الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليست مؤامرة خالصة ولا ثورة بدون شوائب

مصطفى مجدي الجمال

2021 / 12 / 20
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


مرت إحدى عشرة سنةعلى انتفاضة 25 يناير 2011 وهو مدى زمني يسمح بالتفكير دون ضغوط المتطلبات النضالية الجارية والحوادث المتتالية، بما فيها من تقلبات كثيرة. ويمكن القول ابتداءً إن القوى الثورية البازغة وقتذاك تعاني اليوم من الإحباط والتفكك وضبابية النظرة للمستقبل (بعيدًا عن الشعارات المدوية بلا فعل أو سند واقعي).. بينما نجد القوى الرجعية قد استعادت الكثير من فاعليتها ومواقعها، وإن ارتدت ثيابًا مختلفة وأفرزت "كوادر" وواجهات جديدة.
هذه هي النتيجة المُرّة التي لا ينكرها إلا حالم أو مكابر. وأصبحنا اليوم أمام خطابين رئيسيين في المحافل الرسمية والإعلامية. أحدهما يعتبر انتفاضة 25 يناير مؤامرة أمريكية مكتملة الأركان (ترفع شعار الدمقرطة واحتواء الإسلام السياسي القابل بالديمقراطية والمدنية ولا يشكل خطرًا على الغرب وإسرائيل والنظم الرجعية العربية.. وتم طلاء هذه الرؤية بتأسيس أيديولوجي عنوانه "المجتمع المدني" الذي جرى اختزاله عمليًا في الجمعيات الحقوقية والحركات السياسية النخبوية وبعض الكوادر ذات الشهرة والمأمونة غربيًا).. واستمات الخطاب المعادي لـ 25 يناير في تضخيم الأخطار المحيقة على سيادة الدولة "الوطنية" وعلى "الاستقرار" الاجتماعي والنمو الاقتصادي وقدرات الدولة في مواجهة الإرهاب والطائفية..الخ. ومن ثم رأت فيها سنوات بائسة حافلة بالفوضى والخراب والعمالة (كما لو كان النظام نفسه منيعًا على التبعية). وقد راهن النظام على استعادة قدرات الدولة تدريجيًا حتى لو استلزم الأمر بعض المناورة مع الثورية، بل وحتى تسليم السلطة لجماعة الإخوان المسلمين لمدة عام كامل، وذلك في إطار التفاف استراتيجي طويل النفس.
أما الخطاب الآخر (الذي أخذ في الخفوت بعجلة متسارعة) فقد منح الانتفاضة، بلا تحفظ، سمات النبالة والتقدم والنزوع الإنساني للعدالة والتمدن.. وفي الحقيقة أن الانتفاضة وقفت ببسالة ضد الفساد وتوريث الحكم وبطانة لصوص (لا رجال) الأعمال والدكتاتورية الصريحة والمقنّعة.. وبالطبع أفرزت الانتفاضة كوادرها الجديدة والمجدَّدة من روافد شتى.. فإلى جانب الأحزاب الموجودة والناشئة كان هناك عدد هائل من الائتلافات والجماعات التي تراوحت مواقفها من النظام ومن القوى الرجعية، كما حفلت العلاقات بين جماعات "الثورة" بالتنافس والتناقض والتحالفات المتباينة، ناهيك عن الطموحات الذاتية للمتزعمين لتلك القوى.
ولا يرتاح كاتب هذه السطور لمضامين الخطابين.. وإليكم المبررات.عشرة
أولاً :
لم يعرف التاريخ في مصر والعالم "ثورة نقية تمامًا" سواء من حيث الأساليب والخطط والتحالفات وأيضًا المؤامرات. ولعل أهم مثال على ذلك أن ألمانيا القيصرية قد راهنت على الدور الذي يمكن أن تلعبه الثورة البلشفية المتوقعة في إخراج روسيا من الحرب ضدها، حتى أنها سمحت لزعيم الجناح الثوري الراديكالي (لينين) بالعبور في قطار حربي ألماني مغلق من سويسرا إلى بتروجراد. وكانت هذه الواقعة من أهم عناصر بروباجندا الحكومة البرجوازية المؤقتة ضد البلشفية. ولعل هذا كان من بين ما دفع لينين إلى القول بأن "من ينتظر ثورة بروليتارية نقية فإنه لن يعيش حتى يراها".
ثانيًا :
من الناحية النظرية لا بد من التمييز بين الانتفاضة والثورة. فقد تكون الانتفاضة الجماهيرية العفوية أو المخططة، سيان، بداية لتغيير ثوري حقيقي. ومن المفهوم أن جوهر الثورة الاجتماعية هو النضال من أجل تغيير أو قلب النظام الاجتماعي، وخاصة علاقات الإنتاج، وبالأخص علاقات ملكية وسائل الإنتاج. أما أقل من ذلك فهو يدخل في إطار الإصلاح السياسي الديمقراطي، وأيضًا التحرر الوطني والاستقلال في بلدان الجنوب. وهنا أعترف بأنني تعرضت في الأيام الأولى بعد 25 يناير لانتقاد شديد لأنني تمسكت بتعبير "انتفاضة يناير" بينما رأى رفاق كثر أنني لا أفهم المغزى التاريخي لما وقع. ورددت على هذا بأن الانتفاضة تعني مقدمة مشجعة لتغيير ثوري جذري يتم عبر موجات من النجاحات والهزائم والالتواءات، حسب مدى توافر شروط الوعي والتنظيم وأيضًا تحقق الظرف العالمي والإقليمي المواتي.
ثالثًا :
لا يمكن إغفال أن انهيار المنظومة الاشتراكية أوائل التسعينيات بعد مجموعة من "الثورات الملونة" الممولة غربيًا (تحت شعارات الدمقرطة وحقوق الإنسان..) قد وضع الدوائر الحاكمة في الغرب في ورطة نظرًا لاستمراره في دعم النظم الدكتاتورية بالعالم الثالث. وبالفعل بدأت الأجهزة الغربية منذ التسعينيات في الإعداد لنسخ منقحة من تلك الثورات، ولكن مع فارق مهم جدًا، وهو أن "ثورات" أوربا الشرقية استهدفت تحقيق انقلاب جذري في طبيعة النظم الحاكمة هناك، بينما المطلوب في بلداننا هو إزاحة الحكام الطغاة دون تغيير طبيعة النظم التابعة. وباتت الأيديولوجية المسند لها إرشاد هذه العملية هي الترويج لليبرالية السياسية، معزولة عن أي تغيير اجتماعي، مع مجاراة العولمة النيوليبرالية والتقليل من شأن "القومجية". كما عملت الأجهزة الغربية على استمالة تيارات الإسلام السياسي غير تلك ذات المنحي الفادح للإرهاب الذي سبق أن سانده الغرب في مواجهة الاتحاد السوفيتي. وكانت ضالته الأساسية في هذه المهمة الاستراتيجية هي جماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم صدرت بحوث وكتابات لا حصر لها عن إدماج "الإسلام المدني". وبالطبع كانت الوسيلة المرجحة هي التدريب على "الكفاح غير العنيف" بالتظاهر والتدوين والدعم الإعلامي والدبلوماسي. ولكن ليس معنى هذا أن انتفاضة 25 يناير كانت مخططة حتى ولو جزئيًا.
رابعًا :
عرفت الساحة السياسية المصرية منذ بداية القرن الحادي والعشرين الكثير من حركات الاحتجاج السياسي ذات الطابع النخبوي (مثلا حركة كفاية، حركة 6 أبريل..). وكان من السمات الواضحة لهذه الحركات وجود تراص (ربما غير مقصود) بين تيارات مختلفة بدءًا من الليبراليين وانتهاءً بالإسلاميين، مرورًا بالعروبيين واليساريين الديمقراطيين. ولم تتخذ هذه الحركات طابعًا جبهويًا نظاميًا، بل غلب عليها الوحدة الهلامية. وتكررت المواجهات بين تلك الحركات وقوات النظام حتى كانت مواجهة 25 يناير 2011. وقد قوبلت هذه الفعاليات بشراسة بوليسية وصلت قمتها يوم جمعة الغضب في 28 يناير، وهو اليوم الذي أعتبره البداية الحقيقية للانتفاضة، وأيضًا للمقاومة الجديدة للانتفاضة. فقد أسفر عنف الشرطة المفرط عن استفزاز الجمهور (حتى غير المسيس) فنزل لمناصرة المحتجين لتنتهي المواجهة بهزيمة فادحة لقوات الأمن المركزي. وفي هذه اللحظة المفصلية نزلت قوتان كبريان لقطف الثمار، وهما الجيش وجماعة الإخوان المسلمين.
خامسًا :
كانت المؤسسة العسكرية تراقب بغضب كل ممارسات نظام مبارك، وبخاصة التخطيط لأن يصبح جمال مبارك رئيسًا ومن ثم قائدًا أعلى للقوات المسلحة، خاصة وأن معه بطانة واسعة من "لصوص الأعمال" مع آلة حزبية كبيرة وفاسدة تلحق الشك والأذى بمستقبل النظام كله. وفي الوقت نفسه لم تكن المؤسسة العسكرية مستريحة للتدخل الغربي السافر، كما خشيت من تطور النشاط "الثوري" إلى تغييرات تهدد "استقرار وحتى وجود الدولة". فاتبعت المؤسسة العسكرية تكتيكًا شديد التعقيد خلاصته الجمع بين عدة عناصر: حماية المنتفضين من انتقام وإجرام جماعة مبارك، واحتواء الحركة حتى لا تتطور إلى ثورة شعبية شاملة، واستقطاب جماعات وقيادات "ثورية" باستخدام سبل مختلفة، واتباع أصعب المناورات مع جماعة الإخوان المنظمة جيدًا وكبيرة الموارد المالية والمتمتعة بإسناد الغرب "الديمقراطي".
سادسًا :
أما جماعة الإخوان المسلمين فقد أيقنت أن لحظة قطف الثمار و"التمكين" قد دانت، خاصة مع التمتع بدعم خارجي، فضلاً عن نجاحها في عقد اتفاقات مع جماعات "الإسلام الجهادي"، والإسناد المؤثر جدًا من جانب أقوى جهاز إعلامي وقتها وهو قناة الجزيرة. أما الأخطر سياسيًا فكان انجراف ائتلافات وأحزاب وجماعات "ثورية" وراء تحالف انقيادي قيادته الفعلية للإخوان المسلمين، أو وراء حزب مصر القوية في أحسن الأحوال.
سابعًا :
كان التطور الأخطر في نظر الإخوان والقوى الملتفة على "الثورة" هو تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية (وأسموها "الفئوية") التي كانت تنذر بجمهرة واسعة وجذرية للانتفاضة ولا يمكن تحملها، فكانت الإطاحة برأس النظام وشلته الضيقة. وهو الثمن الذي أرضى البعض. وهكذا وقعت القوى "الثورية" بين فكي قطبين للثورة المضادة، وأخطأ الكثيرون بالانحياز إلى أحدهما.
ثامنًا :
بطبيعة الحال لا يعيب أي نشاط ثوري أن تحاول قوى خارجية متنفذة التأثير فيه وتوجيهه أو حتى تحويله. ومن المفهوم أن أمريكا لم تكن تراهن وقتها على "حصان واحد"، بل وشاهدنا رهانًا على البرادعي وعنان والشاطر، بل وحتى شخصيات مرموقة مثل فاروق الباز وأحمد زويل.. كما يجب تفهم أن معظم أجهزة الاستخبارات العالمية قد نشطت حتى في ميدان التحرير والأروقة السياسية والمنصات الإعلامية.. وهو عنصر ثانوي يفسر بعض التناقضات والتراشقات.
تاسعًا :
وسط كل هذه التفاعلات المعقدة انتهت الأحداث إلى انتصار كبير للمؤسسة العسكرية المصرية في 30 يونيو 2013 واستطاعت فرض "الاستقرار".
عاشرًا :
يعتقد الكاتب أن هناك عوامل عديدة وراء فشل القوى "المدنية" و"الديمقراطية".. مثل غياب التنظيم الشعبي، والطابع المديني والنخبوي للانتفاضة، والتحالف الانتهازي أو الساذج للبعض مع الإخوان أو كثرة الزعماء المصنوعين أو المصابين بجنون العظمة، أو التقديس المبالغ فيه "للميدان" والتظاهر والإضراب والتدوين السيبراني...الخ. لكن في رأيي يظل الأهم هو غياب برنامج اجتماعي واضح لإحداث تغيير ثوري يصطف الجمهور وراءه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صاروخ باليستي روسي يستهدف ميناء أوديسا


.. ما فاعلية سلاح الصواريخ والهاون التي تستخدمه القسام في قصف م




.. مراسل الجزيرة يرصد آثار القصف الإسرائيلي على منزل في حي الشي


.. خفر السواحل الصيني يطارد سفينة فلبينية في منطقة بحرية متنازع




.. كيف استغل ترمب الاحتجاجات الجامعية الأميركية؟