الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤية في استهلال كتاب الفنان -منوبي بوصندل-

عمر عتيق
أستاذ جامعي

(Omar Ateeq)

2021 / 12 / 14
الادب والفن


(الكتابة عنك)عنوان الاستهلال الذي بدأ به كتاب الفنان التشكيلي " منوبي بوصندل" الذي يوثق مسيرة الفنان الذي اتخذ اللوحة التشكيلية رسالة لغايات إنسانية . هكذا اختارت د. أحلام بوصندل هذا العنوان اللافت والمغاير للمسميات المألوفة ( مقدمة ، مدخل ، تقديم ، توطئة ، تمهيد ...الخ) ، لأنها أرادت أن تكتب عن أبيها وملهمها وصديقها ما لم يكتبه أحد من قبل ، أرادت أن تنسج نصا ذاتيا ينبض بالحنين والوفاء والاعتزاز فكان عنوان " الكتابة عنك " الذي يُضمر بنية نفسية دلالية عميقة تتجاوز المعنى السطحي ، فكلمة الكتابة في العنوان تختزل الخلود ونفي الموت وإثبات ديمومة الحياة . والضمير في (عنك) هو ضمير الابنة الكاتبة (أنا - أحلام ) التي تفتحت عيناها في حدائق لوحات أبيها حينما كانت طفلة تحبو بين أوراق وألوان أبيها . وهو ضمير المخاطب ( أنت - أنتم ) الذي - الذين عرفوا "منوبي بوصندل" إنسانا يجسد منظومة قيم ، وفنانا يُصور ما يمور في فكرهم ووجدانهم ويجسد ثنائيات الانكسار والانتصار ، والقلق الوجودي ، والحلم الذي يرتقي إلى اليقين .
لا يخفى أن الابنة الكاتبة الفنانة عانت من الحيرة والقلق والتردد قبيل كتابة الاستهلال ، ومن المرجح أن العودة إلى مسودة المقال(الكتابة عنك) ستكشف عن الكلمات والعبارات التي عمدتْ الكاتبة إلى تغييرها أكثر من مرة ، لأن اللغة تعجز دائما عن التعبير عما نفكر فيه ونشعر به ، فالكتابة محاولة لقول ما نرغب به ، وليست الكتابة تصويرا حرفيا لما نريد قوله.
توزع مقال (الكتابة عنك) على مدارين ، الأول فضاء ذاتي مفعم بعاطفة الحنين والحب والاعجاب والإكبار لأب فنان رحل جسده ، وبقي إبداعه خالدا ، وهذا أمر بدهي أن تعبر الابنة عن مشاعرها تجاه أبيها . ولكن أواصر القربى بين أحلام والأب الفنان تتجاوز الصلة البيولوجية إلى تعالق فني ، فهي لا تكتب وفاء للأب فسحب ، ولكنها تكتب عن أبيها الذي ألهمها أن الرسم رسالة وغاية وقضية وجود ، لهذا وجدت أحلام بوصندل نفسها موزعة بين الحنين للأب والوفاء للفنان الأب .وعطفا على ما تقدم يمكن أن يعي القارئ ما تختزله العبارة الأولى في المقال (الكتابة عنك أمر صعب حقيقة) . قد تبدو هذه العبارة تعبيرا مألوفا ، ولكنها اعتراف ضمني أن الكتابة لا تعبر عما تريده الكاتبة الفنانة .ومن المؤكد أن بداية المقال بتلك العبارة تحمل في حناياها اعتذارا للقارئ أن الفنان الراحل يستحق أكثر مما يعبر عنه المقال .وتعبر عن هذا الاعتذار بتركيب لغوي يعزز ما تقدم بقولها : (لعله أمر عسير مرة أخرى) .
تتداخل مشاعر الابنة الكاتبة بمشاعر الابنة الفنانة إلى درجة التماهي والانصهار كما يتجلى في قولها : (صوتك يدوّي في أعماقي) الذي يجسد حنينا مكثفا لماض مفعم بالذكريات ، وقولها : (لم تكن الفنان فحسب ، بل كنت أبا وصديقا).
أما الفضاء الثاني فهو فضاء فكري تسعى الكاتبة فيه إلى رصد المخرجات الفنية التي ورثتها عن أبيها ، وهو فضاء يقترب من تقييم المنجز الفني، تحاول فيه الابنة الكاتبة الفنانة -دون جدوى- أن تفصل بين الحنين للأب والكتابة عن الفنان الأب كما يبدو في قولها :( رحلتك في الوجود الذي حولته إلى موجود بلغة الحس والفن والألوان) ، ولعل هذا الاقتباس يلخص فلسفة الفن التشكيلي الذي يشكل رؤية الفنانة أحلام بوصندل للوجود والحياة ، ويكشف عن الرغبة في إعادة تشكيل أبجديات الوجود الذي يعاني منه الإنسان إلى وجود يجد فيه الإنسان فطرته وإنسانيته وحريته.
تحرص الكاتبة على وصف فلسفة الموت التي لا تراها غيابا كليا وفناء نهائيا واندثارا أبديا ، لأن رؤيتها للموت غياب جزئي أو غياب فيزيائي حينما يغيب المبدع عن أعيننا ويبقى إبداعه عصبا نابضا في تفكيرنا ووعينا ، وكأن الكاتبة أرادت أن تقول : ما أكثر الأحياء الأموات ، وما أقل الأموات الأحياء. وأعتقد جازما أن رؤية الكاتبة لفلسفة الموت تصلح لإعادة مفهوم العمر أو الزمن ، لأن العمر الحقيقي للإنسان يرتبط بالأهداف التي حققها في حياته ، وبالأثر الإيجابي الذي يوجه الفكر والسلوك بعد رحيله ، وتأسيسا على هذه الرؤية رصدت الكاتبة مساحة الانتشار لأبيها الفنان لدى الفنانين والمسرحيين والمثقفين الذين يجدون الفن وسيلة للتغيير المنشود . كما وقفت الكاتبة الفنانة على الامتداد الجغرافي للمنجز الفني لأبيها الذي لم يقتصر على الفضاء الإقليمي التونسي أو العربي ، وإنما امتد إلى فضاء كوني إنساني كما يتجلى في قولها : (ولقيت صداك في أوساط المحبين ، ورددك المعنيون والكتاب والمثقفون ، وتذكرك بعض الأجانب والرسامين ، حتى أنني خلتك في غيبوبة وستعود) .
تختار الكاتبة الابنة مشاهد إنسانية وفكرية من السيرة والمسيرة لأبيها الفنان الذي ترك وشما فنيا في مدينته بنزرت في (جدارية ملعب منزل عبد الرحمن) ، فالفن التشكيلي انتماء تكاملي يبدأ من مسقط الرأس حيث المولد ومدارج الطفولة ويمتد إلى خريطة الوطن الصغير ثم يرتقي إلى الوطن الأكبر الذي يجسد موطن الإنسانية . أما المشاهد الفكرية التي تعد قامة وقيمة للفنان الراحل فهي وظيفة الفن في إبراز الدور الريادي للمرأة من خلال خطاب الفن التشكيلي . ولا يخفى أن مواجهة الفكر الموروث ليس أمرا ميسرا لأنه يحتاج إلى فكر مستنير جريء يتخذ من الابتكار والإقناع والدهشة وسائل للتأثير والإثارة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - الفنان أيمن الشيوي مدير المسرح القومي يوضح استع


.. كل الزوايا - هل الاقبال على المسرح بيكون كبير ولا متوسط؟ الف




.. كل الزوايا - بأسعار رمزية .. سينما الشعب تعرض 4 أفلام في موس


.. رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة يوضح الاستعدادات لعرض افلام




.. سعيد زياد: الجيش الإسرائيلي أمام مأزق كبير والمخرج الوحيد هو