الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صبية النرجس

ماجد الحيدر
شاعر وقاص ومترجم

(Majid Alhydar)

2021 / 12 / 25
الادب والفن


قصة قصيرة:صبية النرجس
(ماجد الحيدر)
ظن أهلها وصديقاتها، بل ظنت هي الأخرى أنها ممسوسة، أن جنيا خبيثا تسلل الى جسدها الفتي. لكنه لم يكن جنيا، ولا روحا شريرا خرج من صدع في العالم السفلي. إنه مراهق يتيم يبحث عن حضن دافئ وثديين وثيرين يدفن وجهه بينهما. صحيح أنه نصف إله، وأن دم أبيه المقدس زيوس يجري في عروقه، ومعه نزواته وشبقه الذي لا يحد الى نساء الأرض، مخلوقاته اللاتي كثيرا ما يقع في غرامهن مثل أي زير نساء بشري؛ لكنني أميل الى أن تلك الفحولة المتوارثة لم تكن قد تفتحت بعد إلا بشكل غامض. لقد كان مجرد طفل، صدقوني!
لقد بدأ الأمر عندما مر طائرا من فوق حديقتها الصغيرة ورآها تنظف حوض النرجس الذي نجا من العاصفة الأخيرة، وأحس بوجيب غريب في قلبه الصغير، فنزل ليتأملها عن كثب.. ووقع في حبها على الفور!
كان، برغم شقاوته المحببة، خجولاً مثل صبيةٍ لم تبرح بيتها يوما، ولهذا لا يجرؤ على الظهور أمام بشري، كما إن قوانين الأولمب لا تسمح بهذا لمن هو في عمره.
في المرة الثانية رآها تبحث عن شيء من الثوم في مطبخها الصغير. كان قد نفد منذ يومين لكأنها "متأكدة" كالعادة بأن لديها بعضا منه في احدى الزوايا. مد يده ولمس خصرها النحيل فأجفلت واستدارت لكنه تدارك الأمر في لمح البصر فوضع حزمة من الثوم الطري على المنضدة التي خلفها:
- أها! كنت متأكدة من وجود الثوم. لكن ما هذه الرائحة الغريبة التي تصدر عنه؟ كأنها رائحة نرجس لا ثوم!
واستطاب اللعبة. صار يلازمها ليل نهار. كان يقرصها أحيانا ويدفعها لحك جسدها كي تشعر بحاجتها الى الاغتسال، وكانت تلك من أجمل لحظات حياته: إذ يتأمل تكورات جسدها البض الفتي وحلمتيها النافرتين. وكان في الليل يدخل في مخدتها التي اعتادت احتضانها ويروح يسكر بعطرها ودفء صدرها.
مرت الأيام الأولى دون أن يداخلها الشك، لكنها أخذت تشعر بأن شخصا خفياً يلازمها أينما حلّت وأفصحت عن شكوكها لأمها:
- أماه. إنني أحس بأنفاسه لكنني لا أراه، أشعر بيديه تحيطان خصري لكنني لا أستطيع الإمساك به. كثيرا ما استيقظ عند انتصاف الليالي لأنظر في مرآتي فأكتشف أن يداً خفية قد مسدت شعري.
فنظرت أمها اليها باستغراب شديد، لكنها سارعت الى طمأنتها:
- لا تقلقي يا بنيتي. كل الفتيات مررن ذات يوم بإحساسٍ كهذا. إنه نداء الجسد الذي يضج بالحياة كما تشق بذرة طريقها خارج التراب. لكن أخبريني أيتها الشيطانة الصغيرة: أيمكن أن تكوني عاشقة.
فاحمر وجهها وركضت خارجة من الغرفة.

هكذا تجري الأمور في القصص. تبدأ بمغامرة صغيرة بريئة ثم تنتهي بمأزق أو ورطةٍ أو كارثة!
البنت المسكينة أخذت تذوي وتزداد شحوبا ونفورا عن الطعام. وازدادا والداها قلقا. كيف لا وهي ابنتهما الوحيدة. ظنا أنها مريضة فقررا عرضها على أشهر أطباء البلاد. فحصها الطبيب من رأسها حتى أخمص قدمها ثم وصف لها خلطات عجيبة بعضها تثير الغثيان. لكن دون جدوى.
أما الفتى فكان يذوي هو الآخر. يقرر كل ليلة أن يتركها لحالها لكن قوة عجيبة، قوة أشد من إرادة الأرباب، يسوقه نحوها فيكتفي بالنظر اليها أو مسها في رقة كما النسيم ثم يتراجع باكيا كسيف البال.
في أحد الأيام دخل عليها والداها فوجدوها تحدث الهواء:
- أرجوك اظهر لي ولو لمرة واحدة، كلمني، إكشف عن نفسك ولو بتحريك ستائري. أنا أعرف بأنك هنا، رائحة النرجس تشي لي بذلك. فلماذا لا تفصح عن نفسك؟ أتراك خائفا مني أو من أهلي؟ اتراك تخشى أن لا تعجبني صورتك؟ أتكون مسخا أو إلها أو شهابا سقط من كوكب بعيد؟
فترقرقت الدموع في عيني الأب ولطمت أمها خديها وجرّت الرجل الى الخارج وصاحت بلوعة:
- ابنتنا تفقد عقلها. لا بد أن مسا أصابها أو أن جنيا خبيثا قد سكن جسمها واستحوذ على عقلها. لا بد أن نأخذها الى أحد العرافين.
- بل الى أفضلهم!
تمتم الأب معترفا بخيبة أمله من الأطباء.
وشاءت المصادفة وحدها أن يكتب لها الشفاء على يد ذلك العراف. لقد كان، لسوء الحظ أو حسنه، شخصا خبيثا سيء النوايا اعتاد على قضاء أوطاره من ضحاياه. انبهر من جمال الفتاة الذي زاده الذبول حسنا وتظاهر بأنه ينصت اليهما باهتمام بينما كان عقله منشغلا بطريقة للإيقاع بها.
- نعم، لقد دخلها جني شرير كما توقعتما. يحتاج الأمر الى أن تبيت في صومعتي بضع ليال أسهر فيها على قراءة الرُقى والتعازيم وتقريب الذبائح الى الآله.
- لك ذلك.
قال له الأب فهمست زوجته:
- كيف لنا أن نترك ابنتنا العذراء في بيت رجل غريب؟
- لا تبالي، سأترك لحراستها اثنتين من الخادمات.
لكن الخادمتين لم تكلفاه سوى دراهم معدودة. قدمتا لها الشراب المخدر الذي حضّره بيديه ثم انسحبتا خارجتين لينفرد بضحيته.
- وأين كان الفتى من كل ذلك؟
- لم يكن بعيداً. بل لم يغادرها قط منذ أن ازداد مرضها. وعرف ما يدور برأس ذلك العراف. وما أن مد يده كي يكشف عن جسدها الشفيف حتى تذكر أن أباه وعده بتحقيق أمنية واحدة قبل أن يبلغ رشده فرفع رأسه الى السماء وهتف في حرقة وجزع:
- زيوس. يا أبي الذي في السماء. أعلم أنني ما زلت فتى صغيرا، لكن هبني القدرة على فعل شيء!
وأحس بقدرة هائلة تجتاح جسمه، هدية من أبيه الفخور. ومد يده وانتقم شر انتقام.
يقال إنه مسخه الى زاحفة عمياء تنهش يديها كل يوم فتنبت لها أيدٍ جديدة لا تلبث أن تنقض عليها بانيابها.
ويقول البعض بل حوله الى نهر من العلقم لا تنبت على ضفتيه عشبة ولا يدنو منه حيوان أو إنسان.
أما هو فلم يعد يطيق عذابها وعذابه فتركها، تركها في تلك الليلة الى غير رجعة لكنه أهداها حديقة من نرجس. نرجس يزهر في كل الفصول!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة


.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا




.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم


.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا




.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07