الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حافة الزمن / قصة قصيرة

ابراهيم سبتي

2006 / 8 / 31
الادب والفن


بيت يعوم فوق أكوام النفايات تتناثر حوله بيوت متآكله.. سور عال تحيط به أشجار ورد مزهرة تنتصب أمام جدران عالية كالحة تردد نباح كلب متقطع في الليل.. حينما وضعت أول خطواتي على عتبته راودني شعور غريب.. غريب حد الخوف الذي استبد بي.. إنه ليس كباقي البيوت.. لا يشبهها بشيء.. عالم يلفه الغموض والرهبة.. كان جدي يقول إنه مسكون وما من شخص يقوى على دخوله خوفاً من لعنة الجنون أو الموت..
لا مكان لغير الخوف إذاً، سرت نحو الداخل تحت سقف ضيق طويل أتلفت في ظلمة حالكة أعوم فيها وأسقط. أتحسس الرطوبة العفنة، أنهض أواصل الرحلة وفي ذهني شيء واحد لا غير يجعلني اقبض عليه في خاطري كي لا يهرب فأرتد راجعاً، جئت من أجله لاكتشفه.. ذلك الأنين الذي يطنطن في رأسي اسمعه فتلتصق خطواتي بالجدار الرطب اصطدم به، ثم أخطو يقظاً في الدهليز أمتلك كل جسدي عدا الرعشة التي تغزو أطرافي كلما دنوت من الأنين الموحش في ليل البيت المقفر.. أنين مرتعش يتردد صداه من حولي.
لكني أحسست بأنني قد سمعته من قبل ليست مرة واحدة، بل بعدد حكايات جدي، عندما أسمعها متربصاً بكل كلمة تخرج من فمه مترنحة لتدخل جوف رأسي المتلهف، وأنا اختبئ خلف أسوار خوفي كي لا يراني هو ورفاقه الذين ينصتون لحكاياته بشغف عجيب، ولا أظنني كنت أفوت حرفاً من دائرة حواراتهم المملة تلك، فتخترق عيناي محيط الغرفة وتحدقان إلى ما وراءهما.. إلى حيث يقع ذلك البيت المسحور الذي يكمن في أعماق ذلك العجوز ورجاله أصحاب الوجوه المبهورة. كنت أراهم يغرقون في بحور من الصمت والحيرة عند كل كلمة يطلقها جدي، ولكني وقعت أسيراً لقلق وخوف أكثر منهم حينما قال جدي: إن ثمة شخصاً واحداً فقط يخرج من البيت صباحاً ويعود مخموراً بعد منتصف الليل، أشعث متهدل الكرش يلف حزاماً عريضاً في وسطه.. وعندما انصرفت الأجسام النحيفة من الحجرة تهمهم وتهز رؤوسها بقيت مسمراً في مكاني مختبئاً ارتجف من هول ما سمعت، فانتابني شعور قوي بأن ألج عالم ذلك البيت ذي الجدران العالية.. لا أثر فيه لأي ضوء في الليل فتأتي الظلمة حالكة تضفي على المكان برمته حالة من الرهبة تزداد كلما نبح الكلب الرابض خلف السور.. كنت كنقطة صغيرة اتحرك في فراغ هائل.. لا أرى شيئاً أبداً.. أدور في مكاني كاتماً ألمي، غارقاً في تأملاتي، أطلق ساقي للريح محاولاً إقناع نفسي بمحاولة أخرى، لكني أرجع واقفاً خائفاً مذهولاً وأسمع جدي يستغيث بصوت مرتعش- لا تتركوني وحدي.. لقد أتعبني التفكير - إني أسمع أنين تلك المرأة البائسة وأتخيل نظراتها الهاربة من البيت لتحط فوق رأسي محاولة إيقاظي من خوفي وصمتي وكأنها تقول:
إني أموت.. أموت. وأدركت أن جدي حاول ولم يقدر على اختراق مجاهيل ذلك البيت.. اصطفق الباب ورائي.. الدهاليز مظلمة تماماً، سرت داخل تجاويف الظلمة، الأنين المكتوم يقترب، دفعت باباً تحسسته أمامي.. كانت غرفة ذات ليل دائم.. ليل يتسرب إليها من كل الجهات، تحول الأنين صراخاً طويلاً مدوياً.. لم أكترث.. اقتربت.. أمسكت بطرفها.. حاولت الابتعاد عنها والهرب خوفاً من قدوم الرجل البدين المتهدل الكرش، لم أقدر، وشعرت بأن قوة ما أمسكت بي محاولة إقناعي بالبقاء رغماً عني.. خيل لي أنها انتفضت من مكانها وأحسست بأنها ستموت من هول المفاجأة، رحت أبحث عنها ثانية تحت أمواج الظلمة الهادرة، بكاؤها لم ينقطع.. أمسكت بشيء منها وأطلقت سيلاً من كلماتي الرحيمة الودودة، جلست وأجلستها عنوة، لم أر شيئاً منها، لكني تخيلتها كما وصفها جدي بحكاياته، كنت غارقاً في تأملاتي عندما انتابني شعور مفاجئ.. يا إلهي.. ليتني امتلكت عجلة الزمن فاستعيد كل طفولتي وأتذكر أن جدي أخبرني مرة بأن أمي ما زالت حية تعيش مع رجل اقتلعها من جذورها ورماها في قبر مغلق كي لا أراها، لينتقم من أبي الميت الذي استلبها منه في نزوة أسفرت عن حياة بائسة لا رحمة فيها.. امرأة ذابلة منزوية في ركن حجرتها، انثالت علي أفكاري وتيبست على وجهي المحتقن.. مرت لحظة صمت..
أشعلت عود ثقاب فشق الضوء المرتعش سيول الظلمة وراح وجهها يقترب مني ويدنو متوهجاً صافياً، فأمد ذراعي وأمسك بشعرها فيلتصق بصري بعينين ذابلتين، وأتكئ على جدار الغرفة الأسود أتذكر حكاية جدي وأبكي بحرقة..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة


.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا




.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم


.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا




.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07