الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السِّحرُ الذي ... معقودٌ بناصيتها

فاطمة ناعوت

2021 / 12 / 29
الادب والفن



لا يعرفُ الهوى إلا من ذاقَ طعمَ الهوى. ولا يعرفُ البحرَ إلا مَن غاصَ في أغواره وشاهدَ شِعابَ مرجانه وسراديبَ أنفاقه. كذلك لا يدرك سِحرَ تلك الفاتنة؛ إلا من شغِفها وعشقها وتعذّب بدلالها وغرق وذابَ في بحر غرامها. وسوف يبقى لغز تلك الحسناء سرًّا مدهشًا لا نملكُ جميعَ مفاتيح سحرِها إلا بقدر ما هي تسمحُ لنا أن نعرفه، وبقدر ما تُسعفنا قدراتُنا على تذوّق النغم الفريد. نحتفلُ بعيدها يوم 18 ديسمبر منذ عام 1973. لكنها لم تولدُ في ذلك العام، بل وُلدتِ الجميلةُ قبل الأزمان. ولكنه اليومُ الذي انتبه فيه العالمُ إلى سحرها وذكائها وغنجِها وألغازها وسعة ثقافتِها، فاعترف بها الدبلوماسيون لتغدو إحدى فاتنات العالم الست، المعتمدة رسميًّا في الأمم المتحدة. إنها اللغةُ العربيةُ التي أجلَّها العالمُ وسكِر بحلاوة كأسها وعرفَ مؤخرًا قدرَها الرفيع، لتغدو اللغاتُ الستُّ المُتحدَث بها رسميًّا في الأمم المتحدة هي: الروسية، الصينية، الإسبانية، الإنجليزية، الفرنسية، ثم العربية.
ما هذا السِّحر السيّال الذي يطفرُ من بين ثنايا لغتنا العربية الجميلة؟! ما تلك العبقرية المعقودة بناصية تلك اللغة الفذّة التي تغمُرك بقَطرِ الدفق الشهيّ حين تسمعُ بعضَ آياتٍ من سورة قرآنية مَكيّة، أو بضعة أبياتٍ من ديوان "سلطان العاشقين"، أو "أبي الطيب"! إنها لغةُ المرادفات والأضدّاد والمشتركات اللفظية والمتشابهات والإدغام والتشبيع والقصر والحصر والقطع والوصل والتقديم والتأخير والضمير والالتفات والمجاز والكناية والطِباق والمقابلة والسجع والجِناس! لغتُنا العظيمة التي يعشقُها من سبح في بحرها المترامي وجرّب الغرق مرّة ومراتٍ، ويجهل قدرها مَن غفل عن حُسنِها ورشاقتها وقوّة بيانها. في كل عام أكتبُ مقالا عن اللغة العربية في ديسمبر. وعادةً ما يكون المقالُ راقصًا وحزينًا في آن. راقصٌ إذْ يتهادى على سُلّم اللغة الموسيقي، وحزينٌ لأن يوم ميلادها يمرّ عادةً دون أن يشعرَ به أحدٌ! ولهذا جاءت عناوين مقالاتي على نحو: “الجميلة المنسية في عيدها!”، "الجميلة .. كل عام وأنت جميلة!”، "الجميلة المغدورة في عيدها!”، وهكذا. لكن هذا العام حدث شيء غير عادي. عشراتُ الصحف تتكلم عن "اليوم العالمي للغة العربية"، ومواقعُ وصفحاتٌ تنشر بوستات وتغريدات لأجمل أبيات الشعر العربي، أو أغرب ألغاز اللغة العربية. وهنا يتوجّب عليّ أن أشكر صفحة "نحو وصرف" التي أنشأها شبابٌ نابهون، استطاعوا بذكائهم اجتذاب آلاف المتابعين المتفاعلين مع ما تنشر الصفحةُ من أدبيات اللغة العربية وأسرار أجروميتها النحوية والصرفية.
من بين مقالاتي الحزينة في الأعوام السابقة مقطعٌ يقول: “وكالعادة، مرَّ عيدُ ميلادِها دون أن يتذكّرَها أحدٌ ودون أن تُوقدَ لها شمعةٌ! الجميلةُ الساحرةُ الآسرةُ التي لا أحدَ يُحبُّها. من فرط جمالها، يكرهُها العشّاق! ثمّة درجاتٌ من الجمال تجعلُ الناسَ يهابون ويهربون. درجاتُ الجمال العُليا تٌخيفُ، فيؤثرُ الناسُ الفرارَ، ثم يتخفّون خلف الأشجار يرشقون الجميلةَ بالحجارة، ويشدّون الأقواسَ لتنطلقَ السهامُ تخترقُ قلبها الغامض.
اختار اليونسكو يوم 21 فبراير من كل عام، يومًا للاحتفال بعيد "اللغة الأم" لدى الأمم المتحدة. وهو اليوم الذي تحتفل به كلُّ أمّة من دول العالم، باللغة الأم الخاصة بها. فاختار الروس يوم 6 يونيو، وهو يوم ميلاد الشاعر الروسي "ألكسندر بوشكين"، واختار الصينيون 20 أبريل، ذكرى "سانج چيه" مؤسس الأبجدية الصينية، وبالطبع اختار الإنجليز 23 أبريل يوم ميلاد عظيم العالم الأديب الإنجليزي "وليم شكسبير"، بينما اختار الفرنسيون 20 مارس المتزامن مع اليوم العالمي للفرنكفونية، فيما اختار الأسبان 21 أكتوبر، يوم الثقافة الإسبانية. أما نحن، الناطقون بالعربية، فقد وقع اختيارنا على اليوم 18 ديسمبر عيدًا عالميًّا للغة العربية، وهو ذكرى اعتماد العربية لغةً رسمية في الأمم المتحدة عام 1973، بعد محاولات دؤوب بدأت منذ خمسينيات القرن الماضي. لماذا لم نختر يوم ميلاد المتنبي أو ابن الفارض أو شوقي ليغدو يومًا للاحتفال باللغة العربية؟! لستُ أدري.
أيها القارئ العزيز، وأنت تقرأ قصيدةً لابن الفارض، "سلطان العاشقين" وهو يقول: “قلبي يُحَدّثني بأنكَ مُتْلِفِي/ روحي فِداكَ عرفْتَ أمْ لم تَعْرِفِ/ ما لي سوى روحي/ وباذلُ نفسه في حب مَن يهواه ليس بمُسرف/ لو أن روحي في يدي/ ووهبتها لمبشّري بقدومكم لم أنصِفِ/ أنتَ القَتِيْلُ بأيّ مَنْ أحبَبْتَهُ/ فاختر لنَفْسِكَ في الهوى من تصطفي.” أنصِتْ إليها بصوت الجميل "سيد النقشبندي"، ثم استسلمْ لسحر العربية، ودعها تتسلّلُ داخل روحك وتُسرّبُ إلى عمقك أسرارَها. أيتها اللغة الساحرة، أقولُ لكِ في عيدك: كلّ عامٍ وأنت وجميلةٌ.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إليكم ما كشفته الممثلة برناديت حديب عن النسخة السابعة لمهرجا


.. المخرج عادل عوض يكشف فى حوار خاص أسرار والده الفنان محمد عوض




.. شبكة خاصة من آدم العربى لإبنة الفنانة أمل رزق


.. الفنان أحمد الرافعى: أولاد رزق 3 قدمني بشكل مختلف .. وتوقعت




.. فيلم تسجيلي بعنوان -الفرص الاستثمارية الواعدة في مصر-