الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السُّودان والاستقلالُ المفقود ..!

فيصل عوض حسن

2021 / 12 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


دَرَجَنا نحن السُّودانِيُّون على الاحتفال بذكرى الاستقلال مع مطلع يناير من كل عام، نُغنِّي الأناشيد والقصائد الحَمَاسِيَّة، ونستعرض التسجيلات الوثائقية عن نضالات الأجيال السابقة ومواقفهم الوطنيَّة، وغيرها من مظاهر الاحتفاء. وتأتي هذه الذكرى هذه المرَّة ونحن نحيا في أسوأ ظروف يُمكن أن يحيا فيها الإنسان، ونُعاني مُهدِّداتٍ مُفزعة تتقاطع تماماً مع مضامين (الاستقلال) الرمزِيَّة والجوهرِيَّة، وتُهدِّد بزوال السُّودان من أساسه!
أخطر المُهدِّدات التي تُواجه استقلالنا وسيادتنا الوطنِيَّة، تتمثَّل في حُكَّام السُّودان الحاليين، سواء العَسْكَر/الجنجويد أو حمدوك وقحتيُّوه أو القادمون من جوبا، فجميعهم مُستعدُّون للعَمالةِ والخيانة والغدر، وجميعهم يُنفِّذون أجندة خارجِيَّة خصماً على السُّودان وأهله، ودون أي سُقُوفٍ أخلاقِيَّةٍ أو إنسانِيَّة، استكمالاً لما بدأه الكيزان الذين أتاحوا بلادنا وخيراتنا للقاصي والدَّاني، حتَّى أضحت مُستباحة بالكامل (أرضاً وشعب). الخطرُ السياديُّ الثاني، يتمثَّل في تغيير التركيبة السُكَّانِيَّة بواسطة المُجَنَّسين/الأجانب، الذين جَلَبَهم المُتأسلمون بمجموعاتٍ كبيرة، ومنحوهم المزايا المالِيَّة والسُلطَوِيَّة، وبعضهم اسْتَوْزَر وتَقَلَّد مناصب حَسَّاسة بالدولة، كالمُرتزق حِمِيْدْتي ومليشياته المُكوَّنة من (مَقاطيع) أفريقيا، ومجموعات من الحُثالة وسَقَط المَتَاع ببعض مناطق السُّودان، والذين أغرقوا بلادنا في الإجرام بما في ذلك العاصمة، وقاموا بتصدير إجرامهم للخارج كليبيا واليمن وما خُفِيَ أعظم. وقبل حِمِيْدْتي، تَقَلَّدَ (الإريتري) إبراهيم محمود أخطر مناصب الدولة، مُمَثَّلة في وزارة الدَّاخِلِيَّة، فقام بتجنيس عشرات الآلاف من أهله (اللاجئين) الإريتريين، وأدخلهم في جميع مرافق الدولة الحَسَّاسة، خاصةً المُؤسَّسات الأمنِيَّة والتعليم والإعلام والقضاء. وبدلاً عن تحجيم ودرء هذا الخطر السيادِيّ/الوُجُودِيّ، نَسَّقَ حمدوك وقحتيُّوه مع العَسْكَر/الجنجويد لتعزيز سُطوة المُجَنَّسين، على نحو ما يجري بدارفور عبر حميدتي ومليشياته، أو في الشرق الذي يعملون لمنحه للإريتريين، بمطامعهم وأحقادهم المُتجذِّرة والمُعْلَنَة تجاه كل ما هو سُّوداني، وولائهم المُطلق لدولتهم التي هربوا منها حُفاةً وعُراة!
يُعاني سُوداننا الحالي من الاحتلال، سواء بِغَلَبَةِ السِّلاحِ/القُوَّة أو المال، حيث تحتل مصر مُثلَّث حلايب وغالِبيَّة الأراضي النُّوبِيَّة وبعض شمال دارفور، بخلاف ملايين الأفدنة بالشِمالِيَّة وغيرها، وعبثها المُتواصل بمياهنا الإقليميَّة في البحر الأحمر. بجانب الاحتلال الإثيوبيّ للفشقة وما حولها منذ سنة 1995، وإقامة قُرى كاملة بمَحْمِيَّة الدِنْدِرْ، واستمرار إجرام مليشياتهم ضد المُواطنين السُّودانيين! وهناك المساحات الشاسعة التي التهمتها الإمارات وتركيا والصين وروسيا والسعوديَّة وغيرهم، وثَمَّة تفاصيل أكثر في بعض مقالاتي كـ(أَمَا آَنَ اَلْأَوَاْنُ لِإِيْقَافِ اَلْصَلَفِ اَلْإِثْيُوْبِيّ) بتاريخ 13 أغسطس 2017، ومقالة (اَلْبَشِيْرُ وَتَعْمِيْقِ اَلْاِحْتِلَاْلِ اَلْمِصْرِيّ لِلْسُّوْدَاْنْ) بتاريخ 19 أغسطس 2017، ومقالة (تَسْلِيْمْ وَتَسَلُّمِ اَلْسُّوْدَاْنْ) بتاريخ 17 أكتوبر 2017، ومقالة (اَلْاِلْتِقَاْءُ اَلْإِثْيُوْبْيُّ اَلْإِرِيْتْرِيْ: قِرَاْءَةٌ مُغَاْيِرَة) بتاريخ 23 يوليو 2018، و(اَلْسُّوْدَاْنُ مَسْرَحُ اَلْدُّمِي) بتاريخ 5 أغسطس 2018، و(اَلْمَشَاْهِدُ اَلْأَخِيْرَةُ لِمَخَطَّطِ تَمْزِيْقِ اَلْسُّوْدَاْنْ) بتاريخ 19 أبريل 2019، وهي في مُجملها تُؤكِّد عدم استقلالنا ووقوعنا في دائرة الاحتلال.
يُعاني السُّودانيُّون وبشدة من غياب الأمن والسلام بحدودهما وأشكالهما العديدة، كالاعتقالات والإعدامات والإفقار والتجهيل المُتواصل/المُتزايد، وجرائم الحرب والإبادة الجماعِيَّة، ونَزْعْ/مُصادرة الأراضي والأملاك والمَنْعِ من العمل وغيرها من المظالم! والصادم في الأمر، ارتقاء (رُعَاة) الإجرام و(عَرَّابي) القتل في أعلى مراتب الدولة، وإعاقة مُحاسبتهم ومُحاكمتهم وانتقاد المُطالبين بذلك، فمن المُدهش حقاً أننا نثور ضد البشير والمُتأسلمين، ونُجبرهم على (الاختفاء) ولا أقول الاعتقال، ونرفض ابن عوف ورُفقائه، ثُمَّ نقبل بالمُجرم البرهان، ورفيقه المُرتزق حِمِيْدْتِي وبالانتهازيين/العُملاء القادمين عبر اتفاقات جوبا الكارثِيَّة، التي لم تُوقف القتل والإجرام ضد السُّودان وأهله عموماً، ولم ترفع المظالم المُتراكمة لأصحاب (الوَجْعَة)، وتُشْبِعْ رغباتهم (المشروعة) في القصاص من الظَلَمَة، بل زادت أوضاعنا سوءاً وتعقيداً، فبجانب استمرار القتل والاغتصاب والنهب، أتتنا اتفاقات جوبا بمُصيبةٍ أعظم، مُتمثِّلة في (شَرْعَنة) المُجنَّسين بمساراتهم الوهمِيَّة، ومُحاولة فرضهم كواقعٍ يجب التعايش معه، بما يُؤهلهم للريادة في (الانحطاط) والخيانة!
يأتي الاصطفاف القَبَلي/الجِهَوِي كثالث المُهدِّدات (السِيادِيَّة)، فرغم الارتباط الوجداني الكبير بين السُّودانيين (الحقيقيين)، والزمالات الدِراسِيَّةِ/العَملِيَّةِ والجِيْرَةِ والمُصَاهَرَاتِ بل وصِلَةِ الرَّحِم، لكن العُملاء وتُجَّار الحرب القادمين عبر جوبا، نجحوا في تأجيج (فِرْيَةِ) التهميش التي صنعها المُتأسلمون لتمزيق نسيجنا الاجتماعي، رغم أنَّ العَدالَةِ القانونِيَّة والاجتماعِيَّة/الإنسانِيَّة، مفقودةٌ وغائبة عن جميع أرجاء البلاد دون استثناء. والأهمَّ من ذلك، أنَّ تُجَّار الحرب القادمين من جوبا، الذين يُشعلون نيران الجِهَوِيَّة والاصطفاف القَبَلي، تحالفوا مع المُتأسلمين مراراً وتكراراً، ويتحالفون الآن مع مُجرمي الإبادة الجماعِيَّة بالهامش، ويحيون جميعاً مع أُسرهم/عائلاتهم في دَعَّةٍ ورَغَد، ولم ولن يدفعوا تكاليف فِتَنِهِمْ (الخبيثة)، التي يستخدمونها وفقاً لمصالحهم السُلْطَوِيَّة والمالِيَّة، ولنتأمَّل في علاقاتهم التشابُكِيَّة بالمُتأسلمين، ومَدَحهِم المفضوح للجنجويد وزُعمائهم القَتَلة، رغم تَدَثُّرهم بالنِّضالِ لأجلِ المُهَمَّشين (أكبر ضحايا المُتأسلمين والجنجويد)!
من مُهدِّداتِ الاستقلال أيضاً التَراجُع الاقتصادي، واستغلاله/تطويعه لـ(تركيعِنا) وتحوير خياراتنا، وحُكَّام السُّودان (السَّابقين والحاليين) ساهموا في تعميق مُعاناتنا الاقتصادِيَّة، والتدمير المُمَنْهَج لعناصر/أدوات الإنتاج بالبيع أو الرَّهن، وإغراقنا في ديونٍ قاربت الـ60 مليار دولار، والوعود الكذوبة عن الانفراجات الاقتصاديَّة (المُتَوَهَّمة)، صعبة التحقيق والتَحَقُّق! فالمَنَح/القروض حتَّى لو حدثت فعلياً، ستكون (مُستحقَّة الدفع) سواء مالياً، أو من إرادتنا التي ما نزال نسعى لتحريرها، وستكون الانفراجة (شَكْلِيَّة) ومحدودة قِيَمِيَّاً ووقتياً/مرحلياً، وسُرعان ما ستعود مظاهر/مؤشرات الانهيار! لأنَّ مشاكلنا الاقتصادِيَّة بِنْيَوِيَّة/هيكليَّة، ونفتقد لجميع عناصر وأدوات الإنتاج، وهي حالة يستحيل مُعالجتها/تجاوُزها بالوعود الزَائفة، كأكاذيب إعفاء الديون أو رفع اسمنا من قائمة الإرهاب، أو (أوهام) التعويل على علاقات هذا أو ذاك وغيرها من المَتَاهَات، وإنَّما بالإنتاج القادر على المُنافسة في السوق الدولِيَّة/الإقليميَّة!
هناك مِحْنَةُ النُخَبةِ المُتعلِّمة الذين تركوا أدوارهم الأصيلة في التوعية/التثقيف والقيادة، وصناعة التغيير الحقيقي الذي يحتاجه السُّودان، وأصبحوا (أسرى) للموصوفين بـ(قَادَة/رموز)، ويتبعونهم بلا وعيٍ أو نقاش، ويُقاتلون دفاعاً عنهم وعن أسرَهِم أكثر من البلاد المُهدَّدة بالتلاشي، رغم فشل أولئك (الرموز) وتركيزهم على السُلطة والثروة و(توريثها) لأنجالهم! وبعضُ النُخَبْ نأى بذاته وانزوى بعيداً، ومنهم من شَارَكَ في التدمير والصُعُود على جماجم البُسطاء وحُطَام البلاد، وقليلون يُمسِكُونَ بجَمْرِ القضيةِ لكنهم بحاجة لجهود البقيَّة. والمُدهش في الأمر، أنَّ النُخَبْ السُّودانية المُتعلِّمة مُتَّفقون تماماً على الفشل والتراجع، وفي ذات الوقت يتساءلون عن البديل الآمن، دون أن يُفكِّروا أن يكونوا هم البُدَلاء! وأكبر المُفارقات/العقبات نُجسِّدها نحن عامَّةُ السُّودانيين، بوقوع غالبيتنا فريسةً سهلة لفِخَاخِ (الإلهاء)، والانتماءات القَبَلِيَّة والحزبيَّة و(تقديس) الأشخاص، رغم أكاذيبهم/تضليلاتهم التي ظللنا ندفع تكلفتها وحدنا، من أرواحنا ومعاشنا وكرامتنا وسيادتنا الوطنيَّة!
خُلاصةُ القول، أنَّ بلادنا مُختَطَفة بالكامل، وبحاجة لأن نُحرِّرها بأسرع وقت، فالاستقلال الحقيقي يعني امتلاك الدولة لسُلطاتٍ داخليَّةٍ مُطلقة، على الأرض والأفراد والجماعات، ووفق تشريعات/قوانين يلتزم بها الجميع، دون استثناء بما في ذلك القائمين على إدارة شؤون البلاد. كما يعني الاستقلال تمتُّع الدولة بحُرِّيَّة قرارها بعيداً عن سيطرة أي جهاتٍ خارجيَّة، سواء كانت دول أو تكتُّلات أو مُؤسَّسات/مُنظَّمات، وفق الأعراف والمواثيق الدوليَّة المُعتمدة. وبعبارةٍ أُخرى، فإنَّ الاستقلال يعني تسيير البلد (ذاتياً) دون خضوعٍ لإرادة الغير والحفاظ على الموارد وإدارتها بأمثل الطرق، وضمان أمن وكرامة المُواطنين وحفظ أرواحهم ومُمتلكاتهم واحترام آدميتهم، وهذه المُتطلَّبات/المُقوِّمات غير مُتوفِّرة في سُّوداننا الحالي، وعلينا تصحيح وتعديل مفاهيمنا لتتطابق مع (جوهر/مضامين) الاستقلالِ والاحتفاء به.
فاستقلالنا الحقيقي، ينبغي أن يكون بتحرير بلادنا من الاحتلال، وإزالة الغبائن المُشتعلة في الصدور، وتطييب النفوس المقهورة، وجَبْرِ الخواطر المكسورة، ومُحاسبة/مُحاكمة الذين أضَرُّوا ببلادنا وأهلنا و(القَصَاصِ) منهم، واعتمادِ المُؤسَّسيَّة وعمل الفريق، وتَرك (تقديس) الأفراد والتَرَدُّدِ في إزاحة المُتخاذلين منهم دون مُجاملة، ودعم ذلك بإلغاء جميع الجنسيَّات/الأرقام الوطنِيَّة الصادرة من 1989 وحتَّى الآن، وإخضاعها للمُراجعة الدقيقة ومُحاكمة جميع وزراء الدَّاخلِيَّة ومُدراء الشرطة ومُعاونيهم، وكل من يثبُت تَوَرُّطَه في استخراج/مَنحِ الجنسيَّة لمن لا يستوفيها، باعتبارها "خيانة عُظمى"، والعودة لقوانين الجنسيَّة التي كانت مُطَبَّقة سابقاً. مع تَحرِّي الصدق وإعْمَالِ الفكر والتخطيط السليم المدعوم بقُوَّة الإرادة لتحسين اقتصادنا المُتهالك، وإيقاف العبث بمُقدَّراتنا ومواردنا المُستباحة، بدلاً عن الأكاذيب/التضليل والتَوَرُّط في المزيد من القروض.
فلننتهز حِراكنا الثوري الماثل، ونجعل احتفاءنا بذكرى إعلان الاستقلال، حافزاً لإنقاذ السُّودان من التلاشي والتذويب والاستلاب، وهذا ممكنُ جداً بقليلٍ من التخطيط والتنظيم والقيادة (الأخلاقيَّة)، وإعلاء السُّودان (الأرض والشعب) على ما دونه من اعتبارات، بعيداً عن العواطف والمُجاملات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القضية الفلسطينية ليست منسية.. حركات طلابية في أمريكا وفرنسا


.. غزة: إسرائيل توافق على عبور شاحنات المساعدات من معبر إيريز




.. الشرطة الأمريكية تقتحم حرم جامعة كاليفورنيا لفض اعتصام مؤيد


.. الشرطة تقتحم.. وطلبة جامعة كاليفورنيا يرفضون فض الاعتصام الد




.. الملابس الذكية.. ماهي؟ وكيف تنقذ حياتنا؟| #الصباح