الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصاصة ورق غيرت مجرى التاريخ: هكذا بيعت فلسطين(2-2)

خليل اندراوس

2021 / 12 / 18
القضية الفلسطينية



بعد سردنا لمؤامرة التشهير والفساد التي قامت بها الحركة الصهيونية في بريطانيا، ونخص بالذكر اللورد روتشيلو ذاته وزملاءه من الزعماء الصهيونيين والتي أدت إلى الإطاحة بحكومة إيسكويت الرافض للإيديولوجية الصهيونية، علينا أن نتطرق الآن إلى الطرف الثاني من خطة المؤامرة التي كانت ترمي ليس فقط إسقاط الوزارة برئاسة إيسكويت بل إلى تقويض أجهزة النظام القائم في ذلك الوقت في بريطانيا. وهنا لا بد وأن نذكر بأن الصهيونيين كانوا منذ أمد بعيد يسيطرون على الصناعات الحربية في إنجلترا. وعندما قررت الحركة الصهيونية في بريطانيا محاربة حكومة إيسكويت المعادي للصهيونية وجدت إنجلترا نفسها فجأة وسط الحرب أمام أزمة شديدة في الصناعات الكيميائية التي هي الأساس لصنع الذخائر الحربية والمتفجرات وغيرها... وامتدت الأزمة أيضا إلى مصانع المدافع التي اضطرت إلى تقنين إنتاجها، وألقى الشعب التبعة بالطبع على عاتق حكومة إيسكويت الرافض والمناهض للصهيونية.

وكان المشرف على الإنتاج الكيماوي في إنجلترا السير فريدريك ناثان، وقد عهد إلى معامل برونر وموند بتلافي أزمة إنتاج المواد الكيماوية، ومنحها أرصدة حكومية ضخمة لهذا الغرض. أما مالكا هذه المعامل، "السيران" برونر وموند اليهوديان فقد بنيا معملًا كيماويًا ضخمًا في سيلفر تاون. وعلى الرغم من أنه بني بأرصدة حكومية إلا أنه حين بدأ هذا المعمل إنتاجه أخذت الأجهزة الدعاية والصحافة التي يسيطر عليها طبقة رأس المال الصهيوني تكيل آيات المديح جزافا لبرونر وموند الصهيونيين، وتنسج هالات التمجيد المزيفة حولهما وحول أصحاب رأس المال الصهيوني ناسبة إليهم وخاصة إلى برونر وموند بأنهم يدعمون الإنتاج الحربي البريطاني وفي وقت تخيط فيه الأخطار ببريطانيا.

وهكذا، ظهر هؤلاء بمظهر المنقذين لبريطانيا، وبقيت تبعة اللوم على عاتق حكومة إيسكويت. بيد أن معمل سيلفر تاون الذي يملكه برونر وموند والذي تم بناؤه بأرصدة حكومية ضخمة من قبل حكومة إيسكويت، لم يلبث أن انفجر فجأة، وقتل أكثر من أربعين شخصًا في هذا الانفجار المدبر، وتهدم ثمانمئة منزل... وكانت النتيجة أن الإنتاج الحربي الكيماوي رقد وفشل من جديد، وعادت الأزمة تهدد وزارة إيسكويت، وظل الأبطال المزيفون، لا بل أصحاب المؤامرة الصهيونية وطبقة رأس المال الصهيوني، بمنحى من اللوم ويحيط بهم العطف والمديح... ويجب أن نذكر بأن "السير" الفرد موند المذكور، والذي كان يشرف على المعمل الكيماوي مبعوثًا من قبل الملك البريطاني، أصبح هو بعينه فيما بعد رئيس الوكالة اليهودية الصهيونية في فلسطين. هذا مثال نموذجي يبين كيف تشوه طبقة رأس المال الصهيوني والإعلام الصهيوني ليس فقط البريطاني لا بل العالمي سمعة الناس المخلصين والمناهضين لسياسات الحركة الصهيونية ليس فقط في ذلك الوقت لا بل وحتى الآن.

منذ إقامة هذه الحركة الصهيونية العنصرية الشوفينية، وقبل وبعد وعد بلفور وقبل وبعد إقامة إسرائيل، التي تقوم بدورها كقاعدة أمامية للإمبريالية العالمية في منطقة الشرق الأوسط وغرب آسيا، وحتى على مستوى عالمي، لا تترك معلومة ولو تافهة صغيرة إلا وحللتها وتأكدت من صحة ما جاء بها، وذلك من خلال تجنيد طابور طويل من العملاء والجواسيس في كل البلاد العربية وغير العربية، وهنا أيضًا داخل إسرائيل، يمدون الحركة الصهيونية والمؤسسة الصهيونية الحاكمة في إسرائيل بجسر متصل من المعلومات السرية وغير السرية ومن النشاطات السياسية والاجتماعية والثقافية يوميًا، خدمة لمشروعها الصهيوني العالمي وإستراتيجيتها الهادفة إلى الهيمنة والسيطرة على الشرق الأوسط، وحتى الوصول إلى مشروع، لا بل وهم وخيال إسرائيل الكبرى، من النيل إلى الفرات، والتطبيع مع إسرائيل من قبل بعض الدول العربية، وخاصة الإمارات ودول الخليج والمغرب يعزز لدى حكام إسرائيل الاعتقاد بإمكانية تحقيق هذا الوهم.

تقول موسوعة المعرفة اليهودية عن الصهيونية: "لقد أجبرت الحرب العالمية (الأولى) الصهيونيين على نقل مركز المنظمة الصهيونية من برلين مركزها السابق إلى نيويورك، ونقلت السلطة بأجمعها إلى لجنة الطوارئ الاحتياطية للصهيونية برئاسة القاضي الأمريكي د. براندييس BRANDEIS، ويقول يعقوب دي هاسس في كتابه "لويس ديمبتز براندييس: "أما المكتب الصهيوني للهجرة فإنه تشعب وامتد ليشمل جميع القطاعات الحربية التي احتلها الحلفاء، وشملت تركيا، سوريا، فلسطين، الأردن، بغداد. وفي الواقع، فإن أي قرش واحد من الملايين التي استلمها المكتب لم تذهب سدى... وابتدأت باستعمال مكاتب الشؤون الخارجية للولايات المتحدة للاتصال وللإبداع ثم نجحت مكاتب الهجرة نجاحًا باهرًا وأصبح في الإمكان الاعتماد عليها، حتى أن وزارة المالية الأمريكية اعتمدت عليها واستخدمتها في إيصال الأموال والرسائل التي لم تتمكن من إيصالها بنجاح. وقد قدمت السفارات في العواصم الأوروبية مبالغ نقدية بناء على طلب أمين سر الهيئة التنفيذية للمنظمة الصهيونية في نيويورك، وفي كتاب "كل هذه الأشياء" للكاتب إ.ن فيلد وهو يتحدث عن الحوادث التي تلت عزل إيسكويت عام 1916، يقول في الصفحة 104: "لقد أصبح التأثير اليهودي في السياسة البريطانية واضحًا بعد ظهور السير لويد جورج". ويقول ل. فراي في الصفحة 55 من كتابه "مياه تتدفق على الشرق": "عقد الاجتماع الرسمي الأول للجنة السياسية (يقصد الصهيونية) في السابع من شباط عام 1917 وفي منزل الدكتور موسى غاستر، وقد حضر هذا الاجتماع كل من اللورد روتشيلد، جيمس دي روتشيلد (ابن إدموند دي روتشيلد الباريسي والمالك السابق لمستعمرات روتشيلد في فلسطين)، يجب أن نذكر في هذه المناسبة أن إدموند دي روتشيلد هذا هو منشئ مدينة تل أبيب إلى جانب عدد كبير من المستعمرات اليهودية الصهيونية في فلسطين، ومنها ريشون ليتسيون، والسير مارك سايكس الذي كان منزله في حي باكنغهام غايتس مجهزًا ليكون مركز قيادة القضية الصهيونية، وقد تجهز بجهاز تلغرافي وغيرها...

السير مارك سايكس هو سايكس الشهير ممثل إنجلترا في اتفاقية سايكس-بيكو المعروفة التي قسمت بموجبها سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق بين الاستعمارين الفرنسي والإنجليزي، ويفسر لنا هذا الاجتماع الدوافع الخفية لهذه الاتفاقية التي غيرت مصير الأمة العربية.

والسير هربرت صموئيل (أو المندوب السامي لبريطانيا في فلسطين فيما بعد، ومنظم الهجرة الصهيونية إلى فلسطين)، هربرت بنتويتسش (النائب العام في فلسطين فيما بعد)، هاري ساشر، جوزيف كاوين، حاييم وايزمن (أول رئيس لدولة إسرائيل)، ناحوم سوكولوف (الذي كتب فيما بعد "تاريخ الصهيونية"، وفي هذا الاجتماع نوقش بالتفصيل البرنامج الصهيوني الذي سيستخدم قاعدة في المفاوضات الرسمية التي تشمل مصير فلسطين وأرمينيا ومنطقة ما بين النهرين (العراق) ومملكة الحجاز، وتفاصيل هذا الاجتماع وصلت بالشيفرة إلى التنظيم الصهيوني في الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الوقت وحتى الحاضر بدأ التنظيم الصهيوني في الولايات المتحدة يتدخل في صياغة السياسة البريطانية والأمريكية وفي توجيه سياسة هذه الدول الداخلية والخارجية، وأكبر مثال على ذلك في عصرنا الحاضر الإطاحة برئيس حزب العمال البريطاني الداعم للقضية الفلسطينية، لا بل وحتى طرده من الحزب، ووقاحة رئيس حكومة إسرائيل الذي طلب من وزير خارجية الولايات المتحدة وقف المباحثات مع إيران حول إعادة الاتفاق معها حول برنامجها النووي السلمي وإلغاء العقوبات على إيران، في حين تمتلك إسرائيل ترسانة كبيرة من السلاح النووي، وتعتبر إسرائيل دولة نووية عظمى. في حين من مصلحة شعوب المنطقة بما في ذلك إسرائيل تحويل منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة خالية من السلاح النووي. ولكي نصور لشكل ملموس مدى سيطرة طبقة رأس المال الصهيوني البريطاني وفي أمريكا، بعد أن تم الاتفاق بين السير مارك سايكس ووايزمن وسوكولوف تقرر إرسال رسالة سرية إلى القاضي براندييس -رئيس لجنة الطوارئ الاحتياطية للصهيونية في نيويورك- تخبره أن الحكومة البريطانية مستعدة لمساعدة اليهود في الحصول على فلسطين مقابل تعاطف يهودي فعال، ومقابل تأييد قضية الحلفاء في الولايات المتحدة بشكل يخلق تيارًا قويًا يدعم اشتراك الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى. وقد أرسلت الرسالة بالشيفرة عبر مكتب الخارجية البريطانية، كما أرسلت رسالات سرية أخرى إلى القادة الصهيونيين في روسيا. واستطاع الدكتور وايزمان (أحد مؤسسي الصهيونية) أن يؤمن عن طريق الحكومة الإعفاء من الخدمة العسكرية لستة من الشبان الصهيونيين، وذلك لكي يعملوا بنشاط من أجل القضية الصهيونية، وكانت الخدمة العسكرية في بريطانيا في ذلك الوقت إجبارية، ولم يعف منها إلا أولئك الذين يعملون في أعمال وطنية مهمة تمنعهم من الخدمة الفعلية على الجبهة. وهنا لا بد أن نذكر بأن الدعم السياسي البريطاني للوجود اليهودي المتزايد في فلسطين قام على حسابات جيوسياسية. بدأ هذا الدعم في أربعينيات القرن التاسع عشر، وقاده اللورد بالمرستون بعد احتلال محمد علي لسوريا وفلسطين. بدأ النفوذ الفرنسي ينمو في فلسطين والشرق الأوسط عمومًا كحامية للمجتمعات الكاثوليكية، كما بدأ النفوذ الروسي أيضًا بالنمو باعتبار روسيا حامية للأرثوذوكس الشرقيين في ذات المناطق.

ترك هذا بريطانيا دون أي نفوذ في تلك المناطق، لذا احتاجت بريطانيا أن تجند أو تخلق من "تحميه" في هذه المناطق، فقامت بدعم المشاعر المسيحية المتعاطفة مع "إعادة اليهود" إلى فلسطين بين أوساط النخبة السياسية البريطانية في منتصف القرن التاسع عشر، وهذه الاعتبارات الاستعمارية السياسية البريطانية وجدت الدعم من شخصيات بريطانية بارزة وعلى رأسهم اللورد شافتسبري. وقد شجعت وزارة الخارجية البريطانية هجرة اليهود بنشاط إلى فلسطين، ومثال على ذلك نصائح تشارلز هنري تشرتشل في 1841 – 1842 لمؤسس مونتيفيوري زعيم الجالية اليهودية البريطانية في ذلك الوقت.

لم تنجح هذه الجهود الباكرة في زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، حيث كان في ذلك الوقت فقط 24 ألف يهودي يعيشون في فلسطين، عشية ظهور الصهيونية داخل المجتمعات اليهودية في العالم في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر. ومع التراجع الجيوسياسي الناجم عن اندلاع العرب العالمية الأولى، أدت الحسابات القديمة التي أهملت لبعض الوقت إلى تجديد التقييمات الإستراتيجية، وقيام مفاوضات سياسية على منطقتي الشرق الأوسط والشرق الأقصى، والإمبريالية العالمية والحركة الصهيونية العالمية وربيبتهما إسرائيل مستمرون في وضع حسابات إستراتيجية عدوانية، ومحاولة خلق خرائط الدم في الشرق الأوسط وأيضًا في غرب آسيا والشرق الأقصى.

وعودة إلى القائد الصهيوني حاييم وايزمن، وهو أحد رؤساء المنظمة الصهيونية العالمية، الذي انتقل من سويسرا إلى المملكة المتحدة عام 1904، والتقى بآرثر بلفور. وفي عام 1905 رد وايزمان على بلفور الذي اقترح إقامة وطن قومي لليهود في أوغندا بأنه يعتقد -أي وايزمن- أن الإنجليزية تنتمي للندن كما ينتمي اليهود إلى القدس.

وقد التقى وايزمن والبارون إدموند روتشيلد، وهو عضو في الفرع الفرنسي لعائلة روتشيلد وداعم رئيسي للحركة الصهيونية، للمرة الأولى في كانون الثاني عام 1914، ليتحدثا عن مشروع بناء جامعة في القدس. لم يكن البارون روتشيلد جزءًا من المنظمة الصهيونية العالمية، ولكنه أسس المستعمرات الزراعية اليهودية للهجرة اليهودية الأولى، وقام بنقلهم إلى الرابطة الاستعمارية اليهودية عام 1899. أتى هذا الاتصال أكله في وقت لاحق من هذا العام عندما طلب ابن البارون، وهو جيمس دي روتشيلد، لقاء وايزمن في 25 نوفمبر عام 1914، لكي يتطوع في التأثير على بعض من يعتبرون مقبولين في الحكومة البريطانية لأجندتهم لإقامة "دولة يهودية" في فلسطين. وعن طريق دوروثي زوجة جايمس، التقى وايزمن بروتزيسكا روتشيلد التي قدمته إلى الفرع الإنجليزي للعائلة، وتحديدًا زوجها تشارلز وأخيه الأكبر منه والتر، وهو عالم حيوان وعضو في البرلمان. كان لوالدهما ناثان روتشيلد البارون الأول في العائلة ورئيس الفرع الإنجليزي من العائلة موقف متريث من الصهيونية، ولكنه مات في آذار عام 1915، وورث ابنه والتر اللقب عنه.

وقبيل إعلان وعد بلفور، قصاصة الورق التي غيرت مجرى التاريخ، كان نحو 8000 من أصل 300000 يهودي بريطاني ينتمون إلى المنظمة الصهيونية وعلى المستوى العالمي، بحلول عام 1913 وهو آخر تاريخ معروف قبيل إعلان وعد بلفور المشؤوم، كانت نسبة من ينتمون إلى الصهيونية تعادل 1% من اليهود.

(انتهى)



المراجع:

أحجار على رقعة الشطرنج – وليام غاي كار

الشرق الأوسط وخرائط الدم- د. طارق عبود

جواسيس الموساد العرب- فريد الفالوجي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما مدى أهمية تأثير أصوات أصحاب البشرة السمراء في نتائج الانت


.. سعيد زياد: إسرائيل خلقت نمطا جديدا في علم الحروب والمجازر وا




.. ماذا لو تعادلت الأصوات في المجمع الانتخابي بين دونالد ترمب و


.. الدفاعات الجوية الإسرائيلية تعترض 3 مسيّرات في سماء إيلات جن




.. فوضى عارمة وسيارات مكدسة بعد فيضانات كارثية في منطقة فالنسيا