الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شحاذون

فاطمة ناعوت

2021 / 12 / 19
الادب والفن


Facebook: @NaootOfficial

في إحدى مدن اسكتلندا القديمة، كنتُ أتجوّلُ حتى استوقفني تمثالٌ من البرونز لفارس مُدجّج بالسيوف والدروع. يضعُ فوق كتفيه شالا ذهبيًّا ويعتمر خوذةً فضيّة برّاقة. وجهه برونزيٌّ لامعٌ جامدُ الملامح عَبوسُها؛ كما يليقُ بمحارب من العصور الوسطى. ينتصبُ الفارس المصقولُ أمام بوابة خشبية مغلقة بلوحين متقاطعين من الخشب مثبتتين بمساميرَ وصواميلَ حديدية ضخمة وسلاسل. أنظرُ في عيني الفارس فلا أرى إلا خواءً يرنُّ صداه في عمق الأزمنة السحيقة؛ فتساءلتُ: تُرى كم قتيلا قتلَ هذا السيفُ وكم طعنةً ردّها درعُه؟ غيرُ المفهوم أن سلةً من الخوص تقبع تحت قدمي الفارس بها بعض العملات المعدنية من فئة الجنية الاسترليني ومضاعفاته! لماذا يهبُ الناسُ أموالهم لتمثال؟! ثم تذكّرتُ مقولة علي بن أبي طالب: "لا تستحِ من إعطاء القليل فإن الحرمانَ أقلُّ منه"، فقررتُ أن أجازفَ بثروتي وأضع بضعة جنيهات إنجليزية في السلة تيمنًّا بعصر الأبطال القدامى، وأنا أحسبُ أن المال يذهب إلى دار أيتام بريطانية أو مؤسسة خيرية. وفجأة يبتسمُ وجه الفارس الفولاذي، وينحني أمامي انحناءة جنتلمان يحيي سيدة من نبيلات القرون الوسطى، ثم تمتد يده ببطء تلتقطُ يدي، ويطبعُ عليها قبلة. شحاذ؟!!!! نعم شحّاذ. فالأوروبيون يُبدعون في طرائق الشحاذة فتفوقوا على مخرجي الأفلام. واحدهم يعزف على جيتار أو فيولين أو أكورديون. واحدهم يطلي جسده بالبرونز وبودرة الذهب ليصير تمثالا لا تدخله الحياةُ إلا بعدما تدفع. وللشرق في ذلك فنون أخرى. مثل ترويض الثعابين وابتلاع النار والنوم على المسامير، مثل الحواة والسحرة في الهند والمغرب وفي مصر كذلك. أساليبُ طريفة لاستخراج المال من جيبك مقرونة بالابتسامة على وجهك، فتتحوّل "الشحاذةُ" إلى طقس مرح، بدلا من طلب المال بالتوسّل والتسوّل والدموع.
ومفردة "شَحَذَ" في اللغة تعني: أحدَّ نصلَ السيف أو صقلَه، كذلك شحَذَ البصرَ فأحدّه وحدّق جيدًا، وشحذَ الناسَ أي ألحَّ عليهم بالسؤال والتسوّل. وقال أحدُ الشعراء الصعاليك في ذلك بيتًا شعريًّا طريفًا: "وإني لأستحي من الله أن أُُرى/ أجرجرُ حبلاً ليس فيه بعيرُ/ وأن أسألَ الخبَّ اللئيمَ بعيرَه/ وبُعران ربّي في البلاد كثيرُ".
وثمة شحاذةٌ من نوع آخر يعرفها الفلاسفة. كما عرفنا عن الإغريقي "ديوچين" الذي كان يحمل مصباحًا في رابعة النهار، وهو الأعمى، ليبحث عن الحقيقة. ثم ينامُ في صندوق قذر بملابس رثّة غير عابئ بالدنيا من حوله، متأملا الكون والحياة. ولما جاءه الإسكندر الأكبر عارضًا عليه أن يطلب أي شيء يريد فيحققه له في الحال، أجابه ديوجين بصلف وكبرياء: "فقط اِبعدْ، فإنكَ تحجبُ الشمسَ عني!"
وأما أشهرُ الشحاذين في الأدب العربي المعاصر فهو "عمر الحمزاوي" بطل "الشحّاذ" لنجيب محفوظ الذي تحلُّ ذكرى عيد ميلاده هذه الأيام. وأراها أجملَ رواياته، عطفًا على "الطريق" و"ثرثرة فوق النيل". محامٍ لامع ثريٌّ وناجح على صعيد الصحة والعمل والحياة والأسرة. كان شاعرًا في شبابه. أصدر ديوانًا ثم هجر الشعرَ بعدما انخرط في المحاماة، وفي الحياة. وفجأة، في منتصف العمر، يفقد الحماسَ لكل شيء وتخمُل قواه وتخمُدُ طاقتُه دون سبب مفهوم. يضيقُ بالعمل وبالناس وبالحياة وبنفسه. يبحث عن الرضا دون جدوى. ويظلُّ يطارد السعادةَ في شتى مكامنها ومظانّها المغلوطة: اللهو، الخمر، النساء، المخدرات، السفر. وفي الأخير راح يبحث عن الله. فيتردد في عمقه السحيق قولٌ يختتمُ الروايةَ: "إن كنتَ حقًّا تريدُني فلمَ هجرتني!؟ هي أحد أمراض البرجوازية والرفاه. لكنه المرضُ والعوَزُ الأشد وجعًا من عوز المال والصحة. يهرب من الدنيا ليجد ذاته فلا يجدها. ويغرق في الأحلام والفانتازيا. ويزعجه أن الدنيا لا تتركه حتى في أحلامه. فيقول لأصدقائه وأهله إذا زاروه في الحلم: "زولوا لأرى النجوم".
وثمة ُ"عمَر" آخر أعرفه. غزيرُ الشَّعرِ أسودُه. مثل الشحّاذ البطل. لكنه طفلٌ. لا يبحث عن الحقيقة ولا يطاردُ السعادة. بل يفتّشُ عن نفسه وسط الكثرة. يرجو الوحدةَ شأن المتوّحدين. ينأى عن العالم والضجيج ويبني عالمه الخاص من قشور البرتقال والقناني الفارغة وأغطية القوارير. يغمسُ الريشةَ في اللون ويرسمُ سماءً ونجومًا وشمسًا وقمرًا. في مقدمة اللوحة تنينٌ ضخمٌ يلفظُ ألسنةً من لهب حارق. وفي الركن السفليّ إنسانٌ ضئيلٌ خائفٌ يرتجف. لا حول له، ولا قوة. حرٌّ يعيشُ بقانونه الخاص الذي لا يتفقُ مع قوانين البشر. يجمع معًا ما لا يجتمع، ويبني عالمًا جميلا لا كراهية فيه ولا بغضاء! هذا "عمر" ابني المتوحد الجميل، الذي علّمني أن الحبَّ هو قانون الحياة الأسمى والأرقى. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبون الوطن.”
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العراق. أيام التراث الموصلي مهرجان لنشر تقاليد وثقافة الموصل


.. إليكم ما كشفته الممثلة برناديت حديب عن النسخة السابعة لمهرجا




.. المخرج عادل عوض يكشف فى حوار خاص أسرار والده الفنان محمد عوض


.. شبكة خاصة من آدم العربى لإبنة الفنانة أمل رزق




.. الفنان أحمد الرافعى: أولاد رزق 3 قدمني بشكل مختلف .. وتوقعت