الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السّلام والتكامل الإقليمي_تطلعات مشروعة

طلال الحريري
سياسي عراقي

(Tallal Alhariri)

2021 / 12 / 27
السياسة والعلاقات الدولية


المدخل؛ رؤية استباقية :
بعد ان وضحنا مفهوم السّلام وفككنا فكرة التطبيع كمتغير سياسي في مناسبات عديدة ادركنا من خلالها ان الشعوب العربية جاهزة نفسيا لتقبُل فكرة السلام والعيش المشترك وتصفير الصراع واختيار المستقبل نرى اليوم ان مشروع السلام ورؤية التكامل الاقليمي تمثلان مشروع استراتيجي واحد ذو طبيعة حتمية وواقع سيغير خارطة المنطقة مع ذلك فأن تطبيق هذا المشروع يتطلب جدية حقيقية في تنفيذه، ونوايا صادقة، وارادات قوية، كما ينبغي قبل كل شيء تدشين مرحلة جديدة من الانفتاح الحضاري، وتبادل الافكار، من خلال برامج سياسية وثقافية واقتصادية تجعل المجتمعات والشعوب المعنية جزءاً من هذه الرؤية عبر وسائل وادوات ثقافية واعلامية واكاديمية تنطلق من مؤسسات دائمة تتمتع بالرعاية والدعم الحكومي. ولكي نحقق هذا الهدف العظيم لابد من تطوير أدوات السلام وتحفيز رغبات الشعوب نحوه، وتهذيب وتنقيح القيم والمفاهيم الخاطئة، ومكافحة التطرف والتعصب، ووضع خطاب موحد وواضح يعتمد على المبادئ الانسانية والحضارية، ويجعل الانسان هو الهدف الحقيقي لهذا التحول، والعمل على تهيئة جيل جديد اكثر انفتاحا وتحضرا للمضي قدما نحو مستقبل مشرق. كما ينبغي ان تعمل الحكومات والنخب على تنمية ادراك الشعوب بمفهوم العلمانية فشعوبنا يجب ان تُدرك بأن العلمانية لا تتعارض مع الدين ولا تلغي وجوده واحكامه، ولعل اسرائيل خير مثال على ذلك فهي نموذج للتعايش والتنوع والتعددية ولذلك ينبغي ان تسود مفاهيم العلمانية ضمن هذه الرؤية وان توظف مبادئها لتنمية السلام والتكامل الاقتصادي والحضاري.

مخرجات اتفاقيات السلام الابراهيمي:
منذ ان ولد السلام الإبراهيمي كرؤية طبقت على الواقع من خلال اتفاقيات سياسية شملت عدة دول عربية على رأسها الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب طُرحت مجموعة رؤى وافكار سياسية وثقافية في المنطقة منها ما هو مؤيد للسّلام واخرى مخالفة، وبعيدا عن مناقشة الرؤى المضادة والتي غالباً مايقف خلفها الاسلام السياسي والقوى الراديكالية المدعومة من ايران فأن الشعوب العربية اصبحت اكثر انفتاحاً على الواقع السياسي الإقليمي قياسا بالعقود الماضية، هذا الإنفتاح جعل سياسة المقاطعة والكراهية تخضع لمعايير عقلانية على المستويات السياسية والثقافية والإعلامية كافة، ولأول مرة اصبح للشعوب دور مهم في مناقشة قضايا استراتيجية خلقتها مخرجات السّلام الابراهيمي هذا الدور تجلى بعد ان ادركت المجتمعات العربية مكاسب السلام التي حطمت خرافة نظرية المؤامرة في اذهان الفرد العربي وكشفت زيف فكرة التبعية التي اشاعها اعداء السلام كوسيلة لإستغفال الشعوب واستنزافها ماديا ومعنويا طيلة عقود طويلة خلفت وراءها تجارب استبدادية وشعوب ممزقة واقتصادات منهارة ودول فاشلة.
هذه المخرجات المهمة للسّلام ساهمت بإنتاج قوى سياسية ونخب ثقافية مهمة اصبحت تشكل متغير استراتيجي في عدة دول عربية التقت اهدافها ومبادئها في رؤية واحده تسعى لتنوير العقل العربي وتغيير القناعات الخاطئة التي سوقتها سياسات المقاطعة والكراهية.هذه القوى الرائدة اهم ما تقدمه في الوقت الحاضر هو ان تُشيع مفهوم السلام وتناقش مكتسباته بموضوعية وتتصدى لموروث التطرف والكراهية بأدوات ثقافية واعلامية ناعمة ومباشرة لا تستثني البعد الوطني من اجل خلق توازن بين الرؤية ومطالب الشعوب في عصر يشهد تحولات سياسية وثقافية متسارعة ينبغي استثمارها لتكون دعامة اساسية لجهود السلام والتكامل.

آليات استراتيجية نحو التكامل:
لا شك ان اتفاقيات السّلام الابراهيمي مثلت اعظم التحولات الجيوسياسية في المنطقة وماتزال مخرجاتها تمثل عوامل ثقافية وسياسية ساهمت بتحريك رغبة الشعوب العربية نحو السّلام وخلقت بيئة خصبة لظهور نخب سياسية وثقافية وقوى داعمة لتعميم هذه التجربة بما حققته من نجاحات خلال فترة وجيزة تجلّت بنمو فكرة الشراكة والتعاون والاقتراب من مفهوم السلام الشامل الذي يمثل التطبيع ابرز اسسه الاستراتيجية ومن هنا ولد سؤال جوهري يتعلق بحتمية السلام كتجربة رائدة على المدى البعيد تستطيع تحقيق التكامل والاستقرار هذا السؤال يتعلق بماهية الآليات الاستراتيجية الخلّاقة التي توفر الديمومة لسلام دافئ بين شعوب المنطقة وتشكل طبيعة مستقبل الشراكة نحو التكامل؟
من خلال دراسة التجارب السابقة وادراك تحديات الواقع فأن نظرية السلام بين الشعوب وليس الحكومات فقط ومغادرة التجربة الباردة الأحادية لن تتحقق بمبادرات ثقافية وسياسية تنحصر بنخب ضيقة ومهما كانت نتائج هذه المبادرات وهي رائعة بطبيعة الحال فأنها لن تستطيع ان تتوسع على المدى المتوسط وتنفذ برامجها دون ادراك اهمية العمل ضمن رؤية المؤسسة الواقعية التي تعمل على الأرض بما يضمن اشراك اكبر عدد ممكن من افراد المجتمع.
ان السّلام بين الشعوب الذي يؤسس لخلق كيان حضاري تسوده قيم التنوع والشراكة والتعاون يبدأ من تنظيف منظومة الأخلاق من السلوكيات والافكار المغلوطة وتغيير تصورات شعوبنا وهذا يعتمد على مواجهة الموروث الخاطئ الذي مايزال يصدر ثقافة الكراهية والتطرف ويلوث مجتمعاتنا بالعنصرية ورفض الحلول الواقعية وتغييب العقول وهذه من اكبر الاشكاليات وحلها يعتمد على مجموعة اجراءات اهمها تغيير مناهج التربية والتعليم بما يضمن تعزيز ثقافة حقوق الانسان والانفتاح الحضاري واشاعة قيم السلام والتعايش وازالة الفكر المتطرف ومكافحة الكراهية بثقافة الإنسانية واحترام الإختلاف، كما ينبغي اعادة النظر بالتاريخ وصياغته بشكل سليم من اجل صناعة اجيال مستقيمة تتمسك بمكتسبات السلام وتعتبرها جزءاً من منظومة الأخلاق والقيم الاجتماعية التي تمثل هوية الشعوب والدول.
ومن جانب اخر فأن الحكومات التي تسير على خطى السلام يجب ان تُدرك اهمية القانون في الارتقاء بالمجتمعات البشرية وتخطوا بإتجاه تغيير القوانين وتحديثها وإلغاء القوانين التي ساهمت بتراكم ثقافة الكراهية وسياسة المقاطعة التي دمرت مستقبل الشعوب وحرمتها من فرص تاريخية لا تعوض، كما يجب ان تلغى القوانين الفاشية الجائرة التي خالفت كل القوانين والمعايير الدولية والضمير الإنساني عندما حرمت ملايين اليهود من حق الجنسية وجردتهم من حقوقهم الوطنية والوجودية والحضارية والدينية في عدة دول عربية على رأسها العراق الذي يمثل اكبر دولة عربية من حيث عدد اليهود.
السّلام الحقيقي والمستقبل الذي نتطلع له جميعا يتطلب نهضة قانونية شاملة تتمثل بوضع قوانين وتشريعات معاصرة لترسيخ ثقافة حقوق الانسان والعيش المشترك وتنمية بُنية التنوع وتقوية المشتركات الاساسية بين الشعوب وتجريم التطرف والكراهية، كما يجب ان تتماشى هذه الإصلاحات القانونية مع طبيعة النظم الاجتماعية والاقتصادية الخاصة بمستقبل التكامل ومتطلبات الإستقرار والشراكة الاستراتيجية.
ان تطوير النظم القانونية له اثر كبير في دعم ركائز الانفتاح الحضاري والثقافي وتنمية التنوع وان الوصول الى هذا المستوى سيحقق تحولات عظيمة في منظومة القيم الاجتماعية والاخلاقية في مجتمعاتنا ويبني جسور متينة للتقارب بين الشعوب وصناعة الإنسان الحر.
ومن اجل ضمان مسيرة التكامل لابد من تعزيز ودعم مسار الاعتدال الديني واشاعة ثقافة التسامح واعطاء دور واسع للمفكرين والمجددين على المستويين الديني والثقافي وبناء تصورات ومفاهيم متكاملة للوحدة الابراهيمية وتضمين ثقافة السلام في خطاب المؤسسات الاعلامية والاكاديمية والثقافية بما يضمن ترسيخ ثوابت التنوع والاعتدال وصناعة رأي عام داعم ومتفاعل بشكل مستمر وهذا يعتمد على دعم الحراك الثقافي المتنامي وتغطية النشاطات التي تساهم بنشر التنوير والوعي وثقافة السلام والديمقراطية.
يجب أن نُدرك ان الديمقراطية اهم دعامة للسّلام وغيابها كان سبب رئيسي لمعظم المشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا في الشرق الاوسط وإذا اردنا بناء تجربة رائدة للسلام والتكامل فيجب ان لا نكتفِ بعلمنة القوانين بل يجب تنمية الديمقراطية لتكون ركيزة اساسية وثقافة سامية في ضمير شعوبنا بصفتها مكسب تاريخي عظيم كان المحرك الاساس لنهضة العالم الحر الذي نتعامل معه كحليف دائم ولأننا نسعى لمستقبل اكثر تماسكاً واستقراراً فأن الديمقراطية هي الوسيلة الأسمى للوصول لمستقبل آمن لأنها توفر مناخاً متوازناً وقيم رائدة ترفع من قيمة الانسان وتجعله إنساناً منتجاً ومستقراً فعندما يشعر الإنسان بمزايا الحقوق والحريات الممنوحة له سيتجه تلقائياً نحو الانفتاح والابداع، ومن خلال الديمقراطية ستنمو قيم التنوع والتعددية وتتوسع مكتسبات السّلام ونمضي قدما نحو التكامل وبناء تجربة رائدة تخدم تطلعات المستقبل الذي نسعى اليه شعوب وحكومات.

ولأن الاقتصاد يمثل العمود الفقري لهذه الرؤية فأن قضية الانفتاح الاقتصادي وتبّني رؤية اقتصاد السوق وتطوير النظم المالية والتجارية عامل استراتيجي وشرط اساسي للتكامل الاقليمي ومن هنا تبرز الحاجة الى اعادة النظر بالنظم الاقتصادية وتطوير قوانينها المالية والمصرفية برؤية السوق الحر والانفتاح التام والتوجه نحو اتباع استراتيجة النمو المستدام والتنمية الدائمة وتعزيز مقومات النمو الاقتصادي وتقوية سياسة الانتاج بما ينعكس على رفع مستوى رفاهية الفرد في المنطقة وتعزيز الفرص على نطاق واسع ومن ما لا شك فيه ان الرفاه الاقتصادي له اثر بالغ على رفع المستوى المعرفي والثقافي للانسان وتحقيق الاستقرار السياسي والأمني للدول.



وفي الختام نؤكد على أن رؤية التكامل الإقليمي تتجلى في طموحات عظيمة لخلق كيان حضاري اقتصادي متقدم وهذا ما يجعلها منعطف تاريخي، وطموح انساني، وبعد اتفاقيات السلام الإبراهيمي اصبحت هذه الطموحات واقعاً بدأنا نلتمسهُ، وتجربة واعدة اصبحت شعوبنا تتطلع لها وتتبنى مبادئها واهدافها . وان نجاح صناعة التكامل سيكون اهم حدث تاريخي سيشهده العالم كونه مشروع عظيم لشرق اوسط جديد يمتلك اكبر الامكانيات المادية والمعنوية والحضارية والبشرية التي باستطاعتها تحويل الاهداف والبرامج الى مخرجات حقيقية لإرساء منظومة اقتصادية هائلة ستكون الأرض الصلبة التي تمتد فيها جذور السلام والتنمية والاستقرار بما يُنمي قيم واهداف الشراكة والتعاون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فصل جديد من التوتر بين تركيا وإسرائيل.. والعنوان حرب غزة | #


.. تونس.. مساع لمنع وباء زراعي من إتلاف أشجار التين الشوكي | #م




.. رويترز: لمسات أخيرة على اتفاق أمني سعودي أمريكي| #الظهيرة


.. أوضاع كارثية في رفح.. وخوف من اجتياح إسرائيلي مرتقب




.. واشنطن والرياض.. اتفاقية أمنية قد تُستثنى منها إسرائيل |#غرف