الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فخ القوة والانسحاب الأمريكي من افغانستان

فارس تركي محمود

2021 / 12 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


إن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان لم يأتِ من فراغ ولم يحدث بغتةً بل تقف خلفه دوافع وأسباب عديدة أهمها :
1 - الاسباب الاقتصادية: إن الحروب التي تخوضها القوى الكبرى هي حروب مكلفة اقتصادياً نظراً لما تحتاجه الجيوش الحديثة من دعم لوجستي عالي وغطاء جوي كثيف ومعدات وأسلحة باهظة الكلفة واستخدام لوسائل وتقنيات معقدة، فضلاً عن أن طول مدة الحرب سيرفع بالتأكيد من حجم التكلفة المادية، كما أن الحرب إذا كانت مرتبطة بمشروع بناء دولة ستصبح تكلفتها عالية جداً. وكل هذه العناصر الرافعة للتكلفة كانت موجودة في الحرب الأمريكية على افغانستان لذلك كانت نفقاتها المادية شديدة الوطأة إذ وصلت لحوالي ترليون دولار، وكان صانع القرار الأمريكي يدرك أنه كلما طال أمد الحرب كلما ازدادت التكلفة مع ما يترتب عليها من ضرر على الاقتصاد الأمريكي الرأسمالي.
2 - الخسائر البشرية: إن الخسائر البشرية تعد من أهم الأسباب التي تجعل من الحروب شيئاً كريهاً تنفر منه النفس البشرية وتتجنبه قدر الإمكان وبخاصة في العصر الحديث حيث لم تعد الشعوب تتقبل فكرة تقديم التضحيات البشرية إلا من أجل قضية مصيرية أو في حال تعرضها لتهديد وجودي، ولا يمكن بأي حالٍ من الأحوال النظر إلى دولة مثل أفغانستان بوصفها تهديد وجودي للولايات المتحدة الأمريكية، أو أن احتلالها أو خوض حرب على أراضيها تقف خلفه قضية مصيرية، لذلك كانت الخسائر البشرية التي تعرضت لها الولايات المتحدة وحلفاؤها في تلك الحرب والتي تعد بالآلاف، فضلاً عن الخسائر في الجانب الأفغاني والتي اقتربت من مئتي ألف قتيل ناهيك عن مئات الآلاف من الجرحى، من أهم الأسباب التي دفعت الإدارة الأمريكية للانسحاب من أفغانستان.
3 – التنافس الدولي: إن الحروب العبثية وعديمة الجدوى – كما يسميها البعض - التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية في العقدين الأخيرين كانت من أهم الأسباب التي سرعت بتراجع مكانتها وهيمنتها العالمية، بينما أدت بالمقابل إلى تصاعد مزعج في قوة أعداء وخصوم ومنافسي واشنطن الدوليين مثل الصين وروسيا والإقليميين مثل إيران وحلفائها. وكان واضحاً أن استمرار الولايات المتحدة بتلك الحروب لن يؤدي إلا إلى مزيد من التراجع في قوتها ومزيد من التصاعد في قوة أعدائها. لذلك جاء انسحابها من أفغانستان بمثابة محاولة للتفرغ للمهمة الأكبر وهي التصدي لخصوم وأعداء واشنطن الذين باتوا يمثلون تهديداً وجودياً فعلياً لمكانة واشنطن وهيمنتها العالمية.
على الرغم من وجاهة وأهمية هذه الأسباب إلا أنه كانت هناك أسباب أخرى متعلقة بالتغيير الذي طرأ على طريقة تفكير العقل السياسي الأمريكي، ومتعلقة أيضاً ببعض المُدركات التي رسخت في العقل الجمعي الأمريكي وأصبحت بمثابة مسلمات لها تأثير الواضح والملموس على القرار السياسي للبيت الأبيض، هذه المسلمات التي احتاجت إلى أكثر من ستة عقود لكي تتبلور وتتضح معالمها ويصبح تأثيرها ملموساً
حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية قد اشتبكت مع منطقة الشرق الأوسط بشكلٍ فاعل منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وحاولت مراراً وتكراراً تحقيق هدفها الاستراتيجي المتمثل باختراق المنطقة فكرياً وسياسياً واقتصادياً وضبط تفاعلاتها بالشكل الذي يتماشى وينسجم مع مصالح وتوجهات واشنطن. ومن أجل تحقيق هذا الهدف استخدمت وسائل متعددة تمثلت بالوسائل الدبلوماسية والسياسية والعلاقات الاقتصادية والثقافية وأساليب الضغط والوعد والوعيد بكافة أنواعها والتلويح باستخدام القوة وبالعقوبات الاقتصادية وفرضها في بعض الحالات، إلا أن كل ذلك لم يجدِ نفعاً ولم يساعد واشنطن على اختراق المنطقة فكرياً بل بقيت من أكثر المناطق المناهضة لمشروع الهيمنة الأمريكي بأبعاده الفكرية والسياسية والاقتصادية، ومن أكثرها إثارة للمشاكل والاضطرابات، لتصل الولايات المتحدة في النهاية إلى حالة من العجز شبه التام في التعامل مع أو التأثير في ملفات المنطقة المتنوعة، وأصبح كل ما تفعله وتقوم به لا يزيد وضعها إلا سوءً ولا يؤدي إلا إلى مزيد من التشويه لصورتها في المخيال الشعبي لأبناء المنطقة .
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية استخدمت وجربت خلال النصف الثاني من القرن العشرين مختلف الوسائل والأساليب والآليات من أجل تحقيق أهدافها إلا أنها لم تجرب الأسلوب الأكثر خشونة وصدامية وهو الأسلوب العسكري والاحتلال المباشر والذي تم تطبيقه من قبل إدارة جورج بوش الابن في بداية القرن الحادي والعشرين وذلك عندما قامت باحتلال افغانستان عام 2001 والعراق عام 2003 معتبرة أن هذا الاحتلال ما هو إلا الخطوة الأولى في مشروعها القاضي بـ ( أمركة ) المنطقة برمتها وإعادة ترتيب أوضاعها بالشكل الذي ينسجم مع سياسة وتوجهات الولايات المتحدة. إلا أن هذا الأسلوب - حاله حال بقية الأساليب – لم يجدِ نفعاً، بل كان من أكثرها سوءً وترتبت عليه تداعيات ونتائج كارثية كان لها أثرها الكبير على الولايات المتحدة الأمريكية من جهة وعلى المنطقة برمتها من جهةٍ أخرى. إن النتيجة الأهم التي ترتبت على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة العربية وبخاصة خلال فترة إدارة جورج بوش الابن تمثلت بأن صانع القرار الأمريكي صار مدركاً لعدد من الحقائق أهمها :
1–يجب على راسمي ومنفذي السياسة الخارجية الأمريكية أن يعملوا على احتواء مشاكل المنطقة وليس حلها، لأنها مشاكل بنيوية مستعصية على الحل، بل هي أقرب ما تكون إلى طريقة حياة من كونها معضلات تستدعي الحل.
2 – ينبغي على الولايات المتحدة الأمريكية أن تتخلى عن هدفها الاستراتيجي والمتمثل باختراق المنطقة فكرياً –أمركتها– والاكتفاء بتأمين مصالحها الأساسية.
3 – إن الحروب طويلة الأمد، وبدون هدف واضح ومشخص بدقة، وسقف زمني محدد تمثل وبكل المقاييس الوصفة المثالية للفشل، لذلك ينبغي عدم التورط بها والإسراع بالتخلص مما تم التورط فيه بالفعل.
4 – إن التدخل العسكري المباشر وإزاحة الأنظمة بالقوة ومحاولة تغيير طبيعة الشعوب وطريقة تفكيرها قسراً في منطقة الشرق الأوسط خط أحمر ينبغي عدم الاقتراب منه.
5– إن الوسائل والآليات التي استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية في تعاملها مع المنطقة منذ النصف الثاني من القرن العشرين أثبتت عدم جدواها، لذلك لا بد من العمل على إيجاد وتطوير وسائل جديدة أكثر فاعلية وأقل خطورة.
6 – إن الكثير من دول هذه المنطقة بمثابة ثقوب سوداء لها قدرة عالية على امتصاص وتبديد وتشتيت أية جهود تبذل تجاهها بدون أن تكون هناك أية نتيجةٍ تذكر، لذلك ينبغي الابتعاد عنها وعدم التورط في مشاكلها الداخلية.
7 – فضلاً عن أن البعض من الدول – ومنها أفغانستان – لا تمتلك أي مقوم من مقومات النهوض، فلا اقتصادها يمكن الاعتماد عليه ولا ثرواتها الطبيعية واعدة ولا وضعها الجغرافي مشجع ولا إمكانياتها البشرية والثقافية بالمستوى المقبول، لذلك تصبح مهمة استنهاضها صعبة جداً إن لم تكن مستحيلة، وتصيب من يتصدى لها بالإحباط واليأس والشعور باللاجدوى ليقتنع في النهاية بأن التوقف والاعتراف بالفشل أفضل الحلول.
فخ القوة:
إن أفعال الدول وأنماطها السلوكية تتأثر حتماً بحجمها السياسي والاقتصادي وثقلها العسكري وبمدى قوتها أو ضعفها، وفي أحيان كثيرة تصبح أسيرة لتلك القوة أو لذلك الضعف، وهذه الحقيقة تتجلى بأوضح صورها في الدول الضعيفة جداً أو القوية جداً وبما أن الحديث هنا عن الولايات المتحدة الأمريكية فإننا أمام نموذج شديد القوة. لقد كانت الإمبراطوريات والدول القوية عبر التاريخ محكومة إلى حدٍ بعيد بمعطيات ومتطلبات تلك القوة، ومنها الولايات المتحدة التي بلغت شأواً بعيداً وغير مسبوق في مدارج القوة بحيث يمكن القول أن صانع السياسة الأمريكية أصبح خاضعاً لإملاءات تلك القوة وأسيراً لها، بل وفرضت عليه معادلة وحيدة يمكن تسميتها بمعادلة الخيارين.
يتمثل الخيار الأول ببقاء الولايات المتحدة - وبحكم مصالحها وقوتها الكاسحة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً – مسيطرة وموجهة للشؤون الدولية وبشكلٍ منفرد حتى لو استدعى ذلك استخدام القوة والتدخل العسكري المباشر، مع ما يستتبع ذلك من نفقات وتكاليف باهظة مادياً وبشرياً، لأن الانفراد بحكم العالم ليس مجاناً بل له أثمان يجب أن تدفعها واشنطن وسيحرص منافسو وأعداء أمريكا على أن تكون تلك الأثمان عالية وترتفع باستمرار واضطراد، مما يعني أن الولايات المتحدة ستصل في نهاية المطاف إلى اللحظة التي لا تعود معها قادرة على تحمل تلك التكاليف الأمر الذي سيجبرها على تطبيق الخيار الثاني والذي يتمثل بالانكفاء والتراجع وتقليل حجم التزامات واشنطن الخارجية وهي الالتزامات التي نشأت بالأساس كنتيجة لتمتعها بدرجة عالية من القوة والهيمنة العالمية، مما يعني أن تقليلها أو الانسحاب منها سيخلق فراغاً سيملأ في الغالب من قبل أعداء الولايات المتحدة ومنافسيها الذين لن يكتفوا بذلك بل سيضغطون عليها أكثر وأكثر من أجل استحصال مزيد من التنازلات وهذا الضغط لن يتوقف إلا باتخاذ واشنطن مواقف وسلوكيات تؤكد وتقنع الآخرين بأنها ما زالت القوة الأعظم على مستوى العالم مما يعني العودة إلى تطبيق وتفعيل الخيار الأول . وهكذا تصبح السياسة الخارجية الأمريكية أسيرة لفخ القوة وتعيش – مجبرة - حالة من التذبذب والتناوب بين الخيارين الأول والثاني خيار التمدد والتوسع الخارجي وخيار الانكفاء والتراجع.
ويمكن رصد ومتابعة هذه الحالة من التذبذب في السياسة الخارجية الأمريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وصعوداً، إذ أن الولايات المتحدة خرجت من هذه الحرب واحدة من أعظم قوتين في العالم الأمر الذي دفعها للتصرف وفقاً لمعطيات هذه القوة أي ممارسة دور المهيمن العالمي والسعي نحو تعزيز وزيادة نفوذها العالمي ولم يكن لها خيار في ذلك بل هي مجبرة على مثل هذا السلوك إذا أرادت أن تبقى قطباً عالمياً، وفي كل خطوة من هذا الطريق كان على واشنطن أن تدفع أثمان باهظة، وقد استمرت هذه الأثمان بالتصاعد حتى وصلت حداً لا يطاق عندما تورطت في حرب فيتنام، مما أجبرها على تبني الخيار الثاني خيار الانسحاب والتراجع منذ منتصف السبعينيات، وكما هو متوقع فقد تم استغلال هذا الانسحاب من قبل منافسي واشنطن الذين سعوا لتوسيع نفوذهم وممارسة مزيد من الضغوط على الولايات لإجبارها على مزيد من التراجع والانسحاب، وقد وقعت خلال تلك الفترة الكثير من الأحداث كانت بمثابة مؤشرات واضحة على تناقص نفوذ المهيمن العالمي الأمريكي أهمها احتلال السوفيت لأفغانستان عام 1979 واقترابهم بشكلٍ كبير من سواحل الخليج العربي، وقيام الثورة الإسلامية في إيران في العام ذاته وإنهاء نظام الشاه حليف واشنطن واستبداله بنظام معادي، مما يعني أن الولايات المتحدة بدأت - وبسبب قرارها بالانكفاء - بدفع اثمان أكبر مما تستطيع تحمله، لذلك ومع بداية الثمانينيات عادت لتطبيق الخيار الأول خيار التشدد والتوسع والتنافس العالمي الشرس في عهد إدارة الرئيس دونالد ريغان وخليفته جورج بوش حيث تم تبني سياسة خارجية متشددة وخشنة قادت إلى الدخول في حرب كسر عظم مع الاتحاد السوفيتي من خلال مبادرة الدفاع الاستراتيجي ( حرب النجوم ).
على الرغم من نجاح استراتيجية ادارة ريغان وعلى الرغم من انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، إلا أن هذا الانتصار لم يكن مجاناً بل تطلب تكاليف اقتصادية باهظة كانت محل انتقاد واستياء لتيارات واسعة داخل وخارج الولايات المتحدة، وأسهمت في دفع واشنطن باتجاه تطبيق سياسة الانكفاء والتقليل من الالتزامات الخارجية والتركيز على الداخل، وهذا ما فعلته إدارة كلينتون خلال عقد التسعينيات الأمر الذي فوت على الولايات المتحدة – وبحسب الكثيرين - استثمار اللحظة التاريخية المؤاتية لفرض هيمنتها العالمية الأحادية وسمح لخصومها بالتقاط أنفاسهم ومن ثم ضربها في عقر دارها في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. إن هذه الضربة أعادت الولايات المتحدة وبقوة غير مسبوقة إلى سياستها التوسعية من خلال استخدام القوة العسكرية والاحتلال المباشر للدول والشعوب، ومثلما كان الفعل غير مسبوق نوعاً وقوةً كذلك كانت تكلفته المادية والبشرية غير مسبوقة بحيث أنها تسببت ليس بالارتداد إلى مسار التهدئة والانسحاب فحسب بل بحصول تغيير كبير في السلوك السياسي الأمريكي تجاه منطقة الشرق الأوسط ظهرت آثاره وتجلياته في إدارة أوباما وترامب وما زال يلقي بظلاله على توجهات وأولويات إدارة بايدن التي انسحبت من أفغانستان تطبيقاً لخيار الانكفاء والتراجع مثلما كان احتلالها عام 2001 من قبل إدارة جورج بوش الابن ترجمةً لفلسفة التوسع وفرض الهيمنة بالقوة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحوثيون يعلنون بدء تنفيذ -المرحلة الرابعة- من التصعيد ضد إس


.. ”قاتل من أجل الكرامة“.. مسيرة في المغرب تصر على وقف حرب الا




.. مظاهرة في جامعة السوربون بباريس تندد بالحرب على غزة وتتهم ال


.. الشرطة الأمريكية تعتقل عددا من المشاركين في الاعتصام الطلابي




.. بعد تدميره.. قوات الاحتلال تمشط محيط المنزل المحاصر في بلدة