الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة / قراءة في لوح التراب

ابراهيم سبتي

2006 / 8 / 30
الادب والفن


الراعي الذي أدركه المطر واحتمى مع شياهه بين أنقاض وخرائب البيوت الطينية المهجورة، هو الذي عثر على الحائط الطيني الذي صمد بوجه الفيضان الهادر واجتاح الأرض الهادئة، فنبش القبور وطافت جثث الموتى وتراقصت هياكل العظام فوق الماء العارم، وسبحت الأفاعي والفئران المفزوعة وانتفخت بطون المواشي النافقة وهربت الكلاب لاهثة تبحث عن أصحابها المذعورين.. وبعد الجفاف المروع الذي ساد الأرض بعد الفيضان.. ظل ذلك الحائط صامداً ولم يسقط، سطرت عليه الحروف محفورة من أسفله إلى أعلاه.. كما رآه الرجال الذين سارعوا إلى البلدة المهجورة بعد أن أخبرهم الراعي.. قرأ أحدهم السطر الأول.. حاول بعناء التقاط الحروف المحفورة.. لكن العجوز الذي حضر فجأة إلى المكان رمق ذلك السطر وسقطت منه دمعة.. قال لهم:
سأقرأ
وسكت قليلاً وبعد النظر طويلاً إلى الحائط..
قراءة أولى / قال
العجوز:
يوجد نقص في بعض السطور.. بعض الكلمات اختفت.. ربما اقتلعت عنوة..
لكن المخطوطة قسمت إلى فصلين..
فصل في ذاكرة التأهب والغياب / الليلة هي الثالثة.. لا شيء غير البرد القارص وسماء ملبدة بغيوم سود.. ينتابني القلق كل لحظة.. الليل الطويل مخيف وممل..
لا أستطيع تصور نفسي نائماً والذئاب تحيط بي، الأصوات البعيدة تصلني، نباح وعواء.. أغرق في ذعر وخوف.. ترك المكان والهرب نحو البلدة الغافية احتمال لا أقدر عليه..
لقد أرسلوني.. قالوا لي دورك في الحراسة، لا نريده يقتحم البلدة ويسرق الماشية.. اقتله.. اسحقه.. بندقيتي العتيقة
تلازمني ما دام العواء يقترب والخوف المشحون بالرهبة وأنا أقبع في بر موحش لا نهاية
له، أطلق العنان لرعشة خفيفة تسري في مفاصلي المرتجفة أصلاً..
الليلة الثالثة ستمضي.. الظلمة متأهبة للرحيل.. ساعتان.. ثلاث لا أدري لكنها سترحل.. هناك
في الخلف تهجع البلدة غافية آمنة مسلمة مفتاحها إلي.. ثلاث ليال وأنا أحرسها لوحدي أتوسد مخاوفي وأرقب ما سيحدث.. الكل ينام بعين واحدة مذعورة مرعوبة.. الناس والشياه، من يدري فقد تطالها المخالب الحادة المشحونة بالموت، بعدها تصب البلدة لعناتها عليّ وقد أتهم بالمشاركة في المجزرة، وربما يصدر الأمر بطردي من
البلدة أو بقتلي إذا كانت الخسائر جسيمة لأني نمت في نوبتي وخنت واجبي.. الليلة الثالثة وأنا استسلم لدفء الخيمة الصغيرة أسفل التل.. أرقب بحذر ذلك الآتي ليقتحم ليل القطعان الآمنة.. قلت ستمر ليلة أخرى والبلدة تنهض في الصباح تهرول نحوي.. لا رحمة بي من ليل بارد مميت، بل ليتأكدوا ما من شيء حدث البارحة ليناموا
ليلة أخرى هانئين... سأقول لهم لم أسمع عواء ذئب أو زعيق وحش ولا نعيق غراب ولا بوم.. لم أر غير ليل بهيم بارد وصفير ريح مخيفة.. لا أقول بأني خائف فقد تطيح بي هذه الكلمة وتجعلني منبوذا إلى الأبد. / توقف.. كلمتان اقتلعتا من مكانهما وصار حفرة صغيرة في الحائط / سأخبرهم بأني أستطيع الحراسة ليلة رابعة وخامسة وسابعة
وستنتهي نوبتي وقد سلمت من انهيار يحوم حولي..
اللحظات منفية والساعات لعداد لها في حساب الحيطة والترقب.. الليل واحد والظلام قرينه، لا ليل بلون أبيض
ولا ظلمة بلون آخر.. أنا أحمي قطعان البلدة من الضواري.. سأطلق الرصاصة من هذه الماسورة الصدئة، وستمزق كل الأجساد المتوحشة المهاجمة وستموت في مشهد دام نادر، ويغرق المكان في مستنقع الدم وأغوص فيه كي أحملها الواحد تلو الآخر إلى البلدة..
هراء.. سخف لا تقدر رصاصة واحدة أن تفعل ذلك! يا إلهي لا أكاد اسمع من البيوت المتناثرة خلفي سوى صرخات امرأة قتل زوجها في ليلة حراسته الأولى أو بالأحرى افترسته الضواري، في الصباح وجدوه عظاماً متناثرة والدماء تغطي الأحجار والتراب.. وظلت زوجته تطلق صرخات كالمجنونة كلما حل ليل جديد.. عندما اسمعها اضغط على زناد بندقية جدي القديمة وأحملق بالتلال المخيفة مضطرباً.. بندقية جدي التي ورثتها عن أبي وهو عن جدي الذي اشتراها لقاء عجل سمين، كلما لامست حديدها الصدئ يتبدد قلقي وأروح في غفوة سرعان ما أفز منها
عندما أتذكر أنها لم تطلق رصاصة، لم أسمع من أبي يوماً أنه قال ذلك.. رغم أن جدي لم يفقد حملاً واحداً من قطعانه كما أخبرني أهل البلدة.. وقد يكون الوحيد الذي لم يطلق رصاصة على وحش أو لص.. ستقضي الليالي السبع وأنعم بنوم رغيد.. أرقب من بعيد ما يحدث عند التلال، سبع ليال هي حراسة كل رجل في هذه البلدة.. الذي يصطاد
وحشاً أو يمسك لصاً يسمى بطلاً.. / هنا امتدت يد العبث واقتلعت ثلاثة أسطر متتالية
من الرقيم ـ الحائط ـ ومحت تفاصيلها /.
فصل في قوانين الريح والصمت /.
الليلة هي الرابعة.. عاصفة تتحرك نحوي.. تطاير تراب التلال، وطارت خيمتي الصغيرة وتشظت بوجهي
رمال محمومة وكأنها نبتت كالمسامير.. لم أعد أمتلك قوتي.. تحركت نحو ملاذ قريب.. عند أسفل التل المجاور.. العاصفة هجمت على المكان برمته وصارت تلعب به كدمية، رحت أركض.. أركض مذعوراًلم يفدني ذلك الملاذ.. لم يحمني.. لقد انهار هو الآخر.. بل تطاير بأكمله.. كان قبل لحظات تلا مهيباً..
لكنه تحول إلى نثارمن الأتربة.. أركض إلى مجاهيل لا أراها.. أسقط.. انهض مترنحاً.. أتعثر بالأحجار
المتجذرة في الأرض الغائصة في لجة الرعب. بتدقيتي لصق جسدي، حملتها برقبتي.. لا أقدر على تركها فلا أدري ما تخبئ لي اللحظات القادمة.. أركض والبندقية القديمة تثقل كاهلي.. صفير العاصفة يشل سمعي، يكاد يصم آذاني، لكني تلقفت عواء قريباً، جفلت في مكاني رغم سرعة الريح، وانزويت تحت بعض الأحجار الكبيرة، انحنيت ورحت أرقب الريح والعواء والتراب المتطاير في الفضاء / يوجد كسر في بعض السطور، فاختفت الكلمات
وسقطت ثلمة من الحائط تقدر بخمسة أسطر، لكن السطر الذي جاء بعدها دونت فيه الكلمات التالية.. الموت يطاردني.. لا أستطيع إضرام النار.. البرد والخوف يشلان حركتي..
فالذي يشعل النار يبعد الذئب عنه ولكنه لا يستطيع أبعاده عن البيوت الغافية خلف التلال /..
الأسطر التي تلت تلك اقتلعت من أماكنها وتعذر قراءتها .
لكن الرجل العجوز عندما وصل إلى أحدها التفت للرجال
قائلاً:
كانت عيناً الذئب مخيفة.. مرعبة تقذف شرراً ينذر بموت أكيد..
الليلة الرابعة (كما موجود في الحائط) قاسية.. لا أثر لي.. أردت تحسس جسدي فلم
أجد ما يدل على ذلك.. أنا مدفون بالتراب.. دفنت حد الرأس.. رأسي وحده خارج المدفن
الترابي.. وشعرت بأني اختنق بحزام بندقيتي المدفونة معي.. قلت أتراني سأصد الضواري
عني وأنا تحت التراب؟ ستمزق رأسي.. بل ستمعن فيه تمزيقاً، تفترس اللحم وترمي
بالجمجمة بعيداً ثم تجر جسدي المدفون وتبدأ بعشائها اللذيذ، وبعد أن تكمل هذا
المشهد تنزل إلى البيوت لتختار فريستها، وتنتهي الليلة لتبدأ ليلة أخرى.. القلق الذي دب في مفاصلي منحني قوة استطعت بها رفع جسدي الواهن..
رفعته بعد أن أزحت كومة التراب.. نهضت أبحث في الظلمة عن أحجار وصخور أتكئ عليها من أعيائي لكني
جرجرت بندقية جدي وسرت نحو البيوت النائمة..
في الليلة الخامسة / الأسطر الأربعة
الأولى غير صالحة للقراءة.. انتقل مباشرة إلى السطر الذي يليها / ماسورة بندقيتي صوت التلال البعيدة.. عواء يقترب.. إصبعي المرتجف على الزناد.. العواء اكتسح رعشتي.. صار يواجهني .. فجأة الذئب أمامي! حقيقة وليس وهما.. انفصل عني إصبعي وصار صلباً كحجارة.. أغمضت عيني قبل أن أطلق النار، بعد لحظة
واحدة فقط لم يعد أمامي.. لم تخرج الرصاصة أبداً.. وخسرت أمنية رؤيته سابحاً صريعاً في بحيرة دم أسود وصدى صيحته تحوم في الفضاء البارد.. لقد اختفى وغرقت بحيرتي محدثاً نفسي.. أما أنه هرب خائفاً أو نزل إلى البيوت الغافية.. أعدت ترتيب نفسي وغادرتني الرعشة وكأن ذلك المنظر أزال عني مخاوفي التي كانت تغزوني قبل أن
أراه، لكن الرهبة ووحشة المكان دفعا بوهم مخيف.. ماذا لو هجم عليّ وافترسني؟ سيمرغ أنفي في الوحل..
وبعد موتي سيقضم هبرة من لحمي طرية ويرحل تاركاً أجزائي المتبقية للغربان السود حيث يبدأ كبيرهم طقوس النهش، سينقر عيني أولاً تمهيداً لاقتلاعهما، وتبدأ المأدبة التي لا يوقفها إلا نباح الكلاب المسعورة التي ستكمل ما
تبقى.. وبذلك سيتوزع دمي بين الجوارح والضواري.. ربما.. ربما.. وقد لا يحدث ذلك بل أموت من الرعب قبل مشهد التقتيل والافتراس. أنا في الليلة الخامسة التي تمضي نحو الانقضاء.. أخرجت كيس التبع، لففت سيكارة واحدة.. أضرمت عود ثقاب، لكني فوجئت.. فوجئت تماماً.. التمعت عين متوحشة.. عينه الثانية تقدح شرراً.. أمسكت البندقية وضغطت بقوة على الزناد.. لم تخرج أية رصاصة.. أطلق عواءه المرعب ووثب
عليّ.. ضغطت ثانية.. لا رصاصة، أنا ميت لا محالة.. حاولت مرة أخرى.. وأخرى.. ارتطم بي، أوقعني أرضاً وأحسست بأن الصخور الصغيرة قد اخترقت ظهري، أنيابه تبحث عن منطقة طرية من جسدي، فجأة دوى صوت الإطلاقة في الفضاء الأخرس..
انقطع العواء وسقط الجسد المتوحش بعيداً عني.. لم يعد فوقي الآن نهضت بخفة قرد،
لا أثر له. بحثت عن جثته.. عنه إن كان حياً.. لا شيء غيري في هذا المكان..
أشعلت عوداً ورأيت خيطاً من الدم.. خيطاً طويلاً على الأرض الترابية.. تابعته، مشيت
محاذياً لـه لكن فقدت أثره ولم أعد أراه..قال العجوز.. السطور الناقصة في النص
يمكن تخيل ما جاء فيها.. سأقرأ اللوح ـ الحائط ـ ثانية وسأضع الكلمات
والسطور المفقودة في أماكنها.. صمت تحت وابل دموعه وقال والحيرة نبتت فوق
رؤوس الرجال سأحكي لكم ما جرى في الليلتين السادسة والسابعة..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو


.. في عيد ميلاد عادل إمام الـ 84 فيلم -زهايمر- يعود إلى دور الس




.. مفاجآت في محاكمة ترمب بقضية شراء صمت الممثلة السابقة ستورمي