الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل العاشر من رواية «كوبنهاون»

منير المجيد
(Monir Almajid)

2021 / 12 / 20
الادب والفن


لم تسر أمور العمل في كوبنهاغن بشكل جيد، فتوظفت في شركة إعلان في بلدة «بيلوند» عام ١٩٨٧ الواقعة على شبه جزيرة «يولاند».
في الواقع، تحتل معامل ومكاتب شركة «ليغو» العملاقة نصف مساحة البلدة.
قالوا لي أنه تعذّر عليهم إيجاد سكن لأولادي، صديقتي حينذاك وأنا، لذا فأننا سنسكن في منطقة جديدة في بلدة مجاورة أسمها «غرينستيذ».
وهذا ما كان، من كوبنهاغن (١,٥ مليون نسمة)، إلى غرينستيذ (٤ آلاف نسمة) والتي لم تكد تظهر على الخريطة.
المنطقة مبنية حديثاً، وهذا كان واضحاً من حجم الشجيرات المزروعة، وكذلك الأسوار النباتية التي لم يتجاوز ارتفاعها سوى بضع سنتيمترات.
الأبنية تحيط بقناة مائية على الضفتين، وعلى مقربة بحيرة واسعة يتمشى الناس حولها أو يمارسون رياضة الجري، وعلى بعد خطوات غابة صغيرة.
أحببنا المكان كثيراً.
الجيران كانوا فضوليين للغاية، ولم يتمكنوا تماماً من فهم تركيبة القادمين الجدد.
في اليوم التالي استيقطنا على رائحة قذرة خانقة. «من حظيرة الخنزير، هناك». قال لنا جار حينما خرجنا نستطلع، مُشيراً إلى بيت منعزل على بعد مائتي متر.
حذّرنا أيضاً من مياه البحيرة، التي مازالت سامّة.
والقصة هي أن شركة إنتاج مواد ومبيدات كيميائية كانت تفرّغ نفاياتها في البحيرة قبل نحو عشرين سنة.
حتى هذه اللحظة لم يتحمّل أحد الذنب، لا الشركة، ولا السلطات المحلية، ولا حتى الدولة مختلفين على إجراءات قانونية عقيمة، فبقيت مياه البحيرة مُلّوثة.
جار آخر سارع بالإحتجاج لدى مكاتب شركة السكن، وطالب بوضع حدّ لتمدّد اللاجئين التاميل (من سيريلانكا) إلى الضفة الثانية. شُرح له الأمر، وقيل أن هؤلاء ليسوا من التاميل، حينها قال الجار «صحيح، لا يُشبهون التاميل، بل معهم فتاة شقراء أيضاً». هذه القصة رواها لي نفس الجار ذاك، بعد نحو سنة، وقال أيضاً أنه، منذ البداية، وفي إجتماع عام مع مدير وموظفي شركة الإسكان اشترطوا عليهم أن يخصصوا الضفة المقابلة للقناة للتاميل، الطلاب والعاطلين عن العمل.
على ذكر العاطلين عن العمل. سيدة عجوز كان يفصل بيتنا عنها الشارع فقط. كانت تجلس دائماً قرب شبّاكها الواسع وتراقب كل شيء. وَشَتْ للآخرين أنني عاطل عن العمل، لكنني أقود سيارة جديدة. «هؤلاء الغرباء حفنة من الفاسدين». قالت لبقية الجيران. لكن بعضهم قال أنهم يروني أغادر صباحاً باكراً ولا أعود إلا مساءً. «هذا يعني أن الرجل يذهب إلى العمل».
بعد أن تجرأت هذه العجوز، فيما بعد، بالإقتراب منّا، وكانت تلّح علينا على زيارتها واحتساء القهوة وتناول كعك الزبدة التي كانت تبرع بتحضيره، جاءت جارة اخرى وحذرتنا من أنها كانت تُثير الكثير من الشائعات حولنا.
ومنها عرفنا أن إبنها الوحيد الذي يسكن في مدينة اخرى يزورها مرّة في الشهر، ويتعمّد أن يكون مطلع الشهر، كي يبتزّ والدته ويسطو على جزء من مرتبها التقاعدي.
كانت السيدة حينذاك من أنصار حزب عنصري (حزب التقدم) الذي إنحلّ، فيما بعد، ليتشكل على حطامه حزب آخر أشد عنصرية. إلا أن السيدة العجوز، وبعد أن اقتنعت أنني لست متوحشاً، صارت من أنصار حزب يميني غير متطرف.

بعد يومين من إنتقالنا إلى تلك البلدة العجيبة، ذهبت صديقتي إلى الطبيبة التي حددتها لنا سلطات بلدية البلدة. فسألتها الطبيبة، حينما ألقت نطرة على أسمي، من أين أنا. «من سوريا». أجابت صديقتي. «أعتقد أن هناك سوري آخر هنا». قالت لها الطبيبة.
صديقتي النبيهة طلبت منها إسمه. وحينما أرتني إياه، بعد عودتي من العمل، قلت لها «إنه ليس من سوريا فحسب، بل هو من حلب». لم تفهم كيف يمكن أن أحدد إسم مدينته أيضاً، فاسترسلتُ في محاضرة طويلة عن تركيبة سوريا الديموغرافية.
لحسن الحظ، كان قد دُسّ لنا دفتر تليفونات البلدة في اليوم الأول.
«خلدون عنتابي». الإسم موجود، وهناك عنوان. رقم الهاتف «سرّي». وجدنا العنوان على الخريطة، ولعجبي لاحظت أنه قريب جداً.
كتبت إسمي ورقم تلفوني على قُصاصة ورق، وذهبت أقرع باب الفيللا. سمعت عواء كلب. فتحت صبية جميلة الباب، وكان الكلب الأشقر مازال ينبح والصبية تدفعه بساقها إلى الخلف.
خلدون كان في العمل، فأعطيت الصبية (إبنته) القصاصة، بعد أن شرحت لها الأمر، منعاً لأي إلتباس.
لم تمض أكثر من ساعة، عندما رنّ الهاتف وصوت فرح ذو لهجة حلبية جليّة جهرة يُرحبّ بي. كان مستغرباً، مثلي، من وجود سوري آخر في تلك الحفرة الصغيرة من جغرافية الدانمارك. وكي تكتمل دائرة الصدف العجيبة، عرفت أنه الأخ الأكبر لإحسان عنتابي.

إحسان عنتابي عُيّن مُعيداً في كلية الفنون بدمشق حينما كنت في السنة الأخيرة. لم يُدرّسني، لكنني لم أستسغ أنه اقتنص وتزوج فتاة مستجدة كنّا، مجموعة من الشبان، قد تجهّزنا ووضعنا خططاً للتقرّب منها. وعندما أخبرني خلدون، بعد تعارفنا بسنوات، أن زواج إحسان لم يستمر، كنت قد تجاوزت خسارتنا أمامه.

من يومها، صار خلدون الصديق الأقرب لي.

خلدون جاء إلى الدانمارك في منتصف الستينات، كواحد من بضع شبان سوريين، إنتهى بهم المطاف هنا. حينذاك لم تكن البلاد قد تهيأت لإستقبال الأجانب بإصدار القوانين والفرمانات، ولم تكن قد فتحت أبوابها لهجرة جماعية منتظمة كما في حال العمال الأتراك والباكستانين والطليان والإسبان.
درس في كلية الزراعة وتخرج، ليتعرّض إلى قوانين متعثرة، لم تستطع السلطات التعامل معها على نحو واضح، وكانوا على وشك إيقاف إذن إقامته في البلاد، إلا أن صديقته أنقذته بالزواج.
ولأن خلدون هو أبن سيدة سورية عظيمة كرّست حياتها لأطفالها، بعد وفاة زوجها في سن مُبكّرة، لتعمل وتتحمّل نفقات دراستهم في مدارس خاصة، فأنه يتحدث الفرنسية بطلاقة. آخر مرّة كنّا في منطقة الألزاس، لم يشكّ أحد أنه أجنبي. الرجل يتحدث الفرنسية كما الفرنسيين، رغم أنه لم يسكن هناك أبداً. هذا مجرّد إسترسال في الحديث، لأنني أردت أن أقول أن لغته الفرنسية أتاحت له فرصة أن يعمل ممثلاً لمنظمة الغذاء العالمي (فاو) التابعة للأمم المتحدة، فذهب إلى الجزائر.
وحينما عاد عمل لدى شركة دانماركية مقرّها شبه جزيرة يولاند، وهناك أيضاً صار مديراً لشركة لتكاثر واستنباط سلالات من أمهات الدواجن، كأول شرق أوسطي يتقلّد هكذا منصب مهم في البلاد.
لم يحالفه الحظ حين تشارك مع آخر في مصنع أعلاف في جزيرة اخرى، فبعد فترة شهد فيها المصنع تقدماً هائلاً كمصدّر، عصفت بأوروبا أمراض المواشي (جنون البقر)، مما أثرّ على التصدير بشكل قاتل.

السنوات الثلاث التي قضيتها في تلك البلدة المغمورة والتائهة في شبه جزيرة يولاند، لم تكن لتمضي على نحو جيد لولا وجود خلدون هناك.
تعلّمت منه الكثير من أمور الحياة.
يطبخ كشيف عصري، له خبرة وباع طويل في النبيذ، وخاصة الأنبذة الفرنسية (بطبيعة الحال).
مازلت أذكر، بحنين مفرط، جلساتنا هناك، مع زجاجة نبيذ يختارها وأنا أقدّم خبزاً خَبَزْتهُ للتوّ.
المسيح وتلامذته كانوا يتمتعون بجلسات مماثلة دون أن أعرف شيئاً عن مصدر الخبز ونوع النبيذ.
يعشق السفر والتجوال والمشي في مدن أوروبا لساعات طويلة. ومازلنا نسافر معاً هنا وهناك، حاملين كاميراتنا (خلدون لديه أسطول منها).
أحياناً تتداخل الأمور لدى موظفي الفنادق فيحجزون لنا غرفة واحدة بسرير مزدوج، لإعتقادهم أننا زوج مثليّ، هكذا. هذا يُثير غضب خلدون، وبينما أقف هناك منتشياً بالضحك، يقوم الموظف المسكين بإصلاح الأمور ويضعنا في غرف منفصلة بينما يتابع خلدون توبّيخه. بالمناسبة، هو الذي شجعني وعلمني كيفية التعامل مع الكاميرات والتصوير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى