الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجزء الثاني تتمة لمقال ( مقولة نهاية المثقف) بين الواقع والخيال .

محمد بلمزيان

2021 / 12 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


تتمة لمقال ( مقولة نهاية المثقف) الذي نشرت فقرة منه يوم أمس والذي جاء مبتورا لخلل تقني :
مما جعل مقولة ( نهاية المثقف ) ذات الخلفيات الإيديولوجية في الأغلب الأعم، لم تكن ترمي الى انتقاد وضعية بعينها وقسط من أقساط الثقافة من موقع النقد الرحيم والغيرة بل راحت تكيل الهجاء وتشيع اللبس المعرفي باقتفاء أثر الصيحات الآتية من الثقافة الغربية على سبيل المباهاة أمام الآخر في أغلبها وبالعزف على وتر المفاهيم المستحدثة .
المثقف بين الإشعاع والإنحلال :
لعل الحركة الشعبوية الروسية هي التي صاغت لأول مرة مع نهاية القرن التاسع عشر مفهوم ( الأنتلجنسيا) التي ارتبطت تاريخيا بفئة من المتعلمين الحاملين لرسالة ما يجب تأديتها على أحسن وجه في المجتمع من موقع مفهوم ( المثقف الرسولي ) وقد تزامن ذلك مع ظهور ( مفهوم المثقفين ) في فرنسا مع ( كليمانصو) في مقالة له بجريدة ( لوغوغ) تحت عنوان( بيان المثقفين ) (1) ولذلك كانت ( الأنتلجنسيا) قد ارتبطت بمثقفها ( الأنتلجنسوي) الذي يزاول الوظيفة النقدية للواقع الى نهايتها،أي الى تغيير الواقع جذريا(2) وبالتالي إرساء ثقافة ودعائم مجتمع " الحلم " كما ذهب الى ذلك " إدغار موران" في ثنايا كتابه: ( إن المثقف ليس مهنة أو سلكا ، فقد يكون أديبا أو فيلسوفا أو صحفيا أو تقنيا أو جامعيا أو عالما ويصبح هؤلاء مثقفين ما أن يتجاوزوا حقلهم التطبيقي التقني أو المختص ليعلنوا أفكارا ذات قيمة مدنية او اجتماعية أو سياسية)(3) . لقد كان المثقف الأنتلجنسوي مغرما برسم الطموحات والآمال السعيدة ساعيا الى تبليغ( الرسالة) في المجتمع ( فهو يملك افكارا سرعان ما تملكه وربما تدفع به الى الطغيان أو الموت في سبيل تجسيد رسالته الكلية ) (4) إذن فوهم الأنتلجنسيا هو أنها ارتبطت في مشروعها على اعتبار الفكرة واقعا يتحقق بمجرد السعي نحو تبليغها واقترن مثقفها بالمثقف الرسولي سرعان ما تنتهي مهمته بانتهاء تطبيق حلمه في الواقع المشخص، إذ أن وضعيته تقتضي والحالة هذه الحركة الدائبة والنشاط المستمر لتصريف مواقف اعتبرتها( الأنتلجنسيا) بمواقف الطليعة في مجتمعها، وقد أبانت مرحلة ما بعد الحرب الباردة عن وضعية أخرى للأنتلجنسيا وصار وضعها في غير وضعها السالف الذكر، وخبا تأثيرها في الوسط المجتمعي وتلاشت بالتالي فكرة قدرتها على تغيير العالم. والسؤال الآن الذي يمكن طرحه في سياق البحث في السيرورة التاريخية للمثقف لا يمكن باي حال من الأحوال أن يجافي الطرح السليم له، فهو الى أي مدى وصل وضع المثقف الحالي بثقافته وبمشروع رسالته في المجتمع؟! ومن خلال السؤال واستحضار المعطيات لبدايات هذا المثقف ومن موقع النقد القويم يمكن أن نضع علامات كبرى على حدود الخطإ والهفوات التي رافقت هذه البدايات والتي لا يمكن أن تصل الى نهايات كاملة ومكتملة.
الواقع أن لكل بداية لثقافة معينة إلا ولها نهاية في قسط منها ما لم تساير التطور التاريخي وفق الوعي بطبيعة هذه النهاية، فحين نتلقف فكرة ( نهاية المثقف) فإنها تحدث طنينا في الرأس من حيث أن المثقف ككينونة هو في سيرورة دائمة لا يمكن أن نضع حدا لإنتاجه أو توقيفه من الإبداع والتفكير وهذه البداهة تكتسب قوتها من حيث أن المثقف كآلة المنجل يمكن تحويله في كل وقت بالحدادة الى آلة أخرى مغايرة تماما إذا احترق حقل القمح برمته، وحقل القمح هنا يشير الى وضعية ثقافية معينة قد تتعرض لاندثار ما أو الى التلف من الوجود لسبب من الأساب، إلا أن الأداة المتحكمة فيه والمنتجة للتاريخ بالفعل هو الروح الإنساني الذي لا ينضب معينه. إذن فهذه المقولة الداعية الى اعلان موت المثقف ما هي إلا فكرة إيديولوجية تغط تحت ستار سميك تستهدف تشييع النهاية بكل الطرق باسم الفهم الذاتي لوضعية المثقف النابعة أساسا عن عقل لا منتمي تموقع بين الخاصة والعامة،وهو تفكير ينتمي الى وهم الإيديولوجيا، من حيث أنه أحس باحتراق أجنحته فآثر البديل في الخفاش الذي لا يجيد الطيران إلا في الظلام الدامس.( إذ أعلن اللامنتمي أن لامهمة للمثقف سوى قراءة النص وتفكيكه أعفى نفسه من فكرة الإلتزام بمشكلات الناس وآمالهم )(5) فمن بين الحيثيات التي ساهمت في انطراح هذه الفكرة هي وجود فهم ضيق لماهية المثقف والثقافة كعملية إنتاج وإبداع سيما وان هذا الطرح لم يسلم من تنقية المفهوم من ما علق به داخل المنظومة الفكرية في اوربا{ مفكر الإختلاف في أوربا أراد تجاوز مفهوم الهوية والسوي مدافعا عن التعدد واللاسوي وهو يعيش الإختلاف على مستوى الفكر والسياسة، في حين أن مفكر الإختلاف العربي راح يدافع عن الهوية والسوي كما يراها داحضا الطابع الشمولي للمفكر والإيديولوجيا دون أن يقدم لنا لوحة الفكر المختلف) (6)
لقد ذهب ( فيصل دراج) في مقالة له بمجلة ( الآداب ) البيروتية تحت عنوان( مصير المثقف بين النقد والهجاء ) الى أن نهاية السبعينات شكلت بروز جملة من الدراسات تعلن نهاية المثقف وانطفاء وظيفته، وقد انشطر الراي حول هذه الفكرة خاصة في فرنسا الى اتجاهين مختلفين هما ( الفلاسفة الجدد) وصف ( المثقفين الذين حلموا طويلا بتثوير المجتمع ) ولم ينته الى شيء، وقد حاول (فيصل دراج) في دراسته المذكورة مطارحة المفهوم وإيحاءاته المختلفة بدءا بما فعلته هزيمة يونيو 67 كمحطة ضاغطة على سيرورة المثقف بشكل انكساري ومرورا بما ألحقه المشروع الناصري على المثقف الوطني ساردا في كل لحظة ومضات مضيئة من تاريخ سيرورة المثقف، وقد وقف ( فيصل دراج ) ضد طروحات الباحث ( علي حرب ) في استنتاجاته التي تنادي ب ( موت المثقف) ونهايته، كما تحامل (دراج) على (حرب) لكونه من المثقفين الذين تناولوا وضعية المثقف من موقع ( الهجاء) لا النقد القويم. ففي كتاب ( ( علي حرب) تحت عنوان ( أوهام النخبة) يحاكم بلا هوادة في مقولة( المثقف) من حيث هي اختراع ذاتي بدون استحضار شرطه التاريخي المعين، الشيء الذي جعل ( المثقف) في صورة الكتاب هو المسؤول عن المآسي اللاحقة التي يعيشها المجتمع، محملا إياه جميع الفواجع التي أفضت بالمجتمع الى هذا الوضع المخيف ، فبدل أن يربط حرب وضع المثقف بلحظات وجوده وتطوره وانكساره بشكل واقعي والتي أفضت الى خلاصة ( النهاية) الى ( الوعي التاريخي ) الذي وقف عنده وتأمله طويلا ( عبد الله العروي) لم يكلف حرب نفسه عناء البحث في تفاصيل هذه المنعطفات التاريخية الهامة والتي اعتبرها ( دراج) وقفة قيمة وذات عمق معرفي كتلك التي قام بها ( العروي) بهذا الخصوص، ليقول : ( ولقد كان من المفترض أن يقوم( علي حرب) وهو مفكر يهتم بإنتاج المعرفة بقراءة علاقات المطابقة والإنزياح بين الفكر العربي التنويري والتاريخ لكي يصل الى { معرفة دقيقة} يتناقض فيها الخطأ والإنزياح) وهو لا يفعل ذلك لأنه يتطير من مفهوم التاريخ ويحتفي بفكر لا تاريخ له، فكر لا قواعد له ولا قيود ولا مراجع إلا فضاء الفكر ذاته ) (6) .
لقد اتضح جليا أن مفهوم ( نهاية المثقف) وبالتالي( موت الثقافة) مفهوم قد تم توظيفه بشكل ينكر على المثقف التنويري إسهامه في نشر الوعي التاريخي وأدائه لذلك في حدود الهامش الموجود والمسطر له سلفا داخل الفضاء المسموح به لحركة الثقافة في المجتمع من حيث أن الحيز الذي تحتله الثقافة في الإنتاح الإجتماعي هو ضيق، وبالتالي فحجم التأثير في المحيط يبقى مشروطا بهذا الهامش، فكيف يتم تحميل هذا المثقف حجم هذه الفواجع والتبعات كلها دون استحضار العوامل الأخرى المحددة للتشكلية الإجتماعية ومدى تأثيرها في صنع الوضعية المعبر عنها في مقولة ( نهاية المثقف)؟ والغريب في أمر هذا الطرح أنه يقارب وضع المثقف من موقع الهجاء والتدمير وليس من موقع النقد الرحيم للتقويم الرامي الى مسح الشروخ البادية في المرايا ، وكذا البحث عن امكانية استعادة ذلك الألق والجاذبية التي كالن يمتلكها بالأمس، يحدث ذلك في غياب أية رؤية تستشرف البديل المتصور لإنقاذ الوضع المهجو(إن المثقف الذي يدعي ( نهاية المثقف) ليس البديل بل هو الشكل الأمثل للنعيق في الخراب ) (7)
يبدو أن فكرة ( نهاية المثقف) وفق هذا التصور تحتفي بإيديولوجية (المنتصر) وتهجو إيديولوجية ( المنهزم) في الوقت الذي لا يمكن أن نتصور أن كل ما هو منتصر هو صحيح وليس كل ما لا ينتصر خاطئا ، وأضاف( فيصل دراج) في سياق إثراء تصوره متسائلا في معرض تعقيبه( لقد قضى الغزاة الإسبان على حوالي عشرين مليونا من سكان المكسيك الأصليين، فهل كان هذا الإنتصار تجسيدا للحقيقة والصواب)؟ داعيا ( علي حرب ) الى إعادة القراءة وحسنها قصد فهم عميق لما يقرأه خاصة ما نسبه تجاوزا الى ( غرامشي) معتبرا ذلك ب ( أوهام على حرب ) ولا علاقة له بالمفكر الإيطالي ، وتنطوي فكرة ( نهاية المثقف) على الكثير من المغالطات والمزايدات الإيديولوجية من حيث إنها تلغي المحطات الواعدة في شكل رموزها الثقافية والإبداعية الكثيرة التي شكلت إشراقات مضيئة، شكلت نسقا ثقافيا ممتدا لايمكن دحضه من الخريطة أو الإنتقاص من قيمته التنويرية من جهة، ومن سيرورته التاريخية من جهة ثانية، وكل فهم باتر من هذا النوع فهو نابع بالضرورة عن الدوغمائية والمعرفة المغلقة التي تنفي المعرفة العلمية في نسبية حقائقها، وتركن بالتالي الى وثوقية مبالغ فيها تتناقض مع الطابع التراكمي المفتوح لأية معرفة.
وفي نفس سياق البحث في مرجعيات هذه المقولة أشار الباحث ( كريم أبو حلاوة) في مقاله المنشور في مجلة الآداب البيروتية تحت عنوان ( وهم مقولة نهاية المثقف) أكد فيه ( على أن هذه الفكرة ليست وليدة اللحظة الراهنة بقدرما جرى اختراعها والترويج لها في الغرب في مهاد الحداثة الغربية المتناقض الأرضية، سيما وان الحداثة في الغرب ذات الطبيعة التناقضية أسست لمقولات الإنسان الفرد والعقل والقانون العلمي والمواطنة والدولة الدستورية، فإنها وبشكل محايث لذلك قد انطوت على نزعات الشك والعدمية وفقدان المعنى وتهديم المعقولية في العديد من مفاصل تطورها اللاحقة) (8) لذا يبدو أن فكرة النقد المصاحبة في حالة الثقافة الغربية والمترجمة في البعض منها في هذه ( النهاية) ما هي إلا عملية لتأمل ذاتها ومحاولة التأسيس لبداية أخرى كمقولة موظفة في سياق التقويم المعرفي واكتشاف المفاهيم الجديدة والتي دلخت في صراع حاد مع المفاهيم القديمة، وهي نهاية توظف بالطبع كما تم توظيف باقي ( النهايات) المعروفة ك ( نهاية التاريخ ) مع ( فوكوياما) وقبله ( نهاية الفلسفة) مع ( هيجل) ... الى نهاية ( المثقف والثقافة) كصيحة اخرى في زمان موسوم بمعادلات أخرى كمحطة لصراع إيديولوجي بين ثقافة سابقة مع أخرى لاحقة تتلمس طريقها نحو تثبيت خطاها في الواقع الثقافي، وفي إطار هذه الحرب يتم استخدام أسلحة نقد جديدة مستهدفة احتلال ليس فقط المنظومة الثقافية وإنما اختراق الوقائع بغية إرساء دعائم ثقافة جديدة من داخل( النهاية المعلنة) لذلك فإن فكرة إعلان ( موت المثقف) ما هي في جوهرها إلا بيان عن نهاية لنوع من المثقفين وليس نهاية ل ( جنس ثقافي) بما هو جنس كلي، إعلان عن ميلاد ثقافة أخرى تحتل الموقع الذي لم تسعف الثقافة السابقة مقاومته في ظل شروط مغيرة إما لضعفها عن مسايرة الجديد أو لعدم قدرتها على إثبات ذاتها بالإستيعاب للواقع وبالتالي بناء مفاهيمها لتجاوزه نحو فضاءات أخرى جديدة .
المراجع والإحالات :
(1) نديم البيطار : ( المثقف العربي ، دوره وعلاقته بالسلطة والمجتمع)
(2) محمد جمال باروت ( الصورة الأنتلجنسوية للمثقف) مجلة الآداب البيروتية عدد : 7 و 8
(3) إدغار موران ( مقدمات للخروج من القرن العشرين )
(4) محمد جمال باروت ( نفس المرجع )
(5) احمد برقاوي ( اللامنتمي في إديولوجية نهاية المثقف) مجلة الآداب البيروتية
(6) نفس المرجع
(7) فيصل دراج ( مصير المثقف بين النقد والهجاء ) مجلة الآداب البيروتية
(8) كريم أبو حلاوة ( وهم مقولة ّ{ نهاية المثقف} مجلة الآداب البيروتية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الولايات المتحدة و17 دولة تطالب حماس بإطلاق سراح الرهائن الإ


.. انتشال نحو 400 جثة من ثلاث مقابر جماعية في خان يونس بغزة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن قصف 30 هدفا لحماس في رفح • فرانس 24


.. كلاسيكو العين والوحدة نهائي غير ومباراة غير




.. وفد مصري يزور إسرائيل في مسعى لإنجاح مفاوضات التهدئة وصفقة ا