الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-نفوس تائهة في أوطان مهشّمة-- قراءة نقديّة تحليليّة لرواية -جسر عبدون- للكاتب قاسم توفيق

لينا الشّيخ - حشمة

2021 / 12 / 17
الادب والفن


هي رواية البحث عن وطن في واقع يشدّ الإنسان إلى التيه والجنون أو الانتحار. وهي رواية عن تضادّات الحياة: الرجل والمرأة، الحبّ والحقد، الظلم والعدل، الموت والبعث، العذاب والخلاص. وهي رواية جريئة لا تخلو من كسر لتابوات الثالوث المحرّم: السياسة، الدين، والجنس في ظلّ اشتداد التطرّف الدينيّ والقمع السياسيّ. أمّا أهمّ ما تتميّز به فهو قدرة الكاتب على سبر أغوار النفس البشريّة والغوص في ذات الإنسان العربيّ على وجه الخصوص، وكشف صراعاته الوجوديّة والروحيّة. إنّها رواية البحث عن المخبوء في الذات؛ ما تظهره الذات وما تبطنه.
وهي رواية عن الوحدة والانعزال والاغتراب كذلك، حين أمسى الانعزال وسيلة للهروب من سطوة الواقع. فالانعزال في علم النفس حالة تعني انفصال الفرد عن الآخرين أو الخوف من الاتّصال بهم وكراهيّتهم. أمّا الاغتراب فيعني عجز الإنسان عن التلاؤم مع مجتمعه، وهو ما يؤدّي به إلى الانعزال أو الانكفاء السلبيّ على الذات والانغلاق على النفس. كما تبحث الرواية في معنى "أن تكون وحيدًا ولست وحدك"(ص82). ففي زمن القلق - على حدّ قول "هيدغر"- لا يحتاج المرء إلى سجن عاديّ بقضبان حتّى يرى نفسه سجينًا. في هذا الزمن لم يعد هناك فرق بين زنزانة حقيقيّة وزنزانة مجازيّة تسجن الروح. لا فرق بين منعزل في غرفة بعيدًا عن الآخرين وإنسان يختلط بالآخرين وهو يرى نفسه منعزلًا عنهم. فحين يكون الواقع مسكونًا بالخوف والرعب لابدّ للذات أن تبحث عن آليّة تحتمي بها. "فمن الأشياء التي تؤجِّل فكرة الموت أو الجنون عند البشر أنّ الناس يعيشون داخل قوقعة صلبة عصيَّة على التكسُّر يسمّونها الذات"(ص29-30).
هي الذات تتفاعل مع المكان؛ "فالمكان ليس أرضًا ولا سماء ولا هو بشر أو مبانٍ ومحلّات ولا حتّى من يسكنون فيها، بل هو ما في داخل الناس الذين يشغلون تلك الأمكنة"(ص32). وفي زمن تهشّم الأوطان يتحوّل المكان/ الوطن إلى قدر يتحكّم بمصير الشخصيّات والأحداث على حدّ سواء. لذا لم يكن المكان في الرواية محايدًا بل كشف تفاعلات الشخصيّة ومشاعرها حياله؛ فعمّان والقاهرة وبيروت والخليج وإيطاليا والولايات المتّحدة كلّها أمكنة تفاعلت معها الشخصيّات وعاشت فيها. ومن هنا توحي عناوين الرواية "أوطان صغيرة" و"أوطان مهشّمة" إلى تيه الإنسان العربيّ وتشرّده وبحثه عن وطن يعيد إليه ذاته المسلوبة. "فأبشع ما قد يصيب البشر هو أن يجبروا على ترك بيوتهم، العبارة التي صارت معتادة في بلاد الشام ولازمة تنتشر وتتوسّع دون انقطاع منذ سبعين سنة"(ص69). إلّا أنّ حالة التشرّد هذه ليست مقتصرة على العالم العربيّ مثلما تؤكّد الرواية، بل هي "حالة تملأ مدن العالم كلّها"، "ففي أمريكا وأوروبا يعدّ المشرّدون بالملايين"(ص 62) في ظلّ تشرّد الملايين من الناس الذين فقدوا بيوتهم فالتحفوا السماء وتشتّت هويّاتهم وتاهت مصائرهم وأخذوا يبحثون عن معنى الوطن والهويّة في بقعة أخرى من العالم.
تتضمّن رواية "جسر عبدون" رواية داخليّة بعنوان "الانحدار". ممّا يجعلنا أمام ثلاث شخصيّات أساسيّة تدور حولها الرواية: "نوح" صاحب دار النشر، و"رائف" صاحب رواية الانحدار، و"عادل" الشخصيّة المركزيّة "الخياليّة الافتراضيّة" في رواية "الانحدار". جميعهم بحثوا عن معنى الوطن والخلاص في تشظّي أرواحهم واغترابها.


** نوح: تشظّي الروح والبحث عن معنى الوطن

نوح الفلسطينيّ الطريد الذي شكّلت النكبة ثمّ النكسة أثرًا في بناء شخصيّته، يترك دراسته في إيطاليا عام 1982 عند اجتياح إسرائيل لبيروت ليشارك في معركة ردع الغزاة الذين طردوا أباه من عكّا، لكنّه يصل إلى بيروت متأخّرًا بعد رحيل المقاومين الذين عوّل عليهم. فاستسلم قبل أن يخوض أيّ معركة. ولم يفكّر بالعودة إلى عمّان لشعوره بالخزي من العودة إليها "مهزومًا في حرب لم يخضها". يجد عملًا يكفي ليبعد عنه الجوع والتشرّد في بيروت المهشّمة جرّاء الحرب إلى أن وصل به المطاف ليعمل مروّجًا للمخدّرات ثمّ قوّادًا، فاندفع إلى "مهاوٍ عميقة هربًا من المواجهة"(ص303). لذا أخذ يتوق لأن ينسى كلّ ما فات في حياته ويبدأ من البداية ويصنع ذاكرة جديدة؛ ذاكرة بلا أحزان. كانت أزمة نوح في كونه إنسانًا بلا وطن. وحين كان يُسأل من أين هو ومن يكون كان يجيب: "لا أنا ولا وطني ولدنا بعد"(ص168). وفي رحلة إلى إيطاليا أدرك الفرق بين وطن وآخر. أدرك كيف تكون الأوطان ومعناها. فتساءل بحسرة: "لماذا هي الحياة سهلة؟ ولماذا الناس طيّبون؟ ولماذا الأرض أجمل؟" فيستنتج بأنّ الناس هم الذين يريدونها كذلك(ص90). كان يبرّر دومًا: "لا أريد أن أكون مواطنًا من الدرجة الثانية"، لكنّه في بيروت وبعد أن خاض معاركه القاسية أدرك أخيرًا أنّه "لن يجد وطنًا أوّل ولا ثانيًا ولا حتّى ثالثًا، فقد سقطت أوطان الأرض كلّها في براثن وحوش مسعورة"(ص299).
هكذا، بعد رحلة البحث عن وطن فتّش عنه طويلًا ولم يجده يرجع خائبًا مهزومًا(ص213). وتتفاقم خيبته لأنّه لم يرأف بحال والديه ولم يحاول الاتّصال بهم حتّى ظنّوا أنّه استشهد وأقاموا له مأتمًا ولبست أمّه السواد إلى أن ماتت حزنًا عليه. أدرك أنّ تغيّبه كان "وحشيّة منه جعلته يزرع خنجرًا مسمومًا في حلق والديه"، فشعر أنّه آثم حتّى النخاع فغلبه السأم واليأس وجعله إحساسه بالخزي ضعيفًا ومنكسرًا(ص303). اغترب عن ذاته وتشظّت روحه، لكنّه حين يتعرّف إلى حبيبته فلك يعود إلى ذاته ويجد الراحة النفسيّة، إذ تنقذه من الهلاك في بلاد الغربة. فلك أردنيّة جميلة تعرّف إليها في لبنان وهي لا تزال طالبة في جامعة بيروت. وجد لديها الحبّ والوطن والحرّيّة والملاذ. تلحّ عليه بعد زواجهما أن يعودا إلى وطنهما، فيعود نوح إلى والده العكّاويّ بعد أكثر من عشر سنوات كأنّه بعث من الموت حيًّا، ثمّ أخذ يدير مطبعة أبيه حيث تحوّلت إلى دار نشر مرموقة. ولم يحاول نوح أن يحطّم حلم والده بحفيد ويعترف له أنّ فلك عاقر. وعند موته والده ظلّ يفكّر أنّه هو الذي قتله مثلما قتل أمّه من قبل(ص330). وقد ظلّ نوح يتذوّق طعم السعادة والحرّيّة عشر سنوات إلى أن ماتت فلك فجأة في رحلة إلى دبي فيعود إلى أحزانه وهزيمته ثانية.


**رائف بين الانعزال والانحدار

سارت حياة رائف في البداية بسلام؛ تخرّج من الجامعة وعمل في دبي ثمّ عاد إلى عمّان وتعرّف إلى سارة وأحبّها. لكن حين بدأ الواقع العربيّ يزدحم بالنكسات والحروب والمذابح الوحشيّة تحوّلت حياته إلى كوابيس مركزها داعش. فعمّان لم تكفّ عن سماع أخبار فظائع داعش وجرائم القتل والانتحار، فصارت تنتابه حالات فزع وغاب مرحه ولم يعد قادرًا على الانسجام مع ذاته والآخرين. تسلّل الخوف المسموم إليه فأصابه بالسأم واليأس، فقدّم استقالته من العمل وأبلغ حبيبته سارة بإنهاء علاقتهما وقطع اتّصاله بأصحابه وسجن نفسه في غرفته وانعزل عن أهله.
كانت شرارة هذا التحوّل في سماع قصّة اغتيال محمّد جبران، والد "أودري" صديقة سارة، الفتاة الأمريكيّة. إذ اغتالت أمريكا والدها العالم الأردنيّ الأصل الذي عاش في أمريكا وتزوّج هناك وأنجب أودري. اتّهمته أمريكا بالإرهابيّ الداعشيّ. لكنّ رائفًا الذي اهتزّ من هذه القصّة أدرك أنّ شخصيّة العالم جبران الذي أرسل ابنته سارة عند بلوغها إلى عمّان حتّى لا تتأثّر بالانفتاح الغربيّ، هي شخصيّة ملتبسة ومنفصمة؛ التبست عليه هويّته بين أمريكا ووطنه الأصليّ، فكان أنانيًّا وانتهازيًّا بشعًا، عجز عن الإفلات من تراثه وجذوره فحكم على ابنته بالنفي وأبعدها حتّى عن أمّها ووطنها الذي ولدت فيه وأصبح هو الأب عدوًّا لابنته. لقد أدرك رائف أنّ لا أحد يختلف عن جبران إذ: "التبس علينا وجودنا دون أن نهاجر أو أن نصبح علماء، مثلما التبس عليه وجوده، لم نعد نحن، بل أصبحنا ما أريد لنا أن نكون"(ص 138).
كان رائف من الملايين ممّن عجّلوا في موتهم وجرّبوا أن يموتوا وفشلوا أو جبنوا فصار موتهم واقعًا يعيشونه كلّ يوم؛ "لم يكن حاله أفضل ممّن استعجلوا موتهم وماتوا، فكلّهم تقطّعت بهم السبل للالتقاء مع الحياة مثلما تقطعت سبل التقائه مع الموت أيضًا". فكّر كثيرًا بالانتحار فسمع عن مكان يسمّونه "حديقة الموتى"، إذ لا يعرف أمر هذه الحديقة إلّا من فكّر بالموت(ص217-218). ومكانها مثلما يدرك القارئ في أعلى جسر عبدون. وهذا يذكّرنا بعنوان الرواية. فكّر بدخولها عدّة مرّات، لكنّه لم يدخلها، ليس جبنًا ولا خوفًا، بل لأنّ حزنه وخوفه على الذين يحبّهم كان يمنعه(ص219). لذا فكّر أن يكتب رواية وعنوانها "الانحدار". لقد دفعه خوفه من التشرّد لأن يكتب عن هؤلاء الذين لا بيوت لهم. فتدور الرواية، والتي سردت كاملة في فصول رواية "جسر عبدون"، حول عادل الذي ترك بلاده بعد أن طرده والده المستبدّ، فيسافر إلى القاهرة لحين صدور فيزا بلد خليجيّ متخيّل واسمه الدّفّة. يعمل عادل في الدفّة في تنظيف الحمّامات في مطعم، ثمّ يدخل السجن لجريمة لم يرتكبها. يخرج بعد ستّة أشهر ليعمل كوافير ومديرًا لمركز تجميل ثمّ قوّادًا وموزّع مخدّرات حتّى يرحّل إلى عمّان.


** بين "نوح" و"رائف"

بعد أن انتهى رائف من كتابة روايته "الانحدار" يصرّ على تسليمها لنوح مصمّمًا على أن يقرأها هو وليس سلافة مديرة الدار، كاسرًا بذلك تقليدًا تعرف به دار النشر. إلّا أنّ نوحًا يرفض نشرها لأنّه لمس تشابهًا بينه وبين عادل الشخصيّة الورقيّة. لقد اقتحم عليه رائف بروايته ذكرياته التي صارع طويلًا كي ينساها. فإذا كان عادل قد طرده والده وعاش مشرّدًا والتحف السماء فنوح كذلك التحف السماء في بيروت. كان نوح متيقّنًا من أنّ أباه العكّاويّ ليس هو الأب الذي طرد ابنه في "الانحدار"، ولم يكن يضربه. وحين عاد مهزومًا ومستسلمًا استقبله ولم يعاتبه على غيبته. وإذا كان عادل قد طرده أبوه فإنّ نوحًا هو الذي ترك والديه. هو يشبهه ويشبه تشظّيه في بحثه عن وطن، لكنّه بالتأكيد ليس هو عادل المنحدر. إلّا أنّ نوحًا المأزوم خيّل إليه أنّه المقصود بشخصيّة عادل على الرغم من أنّه يعرف أنّ رائفًا لم يكن يعنيه لأنّه لا يعرفه ولم يسبق أن رآه أو سمع باسمه. فهذه الحقيقة ومثلما يدرك نوح لا أحد قادر على كشفها إلّا نوح نفسه، "وهو وحده يعرف أنّه نظير عادل سليمان، وأنّه قضى عمره يبحث عن الخلاص من القيود التي حدّدت وجوده ومسار عمره، وفرضت عليه أن يكون غير الذي يريده هو أن يكون. لقد وضعه هذا المؤلَّف مع عادل في زاوية مغلقة؛ فهما لم يعرفا ما الذي يريدان أن يكونا عليه، كلاهما بلا وطن، وكلاهما يبحث عن وجوده(298-301).هكذا وجد نوح أنّ الرواية تعرّيه وتضعه أمام مرآة الذات فتذكّره بآثامه وتواجهه بحقيقة قبح سلوكه حيث ماتت أمّه كمدًا وهي تحسب أنّه مات قبلها وهرم أبوه وظلّ يصارع الحياة بأنفاس مقطوعة. ومن جانب آخر يدرك القارئ أنّ حياة نوح تقاطعت مع "رائف" كذلك، فرائف دخل سجن غرفته طواعية وانعزل عن العالم. أمّا نوح فكان منعزلًا عن الآخرين وهو يعيش معهم، يعيش في قوقعة حزنه وهزيمته.
كانت صدمة رفض نشر الرواية شديدة على رائف. شعر أنّ كلّ الأبواب سدّت في وجه. كان كلّما قارب الانهيار وفتحت حديقة الموتى أبوابها له يظلّ مؤمنًا بأنّ واحدًا من هذا الثالوث الأنثويّ: "نداء أخته وسارة حبيبته والرواية لن يتخلى عنه. ستفتح له إحداهنّ بابًا يعبر منه إلى الحياة التي يريدها. لكن بعد أن صدّته روايته، وكانت سارة قد رفضت العودة إليه، وأنّبته أخته على انهيار والدته، شعر أنّ الحياة قد أحكمت قيودها عليه. فتوجّه إلى جسر عبدون. يتوقّع القارئ أنّه ذاهب للانتحار ليتبيّن أنّه لم يتسلّقه لينتحر هو، بل ليقذف بأوراق الرواية في السماء. لا شكّ أنّ الانتحار على جسر عبدون هو فعل موت سيتحدّث عنه الناس، وغرض رائف هو الكشف والاحتجاج على رفض النشر. صار الناس يتزاحمون ليظفروا بورقة والفضول يقتلهم ليفهموا ما هذا الشيء الذي سقط من السماء وانتحر. إنّ رفض رواية رائف يعني قتلًا للرسالة التي كان رائف يحلم بإيصالها إلى الناس علّه يسهم بتغيير واقع ما. لذا يقوم برميها من على جسر عبدون بشكل احتجاجيّ متمرّدًا على رفض الناشر، فينشرها هو بطريقته. إذ سيجذب "انتحارها" الفضوليّين من الناس ويضمن شهرة لفعله هذا. وإذا كان رائف قد حسم أمره في كتابة رواية متيقّنًا أنّه سوف ينجز عملًا مهمًّا يتحدّث عنه الناس"(ص31) فإنّ نوحًا يضيّع عليه هذه الفرصة. لقد قتل نوح رواية رائف فقتل صوته وسلب حقّه. وهذا يبرّر لماذا اختار جذب انتباه الناس بانتحار أوراقه كردّ فعل على رفض إيصال صوته وصرخته. إنّ فعله هذا هو إعلان ثورة الأوراق على رفض نشرها، إعلان تمرّدها وتحرّرها؛ "فصار لكلّ ورقة عالم يخصّها بحرّيّة. لا تقيّدها صفحة كتبت قبلها ولا بعدها". إنّ هذه الحرّيّة التي طمحت إليها الأوراق في هذه اللحظة هي الحرّيّة ذاتها التي تطمح إليها شخصيّات الرواية. إلّا أنّ خطأ رائف التراجيديّ أنّه ألحّ على نوح صاحب دار النشر بأن يقرأها ولم يع كم كان نوح مأزومًا ومهزومًا، ولم يع مدى قوّة سلافة وكم هي متمكّنة!
إذًا يُسأل السؤال: لماذا لم ينتحر رائف نفسه؟

** الميتاقصّ

حتّى نجيب عن السؤال المطروح أعلاه لا بدّ أن نتوقّف عند ظاهرة أدبيّة تتّكئ عليها الرواية في هذا السياق، ونعني هنا "الميتاقصّ" أو "الميتاكتابة". يعني الميتاقصّ الكتابة التي تشير إلى نفسها وإلى فعل الإبداع نفسه، فتقدّم تأمّلًا ذاتيًّا لعمليّة الكتابة، وتموضع نفسها على الحدّ الفاصل بين القصّ والواقع. ولا شكّ في أنّ الكاتب قاسم توفيق يدرك أهمّيّة فعل الكتابة والرواية بشكل خاصّ. يدرك دورها في تعرية الذات الإنسانيّة وتعرية الواقع وسبر أغواره، ودورها في إنقاذ اليائسين والمغلوبين. لذا حوّل تجربة الانعزال في روايته إلى عمليّة إيجابيّة علاجيّة دافعًا بشخصيّة رائف للانعزال بهدف الكتابة. فالأزمة التي أصابت رائفًا وكادت تفضي به إلى الموت استدركها في اللحظة الأخيرة عندما راودته فكرة أن يكتب رواية. ففي الكتابة بعث للحياة واستبعاد للموت. في الكتابة تعرية للذات وتفريغ للغضب والخوف وتطهير منهما. بالكتابة غاص في قوقعة ذاته حتّى أدرك أنّه "ليس الأحسن ولا الأنبل ولا الأشجع"(ص29-30)، فأدرك أزمته وأدرك موطن علاجها. في اللحظة التي انعزل فيها وبدأ الكتابة كان يحمل كتلة ضخمة من الغضب، "فوجد أنّه لا خلاص إلّا بالكلمات"، "هي التي ستجعل الآخرين يسمعون ما يفكّر به، ليست أسرته فحسب بل، كلّ البشر. كان كلّ همّه أن يحرّر روحه من أسرها"(ص36). في الكتابة شعر بطعم الحرّيّة وتحرّر من كلّ قيوده التي أسرت روحه، مدركًا "أنّ الكتابة فعل خارق"، "وأنّ الكاتب صانع ماهر يبتكر عوالم ساحرة يسيّرها حسب مشيئته وإرادته"(ص31). لكنّ عوالمه هذه التي يخلقها يجب أن تكشف الحقيقة ولا تخبّئها بفعل التشويق؛ "فلطالما كان التشويق الذي نحبّه في الروايات هو الأبعد عن الحقيقة، لكنّه يخفي حقائق لم نألفها من قبل، ولا نحاول أن نتحقّق منها"(ص289)، "فالمتخيّل وغير الواقعيّ سهل العبور إلى عقول الناس، وأكثر متعة وأخفّ وجعًا، كلّنا نريد أن نصدّق ما نحبّ أن نصدّقه، وليس الحقيقة"(ص288). وفي هذا ميتاقصّ واضح. إذ يكشف الطريقة التي ينظر بها الكاتب قاسم توفيق إلى الكتابة والكاتب. وهذا يؤكّد أنّ الكاتب مشغول بعمليّة الكتابة نفسها وبتداعياتها وتأثيراتها على الكاتب من حيث هي خلاص بالدرجة الأولى، ثمّ عمليّة ابتكار واعية تساعد على تطهير الذات وتفريغها. إضافة إلى كونها صوته ورسالته وصوت الحقيقة. وهذا يفسّر قول رائف "الكاتب" في الرواية: "نحن البشر نعيد خلق أنفسنا من جديد كلّما أمعنا النظر في دواخلنا"(ص217). ولقد أمعن رائف النظر في داخله بفعل الكتابة. وكأنّه بالكتابة أعاد خلق نفسه من جديد. تحرّر من كلّ قيوده الروحيّة ونجح في تفريغ القلق المبهم الذي كاد يقتله فعادت إليه سكينته، وخرج بعد الانتهاء منها كأنّه بعث من الموت. فما أن انتهى من كتابة روايته حتّى انتزع الرغبة في الانتحار من عقله، بل خرج من عزلته أكثر وعيًا وإدراكًا وإحساسًا بذاته وبغيره، بأمّه وحبيبته وأخته، واتّخذ قرارًا حاسمًا في أن يكابد العمر ويعيش كلّ ما يحمله معه إلى أن يموت، لا للانتحار ولا للجنون. كان كلّما غاص في عوالم بطله عادل القوّاد المتمرّد كانت فكرة الموت الاختياريّ تبتعد أكثر وتصبح قصيّة. غيّبها أكثر عندما كتب لسارة عن حديقة الموتى، ونسيها عندما أيقظته أخته نداء على صفعاتها له وصرخاتها التي جعلته يشعر أنّه قاتل يدفع بأمّه للانتحار. لقد أدرك خلال الكتابة أنّه ضوّع حبّه وأنّه بات يحبّ سارة أكثر، فكتب لها في رسالته: "تعلّمت أنّني لن أرفع راية استسلامي قبل أن أحارب وأسقط ممرّغًا بالتراب حتّى لا أعود قادرًا على الوقوف ثانية. ها أأنا أبعث من جديد، ولك الخيار في أن تقبليني أو تصدّيني. ما يهمّني هو ألّا أهزم أمامك دون أن أكون قد خضت هذه المعركة"(ص325). بات يتمنّى معجزة تضاهي إعادة الخلق كي يعيد الحبّ الذي ضوّعه. لكنّ سارة ترفض العودة إليه مدركة أنّ ما فقدناه لا يمكن أن يعود كما كان؛ "لا شيء قادر على أن يعيد لنا من فقدناهم"(ص292).
ومن جهة ثانية، حين يقرأ نوح رواية "الانحدار" تتعرّى ذاته في عمليّة القراءة ثمّ يعيد خلقها، فيمسي نظير رائف الذي تعرّت ذاته أيضًا في عمليّة الكتابة وأعاد خلقها من جديد، مدركًا أنّه نظير عادل كذلك، فهذه "ليست مصادفة غريبة لأنّ متخيَّل المؤلّف لا يولد من العدم"(300). وفي هذا ميتاقصّ آخر يثبت التحام الواقع بالمتخيّل والقصّ. لقد كشفت قراءة الرواية عريّ نوح الذاتيّ، وضعته أمام مرآة الذات، كاشفة أزمته وآثامه حتّى تطهّرت روحه من أحزانها وآمن بوجوب الخلاص. لذا نراه يقرّر الزواج من سلافة. وفي هذا إعلان بداية جديدة. هكذا تؤكّد الرواية أنّ القراءة كالكتابة هي عمليّة تؤثّر في ذات القارئ إلى درجة تعرية الذات وكشف عيوبها وزيادة الوعي بها. هي كالكتابة عمليّة تطهير وتفريغ وعلاج روحيّ. وهي تحريض للقارئ وحضّه على الفعل والتغيير.


**التناصّ ورمزيّة الأسماء ودلالاتها

إذا كان نوح قد قتل أمّه بغيبته فإنّ رائفًا لم يرأف بها وكاد أن يقتلها لولا نداء أخته الموجوع. وهذه دلالة الاسم "نداء". وحين بُعِث بفعل الكتابة بعثها معه من موت وشيك. فبدافع الحبّ يرأف رائف بأمّه وأخته وحبيبته ويعدل عن الانتحار، ويبرّر أنّه "لا يزال على قيد الحياة ولم يستسلم للموت إلّا لأجل أسرته، فلولا حبّهم لقتل نفسه"(ص182). وهذا سبب اسمه رائف. ورائف الذي كان يبحث عن العدل في الدنيا منح لبطله اسم عادل ودفعه للبحث عن العدل والجمال في كونٍ أكلته البشاعة والظلم.
كان رائف يؤمن أنّه: "لا بدّ من انتفاضة تغيّر كلّ شيء، ما نحن عليه. نحن حاجة إلى أن نعيد بعث الإنسان الميّت الذي فينا"(ص138). وبقوله هذا يتقاطع مع نوح ورمزيّة اسمه، فنوح نفسه كان يبحث عن معجزة تضاهي إعادة الخلق. واسم نوح يوحي إلى التناصّ الدينيّ مع النبيّ "نوح" الذي يقترن بالطوفان. النبيّ نوح الذي ضاق بظلم الناس فأشار الله له ببناء فلك لينجو بنفسه مع من آمن به ويطيح بالظالمين بطوفان أرسله لهم. ووفقًا للتناصّ الدينيّ والأسطوريّ يكون خلاص نوح بواسطة الفُلك أي السفينة. ونوح كان يبحث عن فلكه كي ينجو من طوفان الظلم فيبلغ الخلاص ويجد الوطن. لذا اختار الكاتب اسم فلك حبيبة لنوح مع تلاعب بالحركات حسب رأيي ليكمل معطيات هذا التناصّ ودلالة روايته. فلقد منحه اسم نوح لأنّه بُعِث جديدًا من العدم وكان بعثه من الهلاك بواسطة حبيبته فَلَك، ففَلَك هي سفينته/ فُلْكه. وينهل الكاتب تناصّه هذا من المسيحيّة التي ترى بنوح والطوفان والفلك رمزًا للخلاص وتجديد الحياة والمعموديّة. إذ أغرق الطوفان الناس الأشرار بخطاياهم ووضع حدًّا لحياة الفساد ببداية حياة جديدة. وتتأكّد هذه الدلالة بعتبة الرواية التي يتناصّ بها الكاتب أيضًا مع المسيحيّة مع بعض التغيير: "يا قدّيسة مريم يا أمّ المسيح صلّي لأجلنا نحن الخطأة". وهذا يتأكّد بقول رائف: "لا أحد بريء، كلّنا خاطئون: من يجترّون المذابح، من يقتلون ومن يُقتلون ومن يراقبون وأنا".
هي إذًا رواية عن الظلم في عالم يمضي إلى الجنون في ظلّ مذابح وحشيّة وبشاعة مرعبة. وكأنّي بالكاتب يؤكّد أنّنا وصلنا في ظلّ هذا العالم إلى درجة بات يحتاج فيها إلى نوح جديد وطوفان يدمّر كلّ شيء ليبعث الحياة من جديد. ولهذا يدرك نوح أنّ "ما يؤمن به البشر من التعاليم المنزلة من السماء لا يشبه السماء، وإلّا فلماذا هذا الخلاف الشديد بينهم؟ "كلّهم بأديانهم وطوائفهم عاجزون عن الاهتداء إلى درب يأخذهم إلى السماء، فقد ضاعوا في التيه، والتبس عليهم الاهتداء إلى الباب المفضي إلى جنّة الخلاص"(ص93-94). أمّا باب الخلاص فعرفه نوح خلال حلمه السورياليّ في الفاتيكان، وممّا تعلّمه عن البابا الجديد "فرنسيس" ورسالته التي يمثّل بها الفقراء والمغلوبين؛ إنّ باب الخلاص في الحبّ: "فمن أراد الربّ فإنّ أبوابه مشرعة له، لكن بالحبّ"(ص95). وهذا يؤكّد تساؤل عادل الشخصيّة المتخيّلة في رواية الانحدار: "كيف يتنامى الحقد في الناس بسرعة صاروخيَّة، في حين أنَّ الحبّ لا ينمو فيهم إلّا بصعوبة وبطء وتثاقل"؟ إنّ هذه التساؤلات حول الدين وعلاقة البشر به وعلاقاتهم ببعضهم البعض يأتي ليؤكّد على "الحبّ" بين بني البشر وبين الرجل والمرأة؛ الحبّ كفلك للنجاة والخلاص في عالم متشظًّ مشوّه الإنسانيّة. الحبّ الذي يتحوّل إلى "وطن" حين يُفتقَد الوطن وتتشظّى الأوطان. هكذا يوظّف هذا التناصّ ليؤكّد على فكرة الخلاص وتجديد الحياة بالحبّ. ففلك هي التي أعادته إلى نفسه فغيّرت بالحبّ مسار حياته. أعادت عمره إلى بداياته وأخرجته من طوفان هزيمته. لقد استطاعت أن ترى بنوح المهزوم فارسًا وبطلًا. ومعها قرّر "أن يصنع "نوح" جديدًا يأتي به من العدم، ويعيد خلقه في عمّان مرّة أخرى"(ص 302). فالمرأة هي وطن للرجل، والرجل يجد الوطن حين يجد الحبّ والمرأة. لذا آمن نوح أنّ المرأة هي "التي تحرّر الرجل وتصنع له وطنًا"(ص167). معها تحرّر من قيوده الروحيّة ووجد ملاذه وحرّيّته وسعادته.
وبقرار عودتهما إلى عمّان تعود الحياة إلى والده العكّاويّ. فيعيدان الفرح المغيّب لوالده الذي قهر بتغييب وطنه الأوّل، ثمّ بغياب الابن وموت الزوجة. "عشر سنوات قطعاها معًا بسعادة تشبه أحلام الأنبياء"(ص329)- وهذا الاقتباس يؤكّد تناصّ نوح- لكنّ موت فلك المفاجئ أفقده سفينة حياته، فعاد إلى متاهة الوحدة والاغتراب والعزلة الروحيّة من جديد. دخل إلى قوقعة الذات وحرقة الذكريات وعاوده الشعور بالذنب وآثام أنانيّته التي جعلته يؤمن بأنّه هو الذي قتل والده ووالدته حين بحث عن وطن سراب وحلم بات رمادًا موجعًا. لقد أعادته وفاة حبيبته إلى هزيمته وهلاكه مرّة أخرى. بفقدان الحبّ أضاع درب الخلاص واشتدّت أزمته وغرق في طوفان حزنه من جديد حتّى بات بأمسّ الحاجة إلى سفينة جديدة.
أمّا التلاعب بحركات الاسم فلك فقد ضرب الكاتب عصفورين بحجر واحد. فإضافة إلى التناصّ ينتقد الكاتب قائمة الممنوعات والمحظورات التي باتت تطول ولمّا تنتهِ في عالمنا العربيّ بعد أن أخذت التيّارات الدينيّة المتشدّدة تتغلغل في حياة الناس وأفكارهم. فيقول في روايته عن اسم فلك: "غيّب العرب اسم فلك، ولم يعودوا يطلقونه على الإناث بعد أن أحكمت التيّارات المتشدّدة القيود على عقول الناس. الإخوان المسلمون والسلفيّون والوهابيّون نجحوا في أن يسطوا على الحياة وجعلها مسخرة للدول والحكومات التي أفرحها أنّ الناس صاروا يستعبدون نفوسهم من دواخلها. مسخ جمال الكثير من الأشياء التي لا تضرّ أحدًا وحوّلت إلى عبث ينفي ضرورة وجودها وطبيعتها، فكفّرت زهرة عبّاد الشمس وصار اسمها دوّار الشمس. فلا يجوز للزهرة أن تعبد شمسها. كذلك الأمر مع الاسم فلك، لأنّهم يرونه اسمًا إباحيًّا دلالته اللغويّة لا أخلاقيّة ومثيرة، فيعني الاسم: استدارة ثدي الفتاة. أي أب هذا الذي يتجرّأ ويحكي عن ثدي ابنته؟ أين ستذهب رجولته إذا ذكر اسم ابنته التي أصبحت عالمة أو مفكّرة أو طبيبة وعرف الناس أنّ ثديها قد استدار وصار كالفلكة؟(ص248).

** نهايات لمّا تغلق

كان رائف مرآة لنوح، ونوح رفض نشر رواية رائف حتّى لا تذكّره بآثامه. فنشرها يعني بقاءها واستمرار حياتها. وهذا ما لم يكن نوح قادرًا على تحمّله لأنّه قرّر أن يبدأ من جديد. فحتّى يبدأ من جديد عليه أن يقرّر مصير رائف ويقتل روايته ويمحوها من الوجود، أي خلاصه يكمن بموت الرواية. هنا فشل نوح بأن يكون سفينة نجاة لرائف ويمنحه الأمل. رفض أن يكون منبر صرخته في وجه العالم الوحشيّ. نوح نفسه الذي كان يبحث عن فُلكه/ سفينته كان أنانيًّا للأسف. لكنّ أنانيّته هنا مدفوعة بأزمته وخوفه من مواجهة الذات. هكذا كانت ولادة نوح جديد تعني طوفانًا لرائف. فهل سيعود رائف ليهتمّ بحديقة الموتى من جديد بعد أن خسر الرواية وخسر حبّه من قبل؟ وهل الهاجس الذي أصاب سارة ودفعها للذهاب في نهاية الرواية إلى مقهى "المكان"- رمز الوطن الذي تشوّه في عيني سارة ورائف من قبل، برأيي- الذي كانت تلتقي فيه مع رائف فبدت فيه الديكورات متوحّشة غريبة وأشكال الناس غير طبيعيّة؛ هل هذه إشارة لمصير رائف الذي يعشق هذا المقهى وكان يصرّ على لقائها فيه؟ هل مصيره بأن يدخل إلى قوقعة "الجنون" أو الانتحار من جديد؟ أمّ أنّها إشارة تخصّها بأنّها بفقدها للحبّ أضاعت درب الخلاص وباتت ترى ما كان رائف نفسه يراه حين تخلّى عن حبّه؛ حين كان يرى الوجود والوطن بعين مشوّهة مصابة بالسأم والفزع؟!
ومن جانب آخر، نلاحظ أنّ الكاتب توفيق نسويّ الاتّجاه، إذ يظهر المرأة بصورة المرأة القويّة الواعية القادرة على الحفاظ على توازنها في هذا الكون المتأرجح مثلما بدت كلّ من سلافة وسارة وفلك. إضافة إلى جعل المرأة الملاذ والوطن. فبغياب المرأة تشتدّ غربة الرجل إلى درجة فقدان "الوطن" واهتزاز معناه. بينما حين تكون في حياته تمنحه بالحبّ الحياة ذاتها. ولهذا بدت المرأة هنا أقوى من الرجل، أكثر وعيًا للتعامل مع جنون الواقع ومتاهات الوجود. وقد أكّد الكاتب أنّ المرأة يصيبها السأم كالرجل، ولا بدّ من ذلك، لكنّ عشق المرأة أكثر عنادًا، المرأة التي تعشق لا شيء يدفعها لتحكم على قلبها بالموت، فسارة حبيبة رائف تعرّضت للسأم واليأس والاكتئاب، الثالوث البشع، لكنّها حين كانت تظنّ أنّها تحبّ رائفًا لم تجعل ذاتها ضحيّة لهذا الثالوث، ولم تستسلم ولم تهزم مثل رائف الذي هزم عند المواجهة الأولى. كانت سارة تلك المرأة التي ضحّت من أجل من تحبّ، ضحّت من أجل رجل أحبّته، كي لا يسقط في الجنون. فظلّت تنتظره إلى أن جاء وقطع بجنونه كلّ علاقة بها، ثمّ بعث من رماده وعاد يطالبها بالعودة. لكنّها بالعزلة التي فرضها عليها وغيابه عنها جعلها تنعزل هي الأخرى كأنّها تخوض التجربة مثله لكن دون أن تنبذ عالمها. الأمر الذي جعلها تتساءل عن كنه هذه العلاقة لتدرك أنّها لا تريده وأنّه لم يخلق أحدهما للآخر، فكلّ ما كان بينهما كان وهمًا ولا يعدو سوى تجربة أعماها العشق عن رؤية الحقيقة. فلو كان الحبّ حقيقيًّا لتمسّكت به وقبلت عودته. وهنا لم تكن سارة كفلك؛ لقد كفّت عن كونها فُلكًا له في نهاية الرواية. لم تكن هذه خسارة سارة الوحيدة، بل خسرت قبل ذلك حبًّا آخر، حبّ صديقتها أودري التي عادت إلى أمريكا وقطعت كلّ علاقة معها. لذا لم يكن من الغريب أن نجد هذا التحوّل في نفس سارة التي باتت ترى الوجود مشوّهًا. ونستدلّ هذا من خلال الحالة التي أصابتها حين دخلت المقهى "المكان" بعد أن راودها ذاك الهاجس- "المكان" المعادل الموضوعيّ للوطن والوجود- فروحها فقدت قوّتها وخلاصها في فقدها للحبّ. يذكر أنّ الكاتب في علاقة سارة بأودري كسر تابو الجنس بجرأة.
أمّا سلافة فجعلها الكاتب أكثر وعيًا من نوح على معرفة طبيعة البشر. وقد تكون هذه دعوة من الكاتب لمعالجة والسأم والاغتراب بالقراءة. فسلافة كانت واسعة القلب متصالحة مع نفسها وإنْ كانت مدركة لقبحها، وإنْ مرّت بمآسٍ كثيرة في حياتها كذلك. فالقراءة المتواصلة ورحلتها مع الكتب جعلتها ترى الحياة من منظور أعمق وأشدّ وعيًا وأكثر حبًّا وتصالحًا. فلم تحقد كغيرها من أسرتها على والدها الذي تركهم لفقرهم وعوزهم وشرّدهم وتزوّج من ثانية، ووضع فيها شكله القبيح الذي ورثته عنه، بل كانت تدعو له بالراحة والسلام(ص 264). (إذًا هي القراءة مرّة أخرى آليّة للتطهير من أدران السأم والاغتراب والوحدة والكراهية). أمّا لماذا رفضت اقتراح نوح بالزواج منها؟ قالت: "لأنّني أحبّك، لا أريد أن تصبح شيئًا آخر في حياتي"(ص349). نستطيع فهم دافع رفض سلافة من خلال قصّة سارة مع رائف. فسلافة كسارة ضحّت كثيرًا من أجل حبيبها، لكنّ سلافة أدركت أنّ نوحًا لا يحبّها بقدر ما كان يبحث عن وسيلة تمنحه الراحة والسلام الروحيّ كي يبدأ من جديد. لذا ترفض على الرغم من حبّها له، وخوفًا من أن يموت هذا الحبّ يومًا فتتشوّه صورته في ذهنها فتخسره إلى الأبد. كان رفضها تضحية منها لكنّه كان صفعة لنوح حيث سأله نفسه: "لماذا تطيل انتظارك على الأرض إن لم يعد لديك أيّ أمل في أن يحدث لك شيء جديد"؟(ص349). فهل يشي هذا بمصير نوح بدفعه إلى الانتحار من على جسر عبدون؟ هل هو المنتحر القادم؟
لا شكّ أنّ نهايات الشخصيّات نوح ورائف وسارة وسلافة كانت مفجعة. فكلّهم كانوا مقيّدين "سجناء" لذواتهم لأسباب مختلفة. لكنّ هذه الأسباب في كنهها لا تختلف عن بعضها، بل تؤكّد أنّ الوطن لم يعد مجرّد مكان وأرض وحجر بقدر ما بات يعني مدى ما يمنحه للإنسان من أمان وحماية وحرّيّة، مدى ما يشعر الإنسان فيه من حرّيّة دون أن تسلب ذاته وحقوقه وإنسانيّته وكرامته. الوطن هو المكان الذي يحيا فيه الإنسان بكرامة وحرّيّة. إلّا أنّ الكاتب يشاء بأن تكون نهاية الكاتبة الثريّة تمامًا مثلما أرادت. ولا شكّ في أنّ ذلك يعود إلى الثراء وقوّة المال الذي بات يحرّك مصائر الناس ويتحّكم فيها في هذا العصر. فحياة المترفين "جميلة وهيّنة ومسلّية"(ص 270) و"أكثر حرّيّة"(ص277). لقد سعت سلافة التي تحبّ معلّمها بجنون إلى إقناع نوح بنشر روايتها رغم معرفتها أنّ هذه الرواية لا ترقى لمستوى الأعمال التي تقبلها الدار وأن نوحًا لا يهمّه المال ولا الشيك، لكنّها نجحت بإيجاد مبرّر جعله يقبل نشرها. ولا شكّ أنّ الكاتب ينتقد هنا سلطة الناشر حيث يتحكّم بمصائر الكتّاب، ما ينشر وما لا ينشر، حيث لا تكون جودة العمل وقيمته الدافع الوحيد للنشر. الأمر الذي يؤدّي إلى ترويج الأدب الرديء والهابط. الأمر الذي يذكّرنا بتحكّم نوح بمصير "الكاتب" رائف. فلأنّ رائفًا كاتب مغمور وفقير، وكتب رواية عن شخصيّة افتراضيّة ورقيّة كشفت عريّ الناشر أمام نفسه - وهذا لسوء حظّه- تُرفَض روايته على الرغم من جودتها فيُقتل حلمه الصغير؛ "فالناشر تاجر بارع والكاتب ليس أكثر من أداة إنتاج ساذجة"(ص194).

**كسر التابو السياسيّ

أمّا التابو السياسيّ فيشير إليه الكاتب من خلال تلميحات سياسيّة أبرزها رمزيّة والد عادل في رواية الداخليّة "الانحدار"، حيث يرمز إلى السلطة والنظام السياسيّ الذي يطرد أبناء الوطن ويشرّدهم فيخرجون باحثين عن هويّاتهم في وطن يستقبلهم. أمّا أمّ عادل فهي الوطن والأرض، والإخوة هم الشعب المستعبد. أمّا التلميح الثاني المبطّن فيخصّصه الكاتب للخليج. كانت فلك حلم نوح وخلاصه، لكنّ النملة الخليجيّة السامّة التي يطلق عليها "السمسوم" قرصتها فقتلت حلمه هذا بقتلها لفلك. لا شكّ في أنّ هناك دلالة سياسيّة خلف هذه النملة. وإلّا لماذا يختارها الكاتب خليجيّة؟ ولماذا يذكر الكاتب أنّ "السمسوم خليجيّ بامتياز"(ص333)؟ لماذا لم يختر بلدًا آخر أو سببًا آخر لقتلها؟ ثمّ لماذا يجعل الكاتب فلك عاقرًا؟ لأنّه إذا أنجبت حفيدًا لحماها العكّاويّ قد هذا يعطي بعضًا من الأمل كون فلك ترمز إلى فُلك الخلاص. فلعلّ الكاتب ينتقد بذلك الموقف الخليجيّ إزاء إسرائيل وعلاقاتها السياسيّة معها. هذه العلاقات التي تغتال حلم نوح الطريد الفلسطينيّ وتغتال أمله في حلّ قضيّته وخلاص وطنه وخلاص روحه. ولماذا يستخدم الكاتب الدفّة اسمًا متخيّلًا لبلد خليجيّ في رواية الانحدار؟ لقد جعل الكاتب رائفًا يوجِد له رقيبًا ذاتيًا يحميه من الرقابة على غرار ما يفعله الكتّاب في الحقيقة.

**ملامح أسلوبيّة أخرى

لا شكّ في أنّ الكاتب قاسم توفيق يوظّف أساليب عديدة في بناء حبكة الرواية على نحو يجعلها رواية حداثيّة غير تقليديّة، كبنائها بحبكة مفكّكة واعتماده على خلخلة الزمن والإرجاء والاسترجاع الفنّيّ/الفلاش باك، ثمّ توزيع رواية "الانحدار" التي كتبها المنعزل رائف في خمسة فصول وعناوين مبعثرة على طول الرواية، وبشكل غير متسلسل معتمدًا على ضمير المتكلّم، بخلاف الرواية الأساسيّة "جسر عبدون" التي اعتمدت على الراوي الكلّيّ العلم بضمير الغائب. فكان تيّار الوعي في رواية رائف أحد الأدوات التي ساهمت في تعميق حالة الاغتراب والتيه لدى عادل سليمان. ولم يكن هذا المبنى عفويًّا بل مدروسًا، وذلك لإيجاد نقطة التلاقي والتقاطع بين "الرواية الأساسيّة"/ "جسر عبدون" والرواية المتخيّلة"/ "الانحدار"، فيخدم شكلها مضمونها ورسالتها.
يقدّم الكاتب عتبة الإهداء إلى والديه، واصفًا إيّاهما: "أوّل الأبرياء الذين عرفتُهم على الأرض"، فماذا يقصد الكاتب بالأبرياء؟ لماذا اختار هذا الوصف دون غيره؟ ثمّ الأبرياء ممَّ؟ ألعلّه يقصد من تشويه هذا العصر؛ تشويه الوجود وجنونه؟ ولعلّنا إذا انتقلنا إلى عتبة أخرى نجد قصيدة للشاعرة "لانا المجالي"، ويكمن غرض الكاتب بتوظيف هذا التناصّ برأيي في هذه الأسئلة: "هل كلّ ما تراه العين هو نفسه الحقيقة الكامنة خلف ما تراه؟ هل الظاهر للعين هو نفسه ما تخبّئه النفس من مشاعر؟ الجواب طبعًا لا! فالمخفيّ ليس هو الظاهر. الحقيقيّ الصادق يكمن في المخفيّ في الذات والنفس، وليس كلّ ما يثرثر ظاهرًا يصدق ما تصمت عنه النفس ولا تحكيه. أمّا تحت العنوان فنجد عتبة هامّة تقول: "أكثر من رواية"! وهنا نتساءل: "هل هذا يعني أنّها تتضمّن روايتين وثلاثًا؟ هذا صحيح بالمعنى الحرفيّ للسؤال، لكنّ الكاتب قصد أنّها أكثر من رواية لأنّها تحاكي الوجود والحياة. إنّها فعلًا رواية تحاكي قصّة الإنسان والبشريّة في هذا العصر. إنّها الحقيقة. إنّها أكبر من مجرّد رواية متخيّلة على ورق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا


.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم




.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا


.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07




.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب