الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جسر اللَّوْز 35

علي دريوسي

2021 / 12 / 27
الادب والفن


أعود الآن لاستنشاق أنفاس الورد من المجموعة القصصية "وَالوردِ إِذَا تَنَفَّسَ" لصديقتي إيمان، فتحت الكتاب، جذبني عنوان إحدى القصص "دود الخل" في الصفحة 68، كتمت صوت التلفاز، جلست على الصوفا وأخذت أقرأ بتركيز:
افتتحت إيمان قصتها بأن كتبت:

في معظم الجرائم الصغيرة التي تحدث ضمن جدران البيت الواحد، قد يكون من الصعب التعرُّف على شخصية الجاني، لأنه أحد أفراد العائلة غالباً. بحسب المثل الشعبي: "دود الخل منه وفيه."

ثم بدأت القصة كما يلي:


ثمة بكاء في العالم
كما لو أن الله العزيز
قد مات
والظل الرصاصيّ الخانق
يتهاوى
يجثم على الصدور
كبلاط القبور.

كانت هذه الكلمات من قصيدة "نهاية العالم" للشاعرة اليهودية "إلزه لاسكر شولر" هي آخر ما قرأه الدكتور صالح محمد سبَّاك في حياته القصيرة وباللغة الألمانية، اللغة التي وقع في حبها حين سافر إلى ألمانيا قبل أكثر من خمسة وثلاثين عاماً لمدة أربع سنوات للتخصُّص العلمي والحصول على شهادة الدكتوراه من جامعة إيرلانغن في علم الاجتماع.

لكنه منذ ذلك الوقت - ورغم قراءاته الأدبية المتقطِّعة بالألمانية وانشغاله بها في مجال اختصاصه - لم يتمكّن من إتقانها كما ينبغي. وهكذا فقد دأب على قراءة الشعر كلمة كلمة وجملة جملة وترجمته بأناة وغبطة مستعيناً بالقاموس الألماني-العربي لمؤلفه جوتس شراجله.
كان الوقت عصر يوم صيفيّ حار وما زال مستلقياً في سريره الذي حوّله إلى طاولة مكتب عمل، بعد أن تناول طعام الغداء مع عائلته كاملةً لأول مرة منذ أكثر من عام.

كان الدكتور صالح لوحده مع كتبه وأحلامه وتأملاته وكان الهدوء سيد المكان.
لم يكن قد مضى على دخوله السن التقاعدي أكثر من خمسة أشهر. ما أن حصل على تعويضاته حتى سعى إلى تحويلها إلى العملة الصعبة، حوَّلها إلى اليورو، بلغ المبلغ ثلاثة آلاف وستمائة وسبعين يورو، لم يصرف منه شيئاً، خبأه بين طيات أحد الكتب المعرفية التي ملأت رفوف مكتبته في غرفة نومه، طالما ودّ تحقيق حلمه وحلم زوجته تماضر بزيارة ألمانيا والسياحة فيها لمدة شهر أو أكثر، ولا سيما أن ابنتهما هناء مقيمة هناك منذ أكثر من أربع سنوات بعد أن ابتعثتها جامعتها للحصول على شهادة الدكتوراه من جامعة غوتينغن في اختصاص الجيولوجيا التطبيقية.

لم يكن حلمه بالسياحة سراً، كل أفراد أسرته علموا بالأمر واستمعوا إلى مخططاته سواء مباشرة أم عبر السكايب، جميعهم عرف كم لديه من المال لتغطية نفقات سفره، حتى أنه لم يخف عنهم اسم الكتاب الذي وضع النقود بين صفحاته.
وإذا ما عاتبته تماضر على علانيته وحديثه عن خصوصيات لا مبرر لها أمام الأولاد، كان يبتسم لها كمن قد دخل حديقة النيرفانا منذ زمن بعيد، يعانقها ويجيبها: هذه عائلتنا الصغيرة يا تماضر ولا أسرار بيننا.
ثم يمشي وهو يتمتم بكلمات شاعره المفضّل جبران: "أخبر سرك للريح، لكن لا تلمها إن أخبرت الأشجار."

كان يومه هذا مميزاً بما تعنيه الكلمة من معنى. حول طاولة الغداء جلست عائلته، زوجته تماضر، ابنته الكبرى لميس التي تعيش في ولاية ألاباما الأمريكية وزوجها المغترب وائل وابنهما مجد في العاشرة من عمره، هناء القادمة من ألمانيا لقضاء إجازة الصيف مع خطيبها المهندس سامر، ابنته الثالثة دعد مع زوجها يوسف، ابنه أمير مع خطيبته سمر، ابنه غيث أصغر أولاده وأخيه الأصغر مرتضى مع زوجته سحاب.

شعر الدكتور صالح وهو مستلقٍ في سريره ببَرْقٍ خفيف يلمع في رأسه، أحسّ بانتفاخ مثانته لكنه أبى أن يذهب إلى دورة المياه قبل أن يكتب في دفتره الخاص: "حبيبتي تماضر، كنت أتمنى أن أرافقكم في مشواركم إلى الكورنيش لكني أشعر بالإنهاك قليلاً منذ صباح اليوم، لم أخبرك يا عزيزتي كي لا أعكر علينا جميعاً ساعات الصفاء. ثم دعيني أقول لك سراً: أحب أن أبقى في سرير نومنا هذا لأن رائحتك عالقة به دائماً. فلا حاجة لك إذن لاتهامي بالعزلة وانزوائي في الغرفة وانشغالي التام عن الآخرين بقراءاتي وكتاباتي، ولا حاجة لك أيضاً لتذكيري الدائم بأن الحياة خارج البيت أحلى وأني نادراً ما أخرج لأشمشم الهواء."

أغلق دفتره، وضعه تحت فراش السرير، نهض ومشى في الدهليز الطويل المؤدي إلى الحمّام.
سقط في الدهليز حين لمع البَرْق في رأسه حد الوجع والانهيار، لم يستطع مقاومته أو سؤاله من أي جهة أتى، كبا مائلاً نحو الأرض دون حراك، لعل آخر ما شعر به هو برودة بلاط الدهليز، نشيج ورثاء الأحباء، ظل رمادي يجثم على صدره وأنه قد تبوَّل في بيجامته.

حين فاجأته السكتة الدماغية كان منزله العائلي فارغاً، كان أولاده الخمسة وزوجته موزعين خارج البيت.
فجأة فتحت هناء باب الشقة، خشخت بمفاتيحها وهي تترنم: "وأنا كالطفلـةِ في يـدهِ ..".
سمعت صوت أبيها قادماً من بئر مهجورة: "أم أمير .. خذوني إلى المستشفى".
ركضت هناء باتجاه مصدر الصوت لتجد أباها فاقداً وعيه.
>>>

وأنهت إيمان القصة بكلمتين: "للقصة بقية لن أرويها لكم...!"
لم تفاجئني قصتها المبتورة لأنني ...

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟