصاد. كان الجميع منشغلاً بكلام رئيس ومنظم الحدث، كانوا ملتفين حوله كالنحل، يستمعون إلى تعليقاته ومزحاته الخفيفة وملاطفاته، كانوا مسحورين بشخصه.
في تلك الساعات، في تلك الليلة تناسى جميعهم ما الذي يخبئه الرجل الملسون وراء قناعه الجميل. تصرف المدعوون وكأن كل شيء بخير، كما لو أنهم لا يعرفون عنه شيئاً، فعلوا ذلك لمجرد أنه أحد هؤلاء الأشخاص الذين لديهم ما يقولونه في مدينة ستراسبورغ الغامضة.
اعتاد هذا الرجل السفر إلى تونس بانتظام، لا ليتسكع مع النساء الأكبر سناً أو مع الشابات الأصغر سناً، كلا، إنه يحب الأطفال وحسب، لا لمساعدتهم أو التبرع لهم لمداواة أمراضهم، بل لممارسة الجنس معهم! تحديداً مع الأولاد الذين تتراوح أعمارهم بين ست وتسع سنوات، من صلب اختصاصه. وهؤلاء الأطفال لا يفعلون بالطبع ذلك طواعية، لا يختارون أن يتورطوا مع رجل عجوز، بل هم مجبرون على فعل ذلك معه، ربما الفقر والأهل من يدفعهم ويجبرهم على إرضاء هذا الحمار.
كان الألماني رودولف موسهامر مصمم أزياء في مدينة ميونيخ وكانت تربطه علاقة قوية وغريبة الأطوار مع أمه. كان غنياً ولم يكن لديه إمرأة ولا أولاد. اعتاد رودولف على تناول طعام العشاء في المطاعم الفاخرة أو في مطعمه الخاص. بعد ذلك يصعد إلى سيارته من طراز رولز رويس، يتجول بها حول محطة القطارات الضخمة أو بالقرب من منازل طالبي اللجوء ليجد من يقدّم له خدمات جنسية مقابل المال، كانت كراته المستهدفة، ضحاياه، تنتمي إلى شريحة الشباب الأجانب من عمر الزهور، من أولئك الذين هربوا من بلدانهم طلباً للمال والنساء والأمان. وإذا ما واجهته صعوبات في الوصول إلى هدفه كان رودولف يلجأ عندئذ إلى القوادين المعروفين في المدينة لتأمين طلبه من وجبات السعادة. واستمر على فعلته هذه في دفع المال للشباب مقابل ممارسة الجنس معهم إلى أن اِلتقى ذات مساء بالشاب العراقي الكردي عبد الله. كان رودولف حينها قد تجاوز الستين من عمره.
كان الشاب عبد الله في تلك الأيام قد تقدّم بطلب لجوء وحصل على تصريح إقامة ساري المفعول، كان يعمل في أحد المطاعم الرخيصة، كان مثقلاً بالديون ومدمناً على آلات القمار، كان ضيفاً مناوباً في غرف ألعاب القمار الموزعة حول محطة القطار. كثيراً ما كان يشتكي من ظلم الحياة له ومن أنه لا يملك إلا القليل من المال بينما الآخرون أثرياء للغاية ويمتلكون المنازل والمحلات والسيارات الباهظة.
في ذلك المساء، في منزل رودولف الفاهر، اختلف عبد الله معه على الأجرة المستحقة لقاء الخدمة الجنسية. لم يكن رودولف راضياً على ما يبدو فرفض إعطاء عبد الله الأجر المتفق عليه بقيمة ألفي يورو، وأراد طرده مهدّداً إياه بالشرطة. وفي لمح البصر تناول عبد الله كابل الهاتف من على الطاولة، لف به عنق الأمير رودولف وجعل يخنقه إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة.
وهذا ما حصل تقريباً مع صديقي أشوريل، الذي اختُطفَ ذات مرة من محطة قطار مدينة فرايبورغ الألمانية، اختُطفَ بإرادته من قبل طبيب ألماني محترم الهيئة. كان هذا الطبيب المحترم لوكاس شميد قد ضاق ذرعاً بتصرفات النساء اللواتي وقع بحبهن، فتحول بميوله الجنسية والعاطفية، بالأحرى وسّع دائرة توجهاته الجنسية وصار مزدوج الميول الجنسي، لكنه بات مع الأيام يفضل الذكور على الإناث. فيما بعد اكتشف لوكاس أن ميوله العاطفية الجديدة لم تكن وليدة المصادفة ولا نتيجة معاناته مع النساء وردة فعله الانتقامية على سلوكهن معه، بل كانت مخزّنة في داخله منذ بدء عواطفه بالتبلور، لكنه لم يجرؤ على الإفصاح عنها إلا متأخراً.
بدأ باكتشاف ميوله للجنس نفسه في وقت مبكر من مراهقته. حدث هذا يوم دخل رجل غريب لزيارة أمه التي كانت قد انفصلت عن أبيه بعد سنوات قليلة من ولادته. في ذلك النهار جلس لوكاس مع أمه وصديقها الجديد. حين دخلت أمه المطبخ لإعداد القهوة تبادل صديق أمه نظرات نارية معه، شعر لوكاس بنار حقيقية تسري في شرايينه، الشيء الذي دفعه للحملقة إلى الزاوية السرية الكائنة بين فخذي الضيف. وقبل عودة الأم من المطبخ تمكن الرجل بحنكة من الاتفاق على موعد مع لوكاس في الصالة الرياضية التي يشرف عليها. في مساء ذلك اليوم لم يتمكن لوكاس من النوم مطمئناً، هرب من غرفته متوجهاً إلى غرفة أمه وعشيقها وراح يتلصلص عليهما مستمتعاً بآهات أمه متماهياً بجسدها وآن لمح عضو عشيقها المنتفخ تبلل كلسونه بسائل لزج دون إرادته.
بعد سنوات على تلك الحادثة توفيت أمه بمرض السرطان وورث عنها الكثير من المال والعقارات. كان حينها ما يزال طالباً في كلية الطب. استطاع بماله إغواء إحدى زميلاته وعرض عليها الزواج، فوافقت المرأة على الفور. لكنهما لم يتزوجا ولم تدم علاقتهما طويلاً. فقد أخذ يكتشف استغلالها وخياناتها له يوماً بعد يوم.
الخيانة الأولى التي اكتشفها وعذبته طويلاً كانت خيانتها له بلغة العيون. حدث الأمر في عيد ميلاده، يومها دعا إلى بيته كل الأصدقاء من طرفها وطرفه. وهم يحتسون الخمر ويتسامرون جالسين على مخدات ووسائد موزعة في أرجاء غرفة الجلوس الكبيرة رأى صديقته الجالسة بين فخذيه والآخذة من ركبتيه مُتّكأً لساعديها، رآها في المرآة المقابلة دون أن تراه هي، رآها تتبادل نظرات نارية مع أحد أصدقائه المقربين ذكّرته بالنظرات القديمة التي تبادلها مع عشيق أمه.
وفي مرة لاحقة كان قد قبل دعوة أصدقائهما المشتركين لقضاء احتفال رأس السنة في أحد الأكواخ المنتشرة في الغابة السوداء، سافر إليهم بصحبتها وهناك اكتشف خيانتها له بلغة الأصابع. على بعد أكثر من خمس كيلومترات من الكوخ الذي يقصدانه تعطلت سيارة لوكاس، بدت صديقته عصبية نوعاً ما ودون أن تستشيره اتصلت بصديق لهما يقضي عادة كل تحركاته ومشاويره مستعملاً موتوره الجبلي وطلبت منه المجيء فوراً لإنقاذهما من الثلج المتراكم وإيصالهما إلى الكوخ. في تلك الساعة رأى لوكاس الحبور والطمأنينة في عيني حبيبته وكيف صعدت على الموتور بشغف وكيف أخذت مكانها خلف صديقهما واحتضنته بقوة وكأنه سندها وعشيقها. بينما وقف هو منتظراً عودة الموتور وسائقه ليقلَّه إلى الكوخ.
وفي مناسبة عيد ميلادها وبسبب شغفها وولعها برياضة الهبوط بالمظلات أهداها لوكاس رحلة مدفوعة التكاليف لمدة ثلاثة أيام يقضيانها في أوتيل ريفي في أحد السهوب المخصصة لرياضات المغامرة وألعاب الهواء الممتعة الخطيرة التي تتطلب من الشخص الممارس جرأة كبيرة وشجاعة عالية. هناك يعمل محترفوا القفز من المظلات على تدريب القادمين لهذا الغرض أو حمل الراغبين منهم والقفز بهم ومعهم من علو آلاف الأمتار. في الموعد المحدّد رفضت صديقة لوكاس القفز المظلي الترادفي برفقة إمراة وانتابتها حالة هلع شديدة ولم تقبل إلا القفز بحماية رجل، فكان لها ما أرادت. سلّمت نفسها للرجل القوي وشعرت بالاسترخاء معه، بينما شعر لوكاس بالغيرة تنهشه وبكرهه لصديقته خاصة حالما راقبها في الجوّ ولمح فيها صورة العصفورة المنتشية المحتمية بجناحي نسر يركبها.
حين تعرّف صديقي أشوريل على الطبيب لوكاس مصادفة لم يكن قد بلغ من العمر أكثر من ستة عشر عاماً وكان قد مضى على تواجده في ألمانيا أربعة أعوام. كان أشوريل يعمل أيامها بالأسود مع شخص ألماني اسمه مانفريد لديه ورشة صغيرة لفحص واختبار وتبديل أجهزة إطفاء الحرائق في الأبنية الخاصة والعامة. ولأن لمطافئ الحريق عمر حياتي طويل يصل إلى حوالي عشرين عاماً، لذا طلب صاحب الورشة من أشوريل الذي تعرّف إليه في إحدى الخمّارات أن يقوم بتخريب مطافئ الحريق في بعض الأبنية التي يحددها له مقابل أجر مادي مغر.
عمل أشوريل مع مانفريد لعدة أشهر وسهر معه في الخمّارة عدة مرات وشم معه خطوط كوكايين كثيرة، فعل ذلك كله دون أن يعلم أن صاحب الورشة يعمل في الليل قَوَّاداً عند الرجال الأغنياء من أصحاب التوجهات الجنسية غير المعتادة. في إحدى المرات حصل ما لم يفكر أشوريل به أبداً. دعاه مانفريد للقاء خاص في مقهى أوتيل المدينة لتوقيع عقد عمل نظامي مع رجل غني طالما بحث عن شاب يافع لديه القدرة على تحمل مسؤولية الاهتمام بشؤون منزله الكبير المحاط بحديقة وسور عال.
بعد يومين من بدء أشوريل عمله عثرت الشرطة على جثة الطبيب لوكاس شميد عارياً في غرفة الساونا في الطابق تحت أرضي من منزله.
ما أن انتهيت من قراءة القصة حتى وجدت نفسي أهبط درج البناية متوجهاً إلى محطة القطارات الرئيسية لمراقبة فيما إذا كان ما روته إيمان يحدث حقاً أم أن هذه مجرد خيالات أدبية! مشيت وأنا أتكلم مع نفسي: "القصة الجيدة ليست مستديرة أبداً، كما هي الحقيقة فعلاً، في كل منهما إرباك وتشوش وتناقض ومطبات وزوايا وذؤابات وشراشيب".

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة