الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل بناء فكر قومي متماسك من يوجِّه من: ثوابت الفكر النظري أم متغيرات الخطاب السياسي (الحلقة الثانية) (2/ 2)

حسن خليل غريب

2021 / 12 / 23
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير


4-من أهم ثوابت النظرية القومية أنها نتاج فكري حديث للوقاية من ديكتاتورية الدولة الدينية ولا عدالتها
تطرح هذه المسألة السؤال التالي: هل الدولة الدينية دولة ديكتاتورية؟
إن مجرد تقديس النص، يعني وجود عامل الإلزام من دون نقاش، بل من المحرمات أن يخضع النص للمناقشة، وفي هكذا حال يغيب حق الرأي الآخر في الإفصاح عن نفسه، وبغيابه تغيب الحرية الفردية، وهذا يعني غياب للديموقراطية. وغيابها يعني استحضار للديكتاتورية.
ولأن هذا الجانب متفرع ومتنوع، يكفي أن نذكِّر ببعض العناوين التي استهلكت وضع دراسات وأبحاث كثيرة، ومن أهمها:
-السلطة الدينية الحاكمة تزعم أنها تستمد سلطاتها من الله.
-التشريعات ذات مصدر إلهي مُحرَّم تعديلها.
-الاجتهاد في النص الإلهي نتاج بشري، واستخدامه دليل على الديموقراطية كلام باطل. وهو بدوره يبقى إشكالية خلافية بين المذاهب الدينية نفسها، هذا بالإضافة إلى تعدد مصادر الفقه بتعدد الفرق الدينية وهذا ما يطعن بزعم رجال الدين بإلهية التشريع.
-لم توازن تشريعات الدولة الدينية الحاكمة بين حقوق التعدديات المذهبية والتعدديات الدينية وواجباتها.
تلك الأسباب، كلها أو بعضها، أدَّت إلى ابتكار نظرية الفكر القومي في أوروبا بناء لتلبية حاجة المجتمعات الأوروبية في مواجهة عالمية الكنيسة التي كانت، تحت شعار توحيد العالم المسيحي، تبتز المجتمعات الخاضعة لسلطتها، وتفرض عليها قوانينها وتشريعاتها وتجمع الضرائب تحت مسميات الواجبات الدينية للفرد تجاه المؤسسة التي تمثل الله على الأرض، من دون أن تتلقى تلك المجتمعات مردوداً اجتماعياً، أو فائدة خدماتية. لذا انطلقت الدعوة إلى القومية أولاً من المجتمعات الأوروبية التي وعت حقيقة الأمر، ولم تر تلك الدعوات خلاصاً من سلطة عالمية الكنيسة وأمميتها إلاَّ من خلال الدعوة إلى القومية، ورفض سلطة الكنيسة العالمية. ومن بعد تلك المرحلة، واستجابة لواقع التعدديات الدينية والمذهبية في أوروبا، توسَّع الفكر الغربي في وضع أسس لنظام سياسي تقوم دعائمه على مبادئ علمانية تستجيب لمصالح كل التعدديات الدينية حيثما وُجِدت.
ويكفي هنا أن نشير إلى توضيح الالتباس الحاصل في الحركة النقدية التي تزعم أن العلمانية تقف في صف العداء للإيمان الديني، هذا إذا لم تتهمها بالإلحاد، وتُسقط عليها أحكام التكفير. وإننا نشير هنا إلى ضرورة التمييز بين تشريعات مدنية تحفظ وحدة المجتمع، وهي ذات مضمون اجتماعي سياسي واقتصادي، وبين حاجة الإيمان الديني استجابة لنزعة تفسير الكون ومصير الإنسان بعد الموت، وهي ذات مضمون ماورائي تلبي حاجات روحية وتملأ الفراغ فيها.
وبمثل هذا الفصل نستطيع تحييد العلمانية من وزر إقحامها في موقف لا تحتمله، ونبعدها عن متاهات التكفير لأنها تبغي تنظيم علاقات أفراد المجتمع المتنوع الانتماءات الدينية، فوظيفتها دنيوية، وهذا ما ليس له علاقة بمسألة الخيارات الدينية، التي هي ليست لها مضامين سياسية واجتماعية واقتصادية، فهي حاجة روحية خالصة، يختار طريقها الفرد وليس المجتمع. وبهذا لو تدخَّل النظام العلماني بكل مضامينه المادية والمدنية، فليست من مهماته أن يتدخَّل بمسألة الخيارات الروحية للفرد أو للجماعة. فالجانب الأول فيه عامل الإلزام للمحافظة على أمن المجتمع المادي، والجانب الثاني فيه التزام لا تستطيع السلطات العلمانية أن تتدخل في تحديده.
وفي المقابل، عندما انتقلت هذه النظرية، بعد ثبات نجاحها في أوروبا، إلى ثقافتنا العربية، وكان انتقالها إلى مجتمعاتنا، بواسطة الرعيل القومي الأول، لأنها وجدت فيها بداية جدية لوضع حلول اجتماعية وسياسية واقتصادية لآفات كانت تمارسها السلطات الدينية قبل انهيار آخر تجربة للدولة الإسلامية. وكان المراد من نشرها وتعميمها تلبية للشعور بواقع تعسف سلطة الخلافة الإسلامية العالمية على شعوب ليست متجانسة، بحيث كانت تمارس الخلافة سلطاتها مستغلة موارد تلك الشعوب وتوظفها لمصلحة شعب واحد، كان الشعب التركي هو الحاكم في تلك الفترة.
فالنظرية القومية، على الرغم من أنها تعبر عن حقيقية واقعية في العلاقة بين أفراد ومجموعات لتلبية أكثر من حاجة تشكل اللاحم القومي بينها، إلاَّ أن نشأتها كنظرية كانت بناء لحاجة سياسية، يجمع بين انطلاقتها في أوروبا وانعكاسها على الثقافة العربية.
كانت النظرية القومية، بالإضافة إلى هدفها الانفصالي عن سلطة الكنيسة أو الخلافة الإسلامية، قد أجابت على إشكالية كبرى تُختصر بإيجاد قوانين وتشريعات واحدة تستجيب لمصالح التعدديات الدينية التي تشكل قاعدة لبناء مجتمع القومي متآلف، كما أنها تضمن سيادة العدالة والمساواة لكل مواطني الدولة بشتى جوانب الحياة. فكانت الدعوة إلى العلمانية هي الحل النظري الذي اعتقد مبتكروها أنها قد توفِّر حلولاً لعلاقات الأديان والطوائف المتعددة التي تتشارك في وطن واحد، وهي ما تسمى وحدة منظومة الحقوق والواجبات. تلك المنظومة التي عجزت السلطات الدينية، مسيحية وإسلامية، عن توفيرها لسبب يعود أولاً إلى تطبيق ثوابت الفكر الديني. ولم تجد حلولاً للتآلف بين مذاهب الدين الواحد: في الكنيسة الأوروبية التي وجدت حلاً في تكفير بعضها البعض الآخر، وباتهام من لا يدين بمذهب الكنيسة الحاكمة بالهرطقة وإحالته إلى محاكم التفتيش لاستتابته أو لتعذيبه لإخراج عنصر الشر منه، أو للحكم عليه بالحرق حتى الموت.
وكذلك الأمر هو ما حصل في أكثر من مرحلة من مراحل تاريخ الخلافة الإسلامية، وهذا ما لا نستثني منه حتى بواكير الخلافة الراشدة تلك التي أسست لفتنة انقسام الإسلام إلى مذاهب متناحرة تجاوز عددها الأربعماية فرقة حتى الآن، مروراً بالعصور الأموية والعباسية والملوكية والفاطمية والعثمانية والصفوية.

5-ثوابت الفكر القومي تميِّز خصوصيات المجتمعات القومية وتحترمها
تتشابه ظروف المجتمعات التي وجدت في النظرية القومية ملاذاً آمناً لشتى أطياف المجتمع الدينية والمذهبية. ولهذا لا نرى علاقة انتشار الدعوة إلى القومية العربية بضمور السلطة الدينية في الخلافة الإسلامية أي اعتقاد غريب، وهذا ما يطرح إشكالية العلاقة بين التراث والمعاصرة في التاريخ العربي. أما التُراث فهو ما يضفي على المجتمعات القومية خصوصياتها. وإننا إذا اخترنا تحديث القوانين والتشريعات وعصرنتها، فأي جزء من التراث على تلك العملية أن تستفيد منه؟
هل كل التراث صالح للاستفادة منه؟
وإذا كان الجواب لا، فعلينا أن نراجع تُراثنا وننقده، لنهمل السلبي فيه ونستفيد من الإيجابي. وتلك هي عملية مكمِّلة ومتمِّمَة لخياراتنا التي حدد أهدافها الفكر القومي. فالحركة النقدية لتاريخنا السياسي والفكري والاجتماعي هي جزء ضروري من أجل استكمال وضع نظرية فكرية قومية متوازنة مع التحديث والعصرنة.

6-غياب التمييز بين الثوابت القومية وثوابت التراث تقود إلى خطاب سياسي غامض
حيث إن الثقافة الشعبية العامة، باستثناءات قليلة، تتحصن داخل الخطاب الديني، الإسلامي منه بشكل كبير، فهي تقف موقفاً سلبياً، إن لم يكن تكفيرياً، من أي فكر آخر، ومنه الفكر القومي العربي. وخوفاً من الاصطدام مع البيئة الثقافية السائدة، امتنع بعض الحركات السياسية القومية، وبعض المفكرين القوميين العرب عن القيام بعملية نقدية للتراث وللثقافة السائدة معاً، فطغى أسلوب الخطاب السياسي التوفيقي في أحيان كثيرة ولافتة وجاءت نتائجه أقرب للمبادئ الدينية التراثية وكانت على حساب المبادئ الأساسية للفكر القومي. واستناداً إليه ارتفعت شعارات تزاوج بين الفكرين الإسلامي والقومي من دون تمييز بين حدوديهما إلى الحد الذي يستغرب فيه الكثيرون من المفكرين القوميين والحركات السياسية القومية من وجود مثل تلك الحدود.
تلك هي إشكالية المرحلة الراهنة، التي أضاع فيها الخطاب السياسي حدود الفكر القومي، فطغت عليه المرحلية على الثوابت، وأصبحت أكثرية الملتزمين بالفكر القومي تنحاز إلى تغليب حدود الفكر الديني على حدود الفكر القومي، ذهب فيها البعض إلى خيار ثالث قائل بـ«الفكر القومي الإسلامي»، وبمثل هذا الاتجاه أضاع القوميون أهم ثابت من ثوابتهم، وبه زرعوا الخوف في نفوس معتنقي الأديان الأخرى أولاً، وتناسوا ثانياً أن الفكر الإسلامي المستند إلى الفقه قد أصبح أكثر من إسلام، لأن لكل مذهب إسلامي فقهه الخاص الذي وضعه المذهبيون في مرتبة المقدس. وبذلك سيتصارع أصحاب هذا الشعار حول أي فقه سيستندون في تشريعات الدولة القومية وقوانينها.

7-الخطاب السياسي القومي جزء مكمِّل للثوابت القومية معبِّر عنها ومتقيِّد بمضمونها
إذا كان على الفكر النظري النزول من النظرية إلى التطبيق، بحيث ينتفع به البشر، وإذا كان فكراً جديداً يهدف إلى نقل المجتمع الموجَّه إليه إلى ضفة التغيير. والتغيير بدوره لا يمكن أن يحصل بقفزات سريعة، بل يتم بنقلات متدرجة بحيث يهضمه المجتمع شيئاً فشيئاً، وقد تمر أجيال عديدة ليصل التغيير إلى حدود واضحة ومنظورة. أما السبب فهو أن الثقافة القديمة تدخل في مواجهة معه، وتضع عوائق وعراقيل في وجهه.
وكي لا تكون المواجهة شديدة تؤدي إلى رفض عميق، يلعب الخطاب السياسي دوراً أساسياً في التمهيد لنقلة تعقبها نقلة، على أن يكون مبنياً على خطط مرحلية، وأن يكون مدروساً ومتقناً، بحيث لا يصطدم مع الثقافة القديمة السائدة من جهة، وأن لا يجاريها في استسهال التقرب إلى الجماهير من أجل كسبها ثانياً. والانتقال من نقد سلبيات الثقافة القديمة وتقديم البدائل القومية المناسبة ثالثاً.

8-الثوابت القومية بوصلة تصوِّب اتجاهات الخطاب السياسي
قبل كل شيء، ولكي يساعد الخطاب السياسي في التغيير الفعلي، لا بدَّ من أن يمتلك، وضوح الرؤية بما يلي:
-أن تشكل الثوابت الفكرية الجديدة بوصلة للخطاب السياسي، ولا يجوز التعتيم على مضمونها، خوفاً من الاتهام بالإلحاد، أو الحكم بالتكفير على أصحابها.
-من أهم الثوابت القومية يأتي رفض بناء دولة دينية في مقدمتها. وإن هذا الأمر يستدعي نقداً للفكر الديني، لأنه من دون نقد لا يمكن البرهان على صحة مضمون الفكر القومي وأهميته في بناء الدولة العصرية. والنقد يشمل نقد الفكر الديني بجانبه السياسي، سواءٌ أكان دينياً عاماً أم مذهبياً خاصاً. أما النقد بجانبه الروحي فهو ليس من مهمات الفكر القومي، والسبب أنه عندما يغرق الفكر القومي في نقد الجانب الروحي في الأديان والمذاهب، فسوف يتواجه بإشكالية التفضيل بين دين وآخر، أو بين مذهب وآخر، أو عليه أن يستنبط نظرية روحية جديدة، وهذا ليس من مهماته على الإطلاق.
-من ثوابت الفكر القومي أيضاً أن يحصر همه بتأسيس كل ما له علاقة بتنظيم حياة المجتمع القومي المادية والاجتماعية، وأساسهما العدالة والمساواة بين المواطنين كافة القائم على الأخلاق. وأما خياراتهم الروحية فهي شأن من شؤونهم الفردية لا يجوز أن يتدخل الفكر القومي فيها وكذلك الدولة القومية، بل احترام تلك الخيارات، معتقدات وطقوس خاصة بكل دين أو مذهب، وحمايتها، وأن لا تتدخل إلاَّ ضد ما يمس سيادتها ويمس وحدة المجتمع القومي.
-كي لا يصطدم بالموروث الثقافي الديني، على الفكر القومي أن يلحظ في ثوابته الفكرية ما يلبي حاجة النفس البشرية للدين بتعميم ثقافة مخاطر الترويج للإلحاد، ووضع خطة تربوية روحية قائمة على الأخلاق، وتهذيب وسائل الخيارات الروحية التي تلبي حاجة الإنسان للدين كخيار روحي راقٍ للخلاص في الآخرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصر تعلن طرح وحدات سكنية في -رفح الجديدة-| #مراسلو_سكاي


.. طلاب جامعة نورث إيسترن الأمريكية يبدأون اعتصاما مفتوحا تضامن




.. وقفة لتأبين الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل


.. رجل في إسبانيا تنمو رموشه بطريقة غريبة




.. البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمقا