الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطب النفسي من تمائم المشعوذين الى حبات الليثيوم..

مجيب العمري

2021 / 12 / 20
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


ان ضروب الجنون وحالات العته والصرع والقلق والذهان والبيبولار وحتى والهرطقة والزندقة بقيت طويلا حبيسة جدران دور العبادة والكهنة وحتى رجال السياسة والدين طيلة ازمان طويلة. طيلة كل هذا الزمن لم تحتج الحضارة لطبيب نفسي يعالج الفوبيا والقلق والوساوس وحالات الاكتئاب الذهانية. قرون من الحضارة قد ولت استأثر المشعوذون والسحرة وفعلة التمائم خلالها بمهام أعتى الدكاترة والبروفيسوارت من أجل علاج الأمراض النفسية الأكثر تعقيدا.
إن من المهم التنويه أن الطب النفسي لم يكن على الإطلاق احد اعمدة الطب الكلاسيكية ولا احد اكثر الاختصاصات قدما في تاريخ الطب منذ اسكليبيوس وصولا إلى اختراع الرنين المغناطيسي والعلاج بالطب النووي. من البديهي اليوم ان يهتم أطباء الغدد بوظائف الهرمونات، وأن يهتم أطباء العظام بالكسور والحوادث واطباء القلبية بالقلب والشرايين. هذا التقسيم العضوي التشريحي الذي يبدو لوهلة طبيعيا وحتى اوتوماتيكيا لنا، لم يكن بتلك السهولة ابدا من أجل تفسير الأمراض النفسية ومأتاها. احتاج العلم والبشر لكثير من الوقت وربما الكثير من التجارب من أجل إيجاد تصنيف مميز للأمراض النفسية وفهم مأتاها الرئيسي أي الدماغ (غالبا) .
إن استقلال الطب النفسي عن طب الأعصاب في فرنسا مثلا لم يحصل سوى قبل خمسين سنة فقط. دول اخرى متقدمة مثل ألمانيا لاتزال تعتمد كلمة طبيب الأعصاب في لغتها العامية Nervenarzt لتخلط بين الطبيب النفسي وأخصائي أمراض الجهاز العصبي. هذا الخلط وإن كان مأتاه الأساسي قرونا من البحث والتمحيص لفهم دور الدماغ في ظهور أمراض من دون تغيرات مورفولوجية تذكر في الدماغ، فهو يحيل بدوره الى قرون من الشعوذة وسطو السحرة والكهنة على مهام الأطباء.

إن الجهل بأصل الأشياء لم يمنع يوما البشر من ابداع تفاسيرهم الخاصة. من الطبيعي أن يشعر الرجل العادي بالرضا عن العالم، و الاكتفاء بتفاسير سهلة قد تأتي اما صدفة او تتوارث على امتداد الأجيال تحت مسمى الفلكلور و الثقافة. على أنه من غير المنصف على الإطلاق القول بأن الأشخاص العاديين يفتقرون إلى القدرة على تقبل التفكير أو حتى التغيير.
إن أمراضا عصبية شائعة مثل متلازمات الصرع قد استغرقت سنوات طويلة وربما الاف السنين للخروج من بوتقة تفسير عين الشيطان عند الهنود او مس الجن عند العرب الى منظومة تفكير علمي متكامل يعتمد على دراسة تشنجات غير طبيعية في الجهاز العصبي المركزي بالامكان مشاهدتها، قيسها وصولا إلى التخلص منها. من المبالغة اتهام الأسلاف بالكثير من الجمود والتفسير الابله لظواهر عصبية أو نفسية باثولوجية (مرضية). إن مشاهدة نوبات توترية عامة أو حتى محدودة تلف جسد أحدهم مع اختلاجات ارتعاشية متبوعة بارتخاء عام ينتهي بفقدان الوعي هو حتما مصاب جلل و أمر مريب يثير الخوف، الاستغراب واثارة جميع التفاسير الماورائية حتى في الأزمان المعاصرة.
في مسلسل عائلي شهير أذيع في بدايات الالفينات في التلفزيون التونسي قمرة سيدي المحروس عرف المشاهدون شخصية البطلة دليلة، خادمة احد اضرحة الصالحين. دليلة كانت تصاب بنوبات من التشنجات العصبية تماما مثلك تلك المتعلقة بالصراع او حتى تشنجات نوبة شاركوت الهستيرية (كتشخيص تفريقي) أبان زيارات المتبركين، المنبهرين بتلك النوبات الغريبة، الغامضة و المثيرة للرهبة. دليلة صعدت بفضل اعراضها الاكلينيكية المرضية من مجرد شخص مريض الى عليين, يتبرك بها العامة و المريدون. يقيمون من أجلها التباريك والنذور يبغون بركاتها التي تكون في اعلى فاعليتها وقربها للسماء عندما تأتي النوبة.

لطالما حملت الأمراض النفسية و العصبية رونقا خاصا وغموضا لافتا مقارنة ببقية الأمراض العضوية. كيف لا ونحن نقسم الأطباء في المشافي الى يومنا هذا الى اطباء صحة بدنية ونفسية. ان التعامل نفسه بين الأطباء اليوم يجب أن يقترن بالكثير من الدراسات السوسيولوجية لمزيد فهم عجز او ربما تغافل اطباء الامراض العضوية في شريحة لا بأس بها عن مواجهة الأعراض النفسية: الخوف منها، في احيان اخرى تفاديها وفي أغلب الأحيان المبالغة في توصيف خطورتها، كل هذا بالرغم من سنوات الدراسة بكليات الطب التي درست الطب النفسي لجميع طلبتها. اغلب ظني ان هذا التخوف وفي كثير من الأحيان السخرية المبالغ فيها من عمل الطب النفسي ينبع أساسا من تواصل عدم الوعي المتوارث، ترسبات الثقافة المجتمعية: ثقافة التابو، المحرم وتفاسير المشعوذين بالرغم من المعرفة الاكاديمية. كيف لا و الأمر بديهي المعرفة لم تكن يوما صنوا للوعي. من المسلم بعد قرابة نصف قرن من الاستقلال كعلم واختصاص مستقل الذات أن تواصل التفاسير الماورائية لامراض المزاج او الذهان الارتكاز على تفاسير غير عقلانية وغير منطقية على غرار العقاب الإلهي، لبس الشياطين، الفساد الأخلاقي وحتى ترك العبادات والفرائض والنوافل.
لا يمكن أن نمر مرور الكرام على هذه التفاسير التي قد يقتبسها الكثيرون بغض النظر عن مستواهم العلمي والأكاديمي.
أوروبا القرون الوسطى التي اعتبرت المسافرين وحدهم في الطرقات وابناء علاقات خارج إطار الزواج المسيحي و النسوة المتعلمات سحرة مرضى نفسانيين تمت شيطنتهم وحتى ملاحقتهم في الشوارع ورميهم في الأنهار تحت مسمى العته والجنون و حتى الهرطقة، لا تختلف كثيرا عن تفاسير ثقافات شبه الجزيرة الهندية عن مس الشيطان أو حتى تفاسير حضارات الشرق الاوسط زمن ما بعد ظهور الإسلام. لا يخفى على أحد أن الثقافة الدينية لم تتوان عن الصدام مع الطب النفسي الحديث؛ يبدو الأمر بديهيا و حتميا خاصة وأن العلاقة لا يمكن إلا أن تكون صدامية في البداية.

ان دخول الادوية والعلاج النفسي لامراض المزاج ومشاكل الشخصيات المرضية يتعارض تماما مع الكثير من التفاسير الموجودة في الكتب المقدسة. طيلة مسيرتي في المشافي لم يكن من النادر ابدا لقاء متدينين من ديانات مختلفة مصابين بمختلف الأمراض النفسية. أكثر ما يجمع هؤلاء هو الشعور بالذنب إزاء حالات الاكتئاب. اعترف انني لا أملك إحصائيات دقيقة في الأمر وإنما كل ما في الامر مجرد انطباعات متتابعة و متكررة عن مرضى يغرقون في الذنب لأن التقصير نتاج أفعالهم وشرورهم فجازتهم السماء على قدر شرورهم.
من الجدير القول ان الصدام تجاوز التشخيص الطبي للاكتئاب مثلا ووصل حد المنافسة على وصف العلاج، وهي على الأغلب علاجات كانت ولازالت نتاج سنوات من الفلكلور والوصفات التقليدية والرقيات والتمائم المتكررة لطرد العين والحسد والسحر والتغذي بمكنونات الكتب المقدسة وسير الصالحين. اذكر اثناء عملي قبل سنوات في أحد بلدان الشرق الاوسط في قسم طب الأطفال ان احد الاطفال المصابين بمشاكل في السلوك الناتجة عن حالة اكتئاب حاد قد أصيب بنزف داخلي حاد استوجب تدخلا طبيا نتيجة عن تعرضه للضرب المبرح من أحد المعالجين الروحانيين من أجل طرد الأرواح الخبيثة التي ما انفكت تبعث سمومها وافكارها الشريرة. علي ان اقر ان التفسير الماورائي في كل الأحوال أكثر إثارة وغموضا من مجرد الحديث عن نواقل عصبية، عوامل جينية معقدة وظروف اجتماعية أكثر تعقيدا. فمن اليسير حينها الحصول على شفاء سهل، عبر تفسير سهل لمشكل يبدو صعبا.

من تمائم المشعوذين الى حبات الليثيوم Lithium ، يبدو أن الطب النفسي قد خطى خطوات كبيرة من شعوذات الكهنة إلى حد ادنى من المنهجية العلمية وان كان اساسا مبنية على معطيات إحصائية من أجل تفسير العادي و الباثولوجي . تفسير العادي يبدو أيضا أشكالا عويصا في مجتمعات ديناميكية ومتغيرة. يبدو أن قدر الطب النفسي هو البقاء في تجاذبات مزمنة تجاوزت وظيفته الطبية لتلصق به أبعادا سياسية وثقافية وحتى انثروبولوجية. لا اعلم ان كان للطب النفسي القدرة على الصمود أمام جميع التجاذبات السياسية منها والثقافية.. لكنني على ثقة كبيرة بمفعول حبات الليثيوم، على اقل الى أن يأتي ما يخالف ذلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا تلوح بإرسال قوات إلى أوكرانيا دفاعا عن أمن أوروبا


.. مجلس الحرب الإسرائيلي يعقد اجتماعا بشأن عملية رفح وصفقة التب




.. بايدن منتقدا الاحتجاجات الجامعية: -تدمير الممتلكات ليس احتجا


.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تغلق شارعا رئيسيا قرب و




.. أبرز ما تناولة الإعلام الإسرائيلي بشأن تداعيات الحرب على قطا